قراءة تحليلية لنص الكاتب المبدع مختار أمين .. “المهدية” بقلم الناقد: محمود عودة
_____________________________________________
(النص)
المهديّة
قابلتها مرات قليلة، ولعبت معها صغيرا، وتحاورنا حوارات خاطفة عن الطبيعة وما وراء الطبيعة والوجود، الغريب أن كل مرة بعد حديثها يتوه عني الطريق إلى البيت وأضل..
هذه الساحرة التي تسحر أول ما تسحر.. تسحر قلمها، في الليل تأخذه حيث الجبال الشاهقة مستلقية على الرمال تغني، حتى القمر في هذه الليالي يخشى في هذا السكون أن يطلّ كاملا من عليائه يفشي سرهما..
بعد غناء طويل مبحوح، تلقّنه القصّة بهدوء ودلال لطفل فصيح، تدرك أنه وقت الجمع يبهرهم بفصاحته ولسانه الحلو..
ـ هيييه.. أكتب ما أمليك على جدار الغيب..
كانت فتاة مبهرة، تذهل الرجال في خصالهم، كما أن قديما الغلمان أقرانها حمدوا الله على أنها شبّت عن الطوق؛ فمنعت..
عاندت أباها في فترات القيلولة، من النافذة تحكي لهم قصّة الجان المؤنس الذي يتخفّى بين الناس، بإرادة كالحديد، وقوة تدهش البعض، وعينان عميقتان كالبحر، وموجات الغضب تدور في محجريها، كما القصر العتيق في طرف المدينة، في الليل يتصدّع، يصرخ كما الوحش، ثم ينهال كومة من تراب، في الصباح يراه الجميع ماثلا أمامهم ينظرون إليه الأطفال بعيون رعب الليل..
قطّ لم تمتنع عن اللعب مع الأولاد الذين يجتمعون تحت نافذتها تطل إليهم تحكي لهم الحكايات، هي تناور جميع من في الداخل والخارج حتى تفعل كل ما تريد بكل حريّة..
كثيرا ما لمح طيفها بعض أهل القرية على ضفة النهر تسير وحدها ليلا والناس نيام، تسير في خطى ثابتة عجلة، كأنها على موعد محتوم، وعند العودة بعض النظرات المرعوبة تنتظرها وتلاحقها.. بعد أن تابعتها وهي تخلع كل ملابسها كاملة وتهبط في النهر سابحة، وتلتف حولها الأسماك الكبيرة والدلفين يداعبنها وتداعبهم، وتطعم كل واحدة بثمة شيء تقطفه من فمها، ثم يتسابقون جميعا، وتسابقهم ولم يلحق بها أيّ منهم، يسبحون خلفها بشكل بيضاوي كبير، وعندما يبادر الفجر في اللّواح يختفون جميعا..
كان الأب يدرك، وبعض أولاد الأعمام والخالات ممن كان يرافقونها ويماثلونها في العمر، ويحفظون لها تاريخا طويلا في طفولتهم..
كان التفاهم والحديث بينها وبين أبيها أغلبه بالنظرات، عندما تتشابك العيون في حديث طويل عنيف به مدّ وجزر..
والأم كالعادة تولول على ضياع حظها معهما، تصرخ غالبا..
ـ البنت لابد لها أن تتزوّج.. مثلها مثل كل البنات.
ـ فلنؤجل الأمر حتى يأذن الله.
ـ الله لا يرضى بما تفعلانه.
عندما أطرقت له مستفسرة؛ حدّثها..
ـ كانت لي مغامرة مع الليل والبحر وحكاياتهما الخفيّة.. ذات يوم ضاجعته، أو ضاجعتها لا أدري وعندما وضعتك أخذتك لتلك العاقر.
خرجت في الليل ولم تعد، وقالوا أنها تعيش في القصر والبعض جزم بأنها كانت تأتي وترمي إلينا بعض قصصها المسلّية..
وأنا لم أجزم أنها ستأتي، أو سيأتي يوما!!.
القراءة التحليلية
عنوان النص وهو عتبته “المهدية” ويتبادر إلى ذهن المتلقي لأول وهلة من هي هذه المهدية والكل يعلم أن الهداية تأتي من الله سبحانه وتعالى “يهدي من يشاء ويضل من يشاء” وهنا تبدأ الإنزياحات على متن النص وبإسلوب الكاتب المراوغ تمكن من جذب المتلقي ليخوض في أمواج النص الهادرة ويجاهد بكل قوة حتى لا يغرق في أعماقه.
نقل الكاتب المتلقي من المهدية إلى الساحرة ويبدو هنا التناقض فلا يمكن أن تكون الساحرة مهدية، وهذه إحدى مراوغات الكاتب فنجده بعد وصف البطلة بالساحرة يقول أول ما تسحر قلمها، فيعجز عن الكتابة ولكنه يحلق في خيالها بوصف الطبيعة، الجبال والرمال بينما تغني شدواً تصمت له كل أطياف الكون الطبيعية حتى القمر يخشى الصمت الذي يلف غنائها فلم يطل من عليائه كاملاً.
ومن هذا المقطع نرى فتاة مثقفة وكاتبة مبدعة تعيش في مجتمع شرقي قروي أو مدني يرفض شكل الإبداع في المرأة وحريتها في التعبير عن مكنوناتها الأدبية والفكرية من خلال قصة أو رواية، تسردها للأطفال فتعلق في أذهانهم فيتحدثون بها كرواة وهو ما أشار إليه الكاتب بعبارة “اكتب ما أمليك على جدار الغيب” أي أن قصصها ورواياتها لم تكتب على ورق خوفاً من سقوطها في يد أحد المتزمتين فيصادرها كما صادر حريتها .
ويستمر الكاتب في وصف الفتاة، كانت مبهرة بذكائها مذهلة الرجال في خصالهم التي ترفض تفوق المرأة عليهم ، حتى الأطفال من أقرانها حمدوا الله أنها شبت بسرعة وبلغت قمة أنوثتها فمنعت من إكمال تعليمها ثم يدخلنا إلى أكثر صفات هذه الفتاة حساسية في مجتمعها، تعاند والدها وتنتهز وقت قيلولته لتطل من النافذة لتسرد قصصها ويسرح خيالها مع الجان المؤنس يتخفى بين الناس وتظهر على وجهها انفعالات متلازمة مع سردها فتثور موجات الغضب في مقلتيها وتصعد انفعالاتها إلى القمة حيث القصر العتيق في طرف المدينة فتراه يصرخ كما الوحش ثم ينهال كومة تراب، ولكونها مهدية ترى أنها سوف تسكن هذا القصر ولكن! وتستمر في تمردها وحديثها وقصصها وتناور كل من حولها داخل البيت أو خارجه وتفعل ما تريد بحرية.
هنا يبدأ الكاتب مخاتلته مع المتلقي ليصل إلى عقدة النص بانزياحته على مصير هذه الفتاة للتحول من إنسانة إلى جنية أو ملاك مهدية، فبعد أن سحرت الكل بذكائها وفطنتها وأذهلتهم بتمردها على العادات والتقاليد المقيتة والمقيدة لحريتها اختفت من القرية، ولكن طيفها لم يغادرها، فكان أهل القرية يلمحونها تسير ليلاً وحدها والناس نيام على ضفة النهر وتخلع ملابسها كاملة وتهبط في النهر سابحة فتحتفي بها الأسماك الكبيرة والدولفين فيداعبنها وتداعبهم وتتسابق معهم وتسبقهم جميعاً حتى يلوح الفجر فيختفي الجميع.
بعد أن عرفنا مصير هذه الفتاة رجع بنا الكاتب إلى حوار بالنظرات وحديث طويل عنيف بين المد والجزر مع والدها وأبناء عمها وخالاتها، مع ثورة الأم عليهم جميعاً وهي تصرخ البنت لا بد ان تتزوج مثل كل البنات، فيرد الجميع فليؤجل الأمر حتى يأذن الله وبهذه العبارة تلميح من الكاتب بما يضمرونه من شر لهذه الفتاة، وفي كرارة نفس كل منهم أن هذه البنت أكبر من أن تصلح بثقافتها وحريتها زوجة لأحدهم وقد فطنت الأم لمكرهم ولذا كانت ثورتها عليهم .
ويدرحرجنا الكاتب إلى الخاتمة.. عندما أطرقت؛ حدثها كانت لي مغامرة مع الليل والبحر وحكايتهما الخفية.. ذات يوم ضاجعته أو ضاجعها وعندما وضعتك أخذتك لتلك العاقر، هنا يتبادر إلى ذهن المتلقي سؤال: من هو هذا الشخص الماجن صاحب المغامرات والذي ضاجعها أو ضاجعته وعندما وضعتك أخذتك لتلك العاقر؟ لم يحدد لنا الكاتب علاقته بالفتاة، أهو والدها؟ وهنا سؤال آخر أهي ابنة سفاح؟ وأمها ليست امها التي ولدتها هذا ما يبدو لأول وهلة وبعد التعمق في النص تشعر بأنه شخص وهمي يعيش معها في مخيلتها، وهو الشخص الذي يعشعش في فكرها قلبه وتتمناه زوجاً لها يشد على يدها ويرفع عقيرتها وإلهامها إلى سلم المجد والحرية التي تبحث عنها.
بعد هذا يأتي بالحبكة التي تحدد مصير الفتاة التي خرجت في الليل ولم تعد وعاشت في القصر الذي روت عنه بخيالها مئات السنين، والبعض يجزم أنها كانت تأتي وترمي إلينا قصصها المسلية، ويتدخل الكاتب في الحبكة بقوله “وأنا لم أجزم بأنها ستأتي أو سيأتي يوماً”، هنا يتبادر إلى ذهن المتلقي كيف يشعر أهل القرية بعقدة الذنب التي تراودهم لما فعلوه بالفتاة بدلاً من الشد على يدها والوقوف إلى جانبها كزهرة منيرة في المجتمع ويتدخل الكاتب برأيه هنا بقوله أنها لن تأتي ولن يأتي وحيها، بل ستبقى ذكرى تنخر في عقول أهل القرية، مهدية كما الأولياء الصالحين.
وأرى الكاتب بهذا النص الرائع أراد التعبير عن الحالة التي عليها المرأة الآن وأن اليوم الذي تصبح متمكنة من حريتها وحرية قرارها أسوة بالرجال لم يأت بعد.
كل التحية للكاتب المبدع الأستاذ مختار أمين على هذا النص الرائع الذي أرهقني وأتمنى أن أكون سبرت غوره العميق وأن ينال استحسانه واستحسان جمهوره العريض.