الإيقاع الشعري في قصيدة النثر. بقلم: فالح الكيلاني/ العراق.


  الإيقاع هو تلك النغمة المنبعثة من خلال تناغم الأحرف مع بعضها أثناء النطق أو من خلال أي صوت يحدث جراء فعل أو عمل معين سواء أكان هذا الصوت طبيعيا كصوت هدير الماء أو تغريد بلبل او صناعيا كإلقاء قصيدة شعرية او خطبة أو فرقعة انفجار وما إليها.

  فالإيقاع هو حالة تنظيمية للتنبيهات الواقعة بين سكونين أو حالتين هما سكون البدء أو سكون الابتداء و سكون النهاية عندما ينتهي الفعل.
  والشعر ما هو لا فعل فاعل وهو الشاعر. إذن فهو متكون من نغم وإيقاع من خلال تناغم الأحرف التي يستخدمها الشاعر ومقدرته على إيجاد إيقاعية نغمية بين حرف وآخر من خلال مخارج الحروف من الحلق وبنائها بناءا تثبيتيا في إيقاعية فاعلة ومؤثرة في نفس المتلقي واختيار هذا الحرف أو ذاك بحيث يكون نغمة ذات صدى في نفسية المتلقي أو السامع ومن هنا تظهر موهبة ومقدرة الشاعر على ايجاد هذا النوع من الايقاع او ذاك تبعا لما يستوطن في حسه من إيقاعات وامكا نيته في تحريكها نحو الأفضل .
  والإيقاع إذن هو حركة الكلام في النطق أو الكتابة حيث يكون على أشده في القصيدة الشعرية سواءً في قصيدة النثر أم العمودية أو قصيدة التفعيلة.
  ونستطيع أن نمثل الكتابة الشعرية بالرقص الفني إذا ما قارناه بالكتابة النثرية من حيث رصد الحركة في كلتا الحالتين لكنهما متغايران نتيجة للفرق الموجود بينهما فالايقاع المتكون أو النغم الموسيقي لقصيدة العمود الشعري هو الإدراك المنبعث من إدراك الاذن الموسيقية المتاتية من النظام الصوتي للحروف والمنتظم في حالة تعارف عليها الشاعر والمتلقي من خلال إيجاد الشاعر الإيقاع الأفضل في حركة الحرف الواحد مع مثيله الحرف الآخر لينشئ نغما معينا وهو ما تعارف عليه بالبحور الشعرية وهي البحور التي تم وضعها أو بحثها أو دراستها من قبل الخليل بن أحمد الفراهيدي- حيث أنها كانت موجودة قبله شفاها – مع القافية التي يجب الالتزام بها من قبل الشاعر, والتي تضيف إلى البحور إيقاعا صوتياً إضافيا وتناغما شعريا تتاثر به الأذن السامعة والنفس الإنسانية تبعا لمقدرتها وإمكانيتها على الفهم والتاثر. وهو أيضا إيقاعات استنتاجية أوجدها الفراهيدي في القصائد الشعرية التي قالها الشعراء قبله .
  إن الإيقاعات الصوتية السمعية جاءت كضرورة من الضرورات الشعرية آن ذاك، وتم التركيز فيها على الإيقاع السمعي و ذلك لسهولة الإدراك السمعي للإيقاع إذ أن الإيقاع السمعي لا يحتاج إلى عمليات فكرية كبيرة فهو يدخل في أذن ونفس المتلقي أو السامع بيسر وسهولة تبعا لقدرته على السماع والإدراك الشعري. أو ربما ياتي هذا الإيقاع من خلال التغيرات أو الانكسارات الصوتية الكثيرة في حالة من التوتر التي تحملها القصيدة ومن خلال الصياغة اللغوية والصور البلاغية والبيانية والجماليات المتواجدة في القصيدة الشعرية أو ربما يأتي من خلال تنضيد البيت الشعري كتابة إلى شطرين متساويين في الوزن والقافية أو في أحدهما.
  وفي قصيدة التفعيلة لا نرى خلافا في كل ما جاء في قصيدة العمود الشعري من حيث الوزن حيث ان هذه القصيدة – الشعرالحر – نابعة من مضاربة في عدد من البحور الشعرية الفراهيدية وهي سبعة بحور أو ثمانية ونسميها بالبحور الصافية لصفاء تفعليتها فهي تاتي على وزن الكامل (متفاعلن –متفاعلن- متفاعلن) أو على وزن الهزج (مفاعيلن – مفاعيلن – مفاعيلن) وهكذا اي تتكون من تفعيلة واحدة قابلة للتكرار مع سماحية أوسع في العلل الوزنية المعروفة تأتي بمساحة أوسع من قصيدة العمود أو بمعنى آخر أن قصيدة العمود أكثر التزاما بالبحرالشعري من قصيدة الشعر الحر. ومع هذا فإن بحور شعر العمود ستة عشر بحرا بينما في الشعر الحر ثمانية أو سبعة إذا استثنينا منها متدارك الأخفش .
  فالإيقاع الشعري الموجود في هذه موجود في تلك إلا إنها اختلفت عنها بالقافية والتزام حرف الروي وهو الحرف الاخير من عجز البيت أو هو القافية بعينها فتاتي في العمود متناغمة متسقة بينما في قصيدة التفعلية مختلفة باختلاف نهايتها وحسب مزاجية الشاعر.
  أما في قصيدة النثر فتمثل الحرية المطلقة للشاعر في انتقاء الكلمات أو العبارات المتجانسة لقصيدته وهنا تصطدم حالة الانتظام الموجود في قصيدة العمود أو قصيدة الشعر الحر بالإيقاع الموجود في قصيدة النثر أو لربما يصل إلى حالة الانعدام فقصيدة النثر قد حطمت كل قوانين الشعر من وزن وقافية وبحر بحيث ما يجري في قصيدة النثر يعد هدما لأسس وقواعد قصيدة العمود أو هكذا . لاحظ معي قصيدة (الأرجوحة) للشاعر العراقي عبد الأمير خليل يقول فيها:
‌‏ظِلاّنا يَقْتربانِ مِنَ العَتَبة
‏هذا يَتَخَلَّقُ في نَهْر العُمْرِ ….
‏خَفِياً
‏وَالآخرُ يَفْتَضُّ تُخُومَ الوَقْتِ ….
‏وَيَمْضِي
‏يَتَوزَّعُ في فاتَحةِ الخِصْبِ …. فُصُولاً
‏مِنْ خُبزٍ وَدماء
‏هذا ظِلُّك …. أمْ ظِلّي …..
‏أَمْ نَصلُ قَتيلْ
‏يَقْذفُني كالأُرْجُوحةِ في الحَلَبة
‏وَيَلُمُّ بقايايَ حُقولاً مِنْ شِعْرٍ
وَرُواءْ
‏يَعْبُرُ بي شطآنَ الوَحْشَةِ والريح ….
‏أَرَى
‏صَمْتي وَشَظَايا جُمْجُمَتي
‏قِنْدِيلاً يَتَهَجّى ‏نَبضَ الطُرُقاتِ
( ‌‏أَنا القِنْديلُ وَفي دَمْعي يَتَوضَّأُ
الليلْ )
‏وَأنا الطِفلُ انَزلقتْ مِنْ عَينيهِ
‏خُيُولُ الكَلِماتْ
‏هذا رَمْلُكَ يَسْتَسْقي نايَ مَواجِعنا
يَسْتنزلُ مِيراثَ الوحْشَةِ ….
‏مِنْ ظَمَأ
‏يَهْبِطُ …. هذا الساحِلَ ….
‏وذاكَ الساحِلَ
‏لا شيءَ سِوى رَجْعِ الذئبِ
‏وَدَيْجُورِ اللُّغَةِ الصَفْراء
‏ما كُنْتُ أُخَلِّيكَ نَجِيَّ غَدِي
‏وَبِعُودي ‏تَتَفتَّقُ سَبْعةُ أَقْمارٍ
‏في سَبْعِ لَيالِ
‏لا فَرْقَ …. فَكُلُّ العالَمِ …. ظَلْماءُ
في ظَلْماء.
  والإيقاع في قصيدة النثر قد يعتمد على البنية الصوتية للحروف كما في قصيدة الوزن، لكن ليس بترتيبية الخليل أو الأوزان العروضية، إنما من خلال مبادئ خاصة بها من أهمها مثلا التكرار المقطعي في ترتيبة صوتية معينة ضمن المقطع الشعري الواحد أو التكرار اللفظي لبعض الكلمات تلك التي يرغب الشاعر إعطاءها الأهمية في الإظهار وغيرها من الأساليب التي ربما قد يتبعها بعض شعراء الحداثة لاستحداث نوع من روحية غنائية جديدة وتمثل ايقاعية معينة وهي بحد ذاتها غير ضرورية لبناء قصيدة النثر وعليه فالإيقاع الظاهر لا يأخذ الأهمية هنا كما في شعر العمود أو قصيدة التفعلية.
  إن الطبيعة البشرية وجدت منذ الأزل وهي في عراك مستمر مع الفضاء الخارجي وسلطته الواسعة عليه لذا فقد ابتدع الإنسان صيغا كثيرة للتخلص من تلك الحالة أو السلطة من خلال إيجاده سبلا جديدة يطمح إليها الانسان وهذه تختلف من إنسان لآخر ومن بلد لاخر تبعا للتطور العام وقد نسمي هذا الانفلات من هذه الروابط الكثيرة بالحرية فهي أشبه بالحلم الكبير الذي ما زال الإنسان يبحث له عن معنى حقيقي لذا نجد ها في صفحات التاريخ تمثل الحلم الذي يراود الإنسان في إطار التخلص من سلطة الطبيعة المدركة على أنها تلك الجاذبية التي تربطه بتلك السلطة الطبيعية..
  والإنسان منذ ان خلق في دأب مستمر لإبراز ما عنده من نوازع وأفكار وأمور ويعتبر الأدب أحد أهم الوسائل لذا فإن قصيدة النثر هي آخر ما توصل إليها الفكر الإبداعي  والعربي خاصة من خلال التمازج الثقافي مع المجتمعات الأخرى وكأسلوب يحمل في طياته نتاجا ً فكرياً بشرياً من خلال استناده إلى التقنيات الفنية ويتبلور من خلال مساحة الحرية المتاحة لها والتي تمتلكها هذه القصيدة بالقياس إلى ما تمتلكه قصيدة العمود الشعري أو قصيدة الشعر الحر كان لا بد لها أن تبرز هذا التناقض وتوحده ضمن وحدة القصيدة في صورها الشعرية ومن خلال صياغتها اللغوية.
  فالإيقاع فيها مطلقا تام الحرية في اختيار الشاعر ما يريد حتى أن بعض الشعراء – وهذا ما لا أقره – اعتمد أسلوب الإبهام والتناقض في إيجاد نوعية شعرية رمزية غير مفهومة عند المتلقي وإن سالت عنها قيل (المعنى في قلب الشاعر) فهي إذن تتكافأ مع رمزية القصيدة العمودية من حيث النزعات الشعرية والاختلاجات النفسية إلا أنها أوسع حرية في انتقاء الأسلوب وقد تضيع بين الإيضاح والإبهام والغموض الواسع وربما ستظهر كأنها مستجدية للإيقاع الشعري استجداءا بخلاف قصيدة العمود التي يظهر فيها الإيقاع شامخا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(لاحظ كتابي – دراسات في الشعرالمعاصر وقصيدة النثر) طبع دار دجلة – عمان – الأردن.
أمير البيــــــــــــــان العربي
د. فالح نصيف الحجية والكيلاني
العراق – ديالى – بلدروز

أضف تعليق