برنامج (نص ورؤية): رؤية انطباعية في القصة القصيرة (الصفقة) للكاتب بشير حمد. بقلم الأديبة ريتا الحكيم.


القصة القصيرة: الصّفقة/ بشير حمد 
  زحف نحو النّافذة واستند بكلتا يديه على حافّتها وبعد جهدٍ رفع جذعه الأعلى ليستقرّ على كرسيّه أطلّ برأسه على السّاحة الّتي تتحلّق حولها البيوت كما تحيط إسوارةٌ بمعصم.
  شعر بانقباضٍ في صدره فمدّ رأسه وفتح فمه بحثاً عن نسمة هواءٍ في هذه اللّيلة القائظة
لا يفصله عن السّاحة سوى هذا الشّريط الصّدئ وماسورتان من الحديد تنتصبان أمامه تستعملان كحمايةٍ للنّافذة من الخارج.
كانت السّاحة ملعب صباه ولكنّها لم تعد كذلك الآن ذلك زمانٌ ولّى ولن يعود.
وحدها ذكرى الصّفقة الأولى تعود كلّما حاول نسيانها.
اجتمع الأولاد في السّاحة للّعب كما يفعلون كلّ يوم بينهم ذلك الولد الخبيث نزار نظر إليّ بعينين ماكرتين وقال: أتحملني من هنا إلى باب بيتنا وأعطيك قرشاً! وضرب رجله بالأرض وهو يقول ثانيةً: من هنا فانتبه الأولاد للجزمة الجديدة الّتي كان يحتذيها.
لا أعرف بالضّبط لماذا خصّني بهذه الصّفقة.
أ لأنّني كنت قويّ الجسم؟
أ لأنّني كنت فقيراً؟
  لمعت صورة القرش الّذي كان نزار يقلّبه بين أصابع يده في عينيّ…..
قرش يعني أن تشتري الحلوى اللّذيذة الّتي تشتهيها دوماً… أن تملأ جيوبك بالفستق الحلبيّ المملّح من دكّان أبي خليل لقد فتحت صورته ثقوباً في مخيّلتي يصعب ردمها.
لم يطل الصّمت طويلاً فعيون الأولاد تترقّب الجواب انتابني شعورٌ بالكراهية لهذا الوغد فصعد الدّم إلى رأسي كنت أرغب أن أرفسه كما يرفس بغل صاحبه بعد طول امتهان ولكنّ صورة القرش غلبتني فانتزعته من يده وأدرت ظهري وحنيته قليلاً: مددت رأسي إلى الأمام قفز نزارٌ فوقه وغرز أظافره الطّويلة في رقبي وسرت به نحو بيتهم وسط تصفيق الأولاد.
  شعر وكأنّ الأظافر ما زالت مغروسة هنا في رقبته إنّها كالوشم لن تفارقه أبدا.
  تلك أيام مضت وهذه هي الساحة الآن ملعبٌ للجرذان التي تتقافز فوق مستوعبات القمامة المركونة أمام البيوت، وعمد النور الذي يلقي ضوءه الأحمر على الساحة ما زال منتصباً مَكانه إنه الشاهد الوحيد على ما حدث قبل ثلاثين عاما.
  كبرت وكبر الأولاد وتفرقنا ولم أعد أرى نزاراً فقد رحل مع أسرته إلى بيتهم الجديد خارج الحارة كما عرفت فيما بعد. وقد كانت فرصتي لنسيان تفاصيل تلك الصفقة. حتى جاء يوم انفتح باب البيت كان الشرطي واقفا يحمل أوراقا وخلفه رجل يبدو عليه الوقار يلبس بدلة أنيقة وربطة عنق ملونة، استقبلهما أبي لم افهم تفاصيل الحديث ولكنّ أبي اصطحبني في اليوم التالي خارج الحارة جلست أمام الكاميرا وكانت رقبتي الطويلة أبرز شيء فيها ابتسم المصور ابتسامة بلهاء وهو يقلب عينيه بيني وبين الصورة، كانت مجانية التعليم تفرض على أبي أن يدخلني المدرسة، سنة واحدة في المدرسة في اليوم الأخير.
  المعلم: سهيل تعال اقترب، اخفض رأسك.
  امتثلت لما قال فكرر قائلا مُدّ رقبتك أكثر.
  وعندما صارت مستوية أمام عينيه ناولني صفعتة وقال وهو يناولني الشهادة : حمار، في طريق العودة كان صدى الصفعة يرنُّ في أذني.
في البيت قذف أبي بقطعة الكرتون التي يسمونها شهادة ناولني صفعة جديدة وقال بحزم: من الغد تذهب للعمل في الطاحونة إنهم بحاجة لمن يساعد في إدخال أشولة الحبوب من على ظهور الحمير والبغال إلى المطحنة، نظر إليّ وركز نظره في رقبتي فقال وقد زال عنه الغضب: هذا عمل يناسبك، كنت في المطحنة ملايين ملايين حبات القمح تنزل في الوعاء المعدني الذي يشبه محقانا كبيراً وتخرج طحيناً ليناً.
لم يكن باستطاعته رفع ظهره أكثر فشبك أصابعه وأراح ذقنه عليها وعيناه نصف مغمضتين بجانب النافذة ربط عربته التي يبيع عليها بسلسلة حديدية مع كرسي الخيزوان لقد صنع جوانبها من بقايا اللافتات الخشبية وألبسها من قماش كانت تحمل شعارات وطنية في ذلك اليوم خرجنا لمحطة القطار كان الوقت باكراً.
كانت هناك مسيرة تضامنية لا أذكر مع من!
وعندما وصلنا المدينة تجمعنا وزع علينا المشرفون اللافتات وقف أحدهم ينظر إلينا
َ- ما اسمك يارفيق؟
كانت كلمة رفيق جديدة ولها وقع في أذني.
– سهيل
وضع يده برفق علي كتفي.
– استدر .
فاستدرت
قال حسنا وجاء بشاب رقيق وقال:
– أنت ستحمله علي رقبتك وهو سيحمل اللافتة وستهتفان معا أردت أن أرفض َلكنني خفت ولم أستطع تفسير خوفي.
تقوّس ظهري أكثر ولم أعد أستطيع رفع رأسي فصرت أسير كمن يبحث عن شيء أضاعه في الأرض ولا يجده.
تركت العمل بالمطحنة بعد أن أغلقت فقد دخلت المطحنة الحديثة وصار الناس يحصلون على الخبز من الأفران، طرقت أبواب الرفاق للحصول على وظيفة وقفت أمام الرفيق أبي عماد
اسمك؟
سهيل
ألأب؟
عبد ربه
الأم؟
مستورة
سنة الميلاد؟
   1963 –
كتب المعلومات علي ورقة رفع سماعة الهاتف تحدث وضحك كثيراً أعاد قراءة البيانات ووضع السماعة وقال:
– غدا تقدم أوراقك لمديرية التربية لتباشر عملك كمستخدم في المدرسة القريبة من بيتك
بدأت بشائر الصباح تطلع على الساحة وهاهو سعال أبي نضال يتعالى مع أول سيجارة يدخنها على الريق وهو ذاهب إلى سوق العتالين، عند السابعة سينسل الأولاد من البيوت حاملين حقائبهم للمدرسة،.
شعر بأن رأسه خفيف عنده رغبة بالطيران سنوات وهذه الأرض تشده إليها كأنه مربوط إليها بسلاسل حديدية لا تختلف عن السلاسل التي تريط عربته المركونة بجانب النافذة، كانت نافذة البيت مفتوحة على الغرب ويحتاج لوقت طويل حتى تصله الشمس ليدفئ عظامه المتخشبة.

(الرؤيـة)
العنوان: (الصفقة).
  يحمل في طياته تأويلات عديدة وتخمينات من قِبل القارئ.. هل هي صفقة مالية؟ هل هي صفقة زواج؟ هل هي صفقة تبادل ممتلكات؟
جميل أن يوحي العنوان بأكثر من احتمال للقارئ الذي لا بد أنه سيتشوق لمعرفة ماهيتها وبنودها.
  من خلال قراءة النص أجد أن هذه الصفقة كانت تنازلا ما لبث أن تكرر على كافة الأصعدة في حياة البطل.. لكن علينا أن نبحث عن أسباب قبول الصفقة الأولى التي تتالت بعدها الصفقات وأودت بالبطل في ظروف أشد قسوة من التي عانى منها والتي دفعته لقبولها في المرة الأولى.. إنه الفقر وسلطة الغني على الفقير التي تؤدي في كثير من الأحيان إلى فقدان أجزاء من كرامته لا لشيء إلا لأنه محتاج.
  بقيت هذه الصفقة محفورة في ذهن البطل لأنه اعتبرها وصمة لا يحسد نفسه عليها ويعود إليها كلما خنقته الظروف وأثقلت عليه.. حتى حين أراد أن يبيض تلك الصفحة بخروجه في تلك المظاهرة كان عليه أن يحمل شخصا آخر ليهتف بين الجموع.. وهذا الخوف مردَّه صحوة أيقظت فيه الإحساس بالغبن..
  أعتقد أنه كان لديه رغبة ملحة بتغيير مسار حياته والحنين إلى حقبة لم يستطع توظيفها في حينها لتعينه في وضع حجر الأساس لهذا التغيير الذي كان ينشده.. موت الأحلام هو موت سريري عايشه طوال حياته وحتى آخر نفس في صدره.
السرد ممتع جدا.. تحياتي لكاتب النص الأستاذ بشير حمد.

أضف تعليق