الحدث في القصَّة القصيرة والقصَّة القصيرة جدًّا.. بقلم: د.عبد المجيد المحمود/ سوريا


الحدث في القصَّة القصيرة والقصَّة القصيرة جدًّا:

يرى كتَّابُ القصة القصيرة أنه لا قصة بدون حدث، فالحدث عنصرٌ مميزٌ لها، و ركنٌ أساسيٌّ تبنى عليه، كذلك الأمر بالنسبة للقصة القصيرة جدا فإنَّه لا يمكن تخيل قصة بدون حدث، فما هي السمات التي يتميز بها الحدث في كلا النمطين(القصة القصيرة و القصيرة جدا)؟
وهل هذه السمات متشابهة و أين تلتقي و أين تفترق؟
سأتناول الموضوع بطريقة تختلف قليلا عن التناول الأكاديمي و بحيث يكون أقرب للفهم والتناول من قبل الجميع… سأحاول اختصار الموضوع في نقاط منظمة حتى يسهل التعاطي مع الموضوع:
1ـ للحدث زمانٌ يبدأ و ينتهي به…فنراه في القصة القصيرة زمنٌ مطَّاطٌ قليلًا قد يستمر من عدة ساعاتٍ إلى عدة أيام، وقد يتم أحيانا تحديد تلك الفترة من الزمن حين تتداخل القصة مع أحداث تاريخية معينة في حين أنه في القصة القصيرة جدًّا يكون زمن الحدث قصيرًا جدًّا، لأن السرد يعتمد آلية الوميض أو الفلاش التي تحتمل إطالة الوقت أو تمطيطه فيفقد بذلك النص قيمته المبتغاة من حيث التكثيف والتركيز و إحداث القفلة الصادمة السريعة، والزمن هنا غالبًا لا يمكن أن نربطه بفترة تاريخية معينة لأنَّ أغلب النصوص هنا مجرَّدة عن التحديد في الزمن من حيث لحظة الوقوع و الحدوث، ويكاد يكون عنصر الزمن في الققج بمثابة العدَّاد الذي يسابق الثواني للوصول للقفلة.
2ـ للحدث في القصة القصيرة مكان تجري فيه الوقائع… ومن المهم في السرد أن نوضح مزايا وخصائص تلك الأمكنة لأنَّ لها تعالقات وتشابكات مع شخوص النص و هناك ارتباط بين أفعالهم وبين ذلك المكان، في حين أنَّه في الققج لا يلعب المكان إلَّا دورًا ضئيلًا جدًّا وفي القليل من النصوص، لأنَّ الحدث هنا هو عبارة عن فكرة أو صفة أو فعل أو سمة أو جانب واحد من شخصية مجرَّدة، لا ترتبط بمكان معين، لذلك من النادر جدًّا هنا أن يتم ذكر اسم مكان ما، لأنَّ المكان حتى يكون له تأثير و فاعلية حاضرة في السرد فإنه يستدعي بعض التفاصيل أو الوصف المختزل على الأقل، وهذا لا يحتمله زمن الققج، ولا التكثيف و الإضمار والإيحاء أو حتى الترميز، فهيمنة قصر الزمن وقصر النص على الحدث يكاد يلغي دور المكان في الققج.
3ـ للحدث في القصة القصيرة شخصيات واضحة متعددة قد تدور في فلك الشخصية المحورية في النص وقد تكون على البعد ذاته والأهمية نفسها من عقدة النص وفكرته، وهذه الشخصيات تستدعي بعض التحليل و التركيب البسيط لها، كما تستدعي في أغلب الأحيان اللجوء لإظهار صفاتها الجسدية والنفسية والحديث عن مظهرها الخارجي لما لذلك من أهمية في حبكة النص و عقدته، أما في الققج فإن النصوص غالبا ما تقدم شخصيةً واحدةً وربما حتى جانبًا واحدا من تلك الشخصية دون التوغل في إيضاح وتفصيل صفاتها الفيزيائية والنفسية والخارجية، لأنَّ ذلك لا يتناسب مع السرد الوجيز في الققج… فالشخصية هنا شخصية مجردة قد تقدِّم فعلًا مستقلًّا لكنَّها في أغلب الأحيان هي شخصية نمطية ترمز إلى نمط معين من البشر يتشابهون في الأفكار التي يحملونها والظروف التي يعانونها.
4ـ للحدث في القصة القصيرة جدًّا حبكة أو عقدة هي مربط النص وعليها تقوم القصة و الفكرة وهذه العقدة يتم تأزمُّها بشكل تدريجي في القصة القصيرة وذلك حسب طريقة السرد المعتمدة في عرض الأحداث، وتتشابه الققج هنا مع القصة القصيرة من حيث وجود الحبكة أو العقدة لكنها لا تعرض بنفس الطريقة كما في القصة القصيرة، فالحبكة في القصة القصيرة تستدعي المرور بالكثير من الأحداث و المقدمات للوصول إليها، في حين أنها في الققج غالبا ما تتمثل بالعبارة قبل الأخيرة والسابقة للقفلة، وقد يكون إيراد مثال ما عن الحبكة في الققج أسهل لنفهم الكلام السابق… كما في النص التالي:
رَقَاعةٌ
عندما قالَ لمن يشاركونَه الرُّقعةَ: كِشْ ملك… نظرَ تحتَ قدميهِ لأولِّ مرَّةٍ…
رأى الملوكَ ترتعُ في كلِّ رِقَاعِه…
وتقولُ له: كِشْ بيدق.
رقاعة: بمعنى صفاقة.
حيثُ نلاحظ في هذا النص أن الحبكة تمثَّلت بوجود الكثير من الملوك يشاركون الملك الأساسي للبلاد في حكم بلده (وهي الجملة ما قبل الخيرة في النص)، و هو أي الملك أو الحاكم لم يدرك ذلك إلا بعد أن أمعن النظر جيدا فيما يدور في بلده من أحداث، وهذه العقدة التي تتطلب حلًّا جاءت القفلة الصادمة بعدها مباشرةً لتعلن أنه في الحقيقة لم يعد لذلك الحاكم أي مكان لحكم هذه البلاد، لأنه كان مجرد جندي ضئيل (بيدق) في يد أولئك الذي استطاعوا من خلاله النفوذ إلى حكم واستعمار بلاده.
5ـ للحدث طرائق للسرد تختلف في القصة القصيرة عنها في الققج، حيث غالبا ما تعتمد الأولى على ثلاثة طرق في سرد الأحداث هي (التقليدية: تصاعد الأحداث تدريجيا للوصول للذروة أو العقدة، ثم الانزلاق باتجاه الحل… الطريقة الحديثة و هي التي تبدأ من لحظة العقدة أو التأزم، ثم يبدأ الكاتب باستعادة الأحداث الماضية ثم يقدم باقي الأحداث من خلال ما يتطور بعد لحظة التأزم… طريقة الخطف خلفا: تبدأ من نهاية القصة ثم يعود الكاتب للخلف ليعرض الأحداث منذ بدايتها مع ترقيها باتجاه الخاتمة أو الحل)… أما الققج فإنَّها غالبا تبدو خبرية المظهر بسبب طريقة السرد التي يتطلبها هذا الفن، لذلك وللتغلب على هذا المظهر الخبري فإن الكتاب يلجؤون لاستخدام التلاعب بالكلمات والتعابير فيقدمون ويؤخرون ولا يكتبون بطريقة الخبر التي تقوم على تقديم الفعل على الفاعل ثم يأتي الفاعل والمفعول به، فقد يبدأ الكاتب نصه بضمير أو بالفاعل أو بظرف أو بجملة اسمية كل ذلك لتجنب المظهر الخبري للققج، وإن طريقة السرد هذه هي أكثر المداخل التي يعيبها نقَّاد الققج ممن لا يتشجعون لها بل ولا يعترفون بها كفن قصصي مستقل بل يصنفونها تحت الخبر، وبالمقابل هي نقطة ينطلق منها من يشجع هذا الفن، لأنه يجد إمكانية إدراج الكثير من النصوص الفلسفية و الشعرية تحت هذا الجنس مختطِّين لأنفسهم دربًا مستقلًّا في تقعيد وتأطير هذا الفن… وهذه نقطة نقاش يطول شرحها.
6ـ للحدث عنصر مهم وهو التشويق، وهو موجود في كلا الفنين ـ القصة القصيرة والققج ـ وتستغرق مرحلة التشويق في القصة القصيرة فترة طويلة من السرد والالتفاف على القارئ في حين يكون التشويق أكثر حرارةً وسرعةً في الققج، خاصةً بالإتيان بتلك القفلة التي تتوافر فيها عناصر الدهشة والصدمة، وأنجح القصص القصيرة جدًّا هي تلك التي تتحصل على أكبر مفارقة وإضمار لتأتي تلك القفلة المدهشة وتزيد عنصر الإبهار والتشويق، أما القصص القصيرة فإنّ لغة الكاتب وطريقة السرد هي التي تجذب المتلقي لقراءة النص رغم أنه غالبًا ما ينجحُ توقعُه لما سيحصل في نهاية النص على عكس الققج التي تكاد نصوصها تكون باهتة إن لم تحقق درجة مفارقة عالية و قفلة مباغتة صادمة.
7ـ للحدث القصصي طريقة عرض أو نسيج قصصي تُعرض من خلاله الأحداث وهذا النسيج يتمثل بالسرد والوصف والحوار، والسرد هو الذي يمثل طريقة تقديم الحدث وارتباط الأحداث وتتاليها، فيما الوصف هو ما يقدم السمات الخارجية و الداخلية للزمان والمكان والشخصيات، وهما أي السرد والوصف أساسان مهمان من أسس القصة القصيرة، بينما يمثل السرد أيضا أساسًا هامًّا للققج لكنَّه يختلف عنه في القصة القصيرة بأنه سرد وجيز قصير، لا يحتمل الإطالة والتمطيط، أما الوصف فهو يتعارض بشكل جلي مع طبيعة الققج، لأنَّ السرد الوجيز لا يحتمل الوصف خاصة الإطناب في الوصف، فنص الققج قد يحتمل بعض الجمل الوصفية التي تمثل جزءًا مهمًّا من النسيج القصصي فقط، ولكننا في العموم نحاول عند كتابة الققج تجنب الوصف الذي يقتل عناصر كثيرة في الققج مثل التكثيف والتركيز والإضمار والمفارقة، وذلك من خلال الاعتماد على فعلية الجملة القصصية.
أما فيما يتعلق بالحوار فإنَّه قد يخدم كلا النمطين في القصة… و لكن يجب أن يكون الحوار جزءًا من السرد وليس دخيلًا عليه…. يجب أن يكون وسيلةً لعرض الحدث لا غايةً له… ومن المنطقي الابتعاد عن الأحاديث الطويلة، وتجنب النفس الفلسفي المغرق في الغموض لأنه يحول نص القصة عندئذٍ بكلا نمطيها إلى جزء من حوار فلسفي غامض يجعل الحدث باهتًا أو يجعله كمقطع من مسرحية…و الحوار بشكل عام يخدم النمطين لكنه أكثر جدوىً في القصة القصيرة لأنه يخفف من رتابة السرد، كما أنه يجعل النص أقرب إلى الواقع و في هذه النقطة بالذات يرى البعض أن الحوار قد يخفف من تألق الققج لأنه يعطيها بعدًا واحدًا لأنَّ الحوار يفضي بالنهاية إلى سؤال و جواب و غالبًا تكون الإجابة مفردة لا متعدِّدة فتفقد الققج عندها خاصية انقتاح التأويل التي تعتبر من الخواص المميزة للققج…(قد يكون هناك منشور خاص فيما يتعلق بالحوار و أهميته و كيف يمكن الاستفادة منه في نصوص الققج بشكل كبير).
8ـ أهم أساس للحدث القصصي هو الفكرة التي عليها يقوم الحدث و يبنى السرد و من أجلها توضع الحبكة و النهاية و القفلة… و غالبا ما تكون فكرة النص في القصة القصيرة فكرة عامة واحدة لكنها تكون مكونة من أفكار ثانوية تساهم في بناء النص و إكماله و تتأتى تلك الأفكار لنصوص القصة القصيرة من خلال تعدد الشخصيات والأمكنة و الأزمنة ومن خلال تعقد الأحداث وتأزمها، في حين أنه في الققج تكون الفكرة غالبا فكرة واحدة لا تستعين بأفكار ثانوية لإتمام النص بل إن تعدد الأفكار ربما يسيء للنص و يجعله يميل باتجاه القصة القصيرة… ورغم تعدد أفكار القصة القصيرة إلا أنها مع نهاية النص تصل مبتغاها وتتوقف عنده وينتهي التفاعل العقلي من قبل المتلقي معها، فيما تتميز الفكرة الواحدة التي يعرضها نص الققج بأنها فكرة ولاَّدة قد تحرض لدى القارئ الكثير من الأفكار التشاركية التي تغني النص وترقى به.
تلك هي تقريبًا أغلب نقاط الاشتراك والاختلاف بالنسبة للحدث ما بين القصة القصيرة والقصيرة جدًّا… و لكلٍّ فيما يعشق مذاهب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#د.عبد#المجيد المحمود#

فكرة واحدة بشأن "الحدث في القصَّة القصيرة والقصَّة القصيرة جدًّا.. بقلم: د.عبد المجيد المحمود/ سوريا"

أضف تعليق