أرشيف التصنيف: قراءة تحليلية

فاطمة عبد الله: “بين وجدانية الأنثى وفنية القصيدة النثرية” في قراءة تحليلية لقصيدة الشاعرة اللبنانية المغتربة لبنى شرارة بزي (حين ألقاك).

بين وجدانية الأنثى وفنية القصيدة النثرية
  لقصيدة النثر حضور قوي في الساحة الشعرية العربية، وهي وجه من وجوه هذا الحاضر، وتمثيلا للحياة اليومية، بتفصيلاتها وتنوع موضوعاتها، فهذا النوع من السرد المتسارع تركض فيه اللحظة مشحونة بالأحداث والصور والتعبيرات، تبوح وترمز، تقابل وتفارق، حرّة وصارمة، منظمة وفوضوية مدمرة، لذا تحتاج النثر قارئا، كونها لا تكشف صوتا ولا تفضح دلالة، بل تراهن على من يقرأ سطورها في تحد موقظا ذخائر قراراته.
  ووفق هذا نجد أن قصيدة النثر ملائمة للكتابة النسوية، حيث عوالمها الأثيرية وأشياؤها الثمينة، وأحلامها كبيرها وصغيرها، وخيالاتها وتشظياتها ورؤاها الرومانسية. فاحتضنت المرأة قصيدة النثر واحتوتها القصيدة بمعياريتها الفنية المفتوحة تكتب كل منهما الأخرى.
  لدينا هنا قصيدة للشاعرة اللبنانية المغتربة (لبنى شرارة بزي) حين ألقاك.. وهذه القصيدة تخفي بين جنباتها ذخيرة فنية غائرة، سأتناولها بالتحليل والقراءة، وأرجو أن أكون وفقت في إنجاز فعل القراءة والانقياد لما يريده النص والكشف عن جمالياته الفنية ومراميه.
حين ألقاك
دعْنِي
أرهقُ قلبي
بالشوقِ إليك..
أحطّمُ أسوارَ المستحيل..
أهجرُ مدنَ الصمتِ الطويل
وحينَ ألقاك..
أعلنُ بدايةَ عهدٍ جديد
أصافحُ فيه قدري العنيد
أما آن الاوان
أن يحنوَ علينا الزمان؟
أحلم بأنشودةٍ
تُنغِّمُها الطيور
تُلبس النهارَ ثوبَ عرسِه
وتزفّ البشرى إلى عنان السماء
فيُبدّل الليلُ ثوبَه القاتم
تستلُّ نجمةُ الغروب
من عينيك بريقَها..
ويميسُ الفضاءُ باسمك
تعالَ يا مليك الروح..
تعال..
نتقاسمُ أفراحَنا وأحزانَنا وخبز الحنان
نبتسمُ للقمر
فيتمثّلُ ابتساماتِنا
نحفرُ على جبينِ الشّمسِ..أمنياتنا
نذوبُ بوهجها
جسدين..بروحٍ واحدة
هكذا خُلقنا
قبلَ آدمَ وحوّاء
وليس
كلاًّ على حِدة !!
  يعتبر العنوان مفتاح النص، وقد جاء في صياغة استراتيجية استباقية يستبق محمول النص، فيخمن القارئ ما تدور حوله مفاصل القصيدة، ومثل تشظي الذات الشاعرة، فظرف الزمن حين غير نهائي، مبهم طال أو قصر، وعندما يستند إلى الفعل نجد الزمن المفارق الحاضر/ المستقبل،وكما أن الزمن لا يدل على مفهومه هنا فإن الفعل لا يؤدي دلالته المعجمية فحسب، وينسب الفعل لضمير مفرد مذكر.
  ولعل الملاحظة الأولى التي تستفز القارئ هي زخم الضمائر من عنوان القصيدة حتى نهايتها، لتعبر الشاعرة عن ذاتها من خلال توارد (الأنا) بشكل لافت من خلال الأفعال المضارعة المتوالية الكامن فيها ضمير (الأنا) بصيغة أفعل. أرهق/ أحطم/ أهجر/ أعلق/ أحلم، وهي أفعال لها دلالة ميتافيزيقية ذات محرك شعوري لا لساني فحسب بل تعمل على رفع سقف الخيال ليتناسب مع هيمنة مشاعر الشوق والشجن والغربة، وليتعمق التوتر ويغرق في الغنائية الذاتية، فحرف الهمزة يضاهي نتوءا في الطبيعة ويأخذ هذا الحرف موقعه بصورة البروز فيكون كمن يقف فوق مكان مرتفع يلفت الانتباه إليه.
  في المقطع الثاني من القصيدة يحضر الآخر من خلال ضمير المخاطب في عينيك/ باسمك، وفي الثلث الأخير تصبح الشاعرة هي والآخر إيقاعا واحدا بضمير المتكلم الجماعي، أفراحنا/ أحزاننا/ ابتساماتنا/ أمنياتنا/ خلقنا.
 في مشهد للايحاء الإنساني العشقي فيه جمالية تنعش الروح وفيه التوق والحرارة والتوهج.
  في ذات التقسيم تبدأ الشاعرة منجزها الشعري بفعل الأمر (دعني) فتسطو على القارئ مقربة إياه من خطابها بأسلوب ديناميكي يستجيب القارئ لطرب الأنا منتظرا لحظة الحسم.
  تنهض القصيدة بعد ذلك في استفهام يشاركها وجدانها وحزنها ويشعر بضراوة الشوق الذي عض بأنيابه قلبها، فتأتي أداة الاستفهام ك إثبات لواقع مرير، يشترك القارئ في إعادة إنتاجه على سبيل الاستجابة.
أما آن الآوان
أن يحنو علينا الزمان؟
 يغرق القارئ بعدها في مفردات وصور ورمزية تتداخل فيها الحواس بطريقة المجاز الاستعاري، فالنهار انثى تلبس ثوب عرس، وثوب العرس أبيض، ينبثق منه الفرح والسرور والبشائر، فيتحقق الأثر لدى القارئ بربط المحسوس بغير المحسوس والمادي بالمعنوي، ومن ثم تستفيد الشاعرة من تضاد الألوان وفلسفتها، مصوبة سهامها إلى عمق التخيل، فالليل إنسان يبدل ثوبه القاتم، والصمت قاتم والبكاء قاتم والحزن قاتم والبعد قاتم.
 تستمر الشاعرة بإنتاج المعاني من خلال السياق في صور جمالية، ومن خلال الاستعارة،وتنتج الإيقاع بما تملكه الكلمة من موسيقى باطنية عفوية فطرية، بلا تصنع ومن بين خصائص أحرفها وبين ما تدل عليه، فتبرع في اختيار مفردة (تستل) دون غيرها من المفردات التي تؤدي نفس المعنى، فصوت التاء بما به من مرونة وليونة وملمس ناعم، يندمج بحرف السين الصفيري ليكمل بذات الإحساس من الملامسة الناعمة والامتداد والتاء مجددا تلتصق باللام تمسك به ويتملكها بلين صوته، فكانت الكلمة كمن استلقى على وسادة ناعمة من الريش ينعم بجمال الصورة وشاعريتها.
تستل نجمةالغروب/  من عينيك بريقها/  ويميس الفضاء باسمك.
 يستفيق القارئ على جملة النداء، تعال يا مليك الروح/ تعال، جملة طاغية بالرجاء والنداء فالفراق هلاك ولله ما في الخواطر من شجون.
 حالة من العشق والصبابة والوجد والاشتياق تعتري الذات الشاعرة التي تبحث عن الطمأنينة وهدأة الروح، فينتظم الإيقاع في نهاية القصيدة في أسطر شعرية تطول لتصل خمسة كلمات وتقصر لتحتوي على كلمة أو اثنتين.وفي قفلة مدهشة جسدين ..بروح واحدة/هكذا خلقنا/ قبل آدم وحواء/ وليس/ كلا على حدة!!
 تستلهم الشاعرة التراث الديني من بداية الخلق حيث كانت تشترك مع الآخر في ذات الجسد والروح قبل أن تنسلخ منه. وهنا نستشف أن الرغبة بالالتحام الذي ينسجه الحب والوئام إنما هو لحاجة المساندة والتخلص من محنة أو خوف أو غربة واغتراب.
 النهاية تأتي أيضا مدهشة وتضارب العنوان الذي أوحى بالبداية عن حجم المسافة والبعد واحتمالية الالتقاء، وبين عاشقة وعاشق ومدى التحام أرواحهما وتوقهما لبعضهما البعض.

تناص العتبات العنوانية داخليا/ سيميائية النصّ القناع.. دراسة تحليلية لقصيدة (سقراط يموتُ واقفًا) للشاعر عبد الجبار الفياض بقلم: باسم عبد الكريم الفضلي العراقي/ العراق

 (النص)

يبابٌ
يرقبُ غيمةً في ساعةِ طَلْق…
أقزامٌ
يقتسمون هواءَ المدينة…
تموجُ بما لم تألفْهُ من قبلُ أروقةُ المشائين…
من أينَ جاءَ هذا الدّميمُ بأتعسِ ما رأتْ عيونُ النّهار؟
يقلِبُ ما قد غارَ في جماجمَ مذ التصقتْ بها الأسماء…
قيّدوه…
إنًّهُ يُلقي الحَصى في بحيرةٍ راكدة…
يُفسدُ علينا ما نحنُ فيه…
لا تدَعوا لهُ قدَماً في مجلس
فأنفاسُهُ غيرُ الأنفاس…
إنَّهُ ينتصرُ لدمامتِه
بخرقِ ما نراهُ جمالاً!
……………
قُضاةَ القصر
بيدِكم تُستَلُّ من تحتِ لذتِها الخطيئة
يُدارُ دولابُ القَرارِ لبوصلةِ الشّرفةِ المُنيفة!
حيثُ الظّلامُ يصنعُ توابيتَ بلا أسماء…
مالكم
علقتُم الكلمةَ من ثدييْها
حتى تساقطَ لحمُها في أفواهِ السّفهاء!
كأنَّ الأمسَ روحٌ مقدسةٌ لا تُمسّ
تُحرقُ حولَها الفصولُ الأربعةُ بخوراً بترتيلةِ الوَلاء…
خذوا هذهِ التي أتنفسُ بها
لكنَّكم لنْ تأخذوا ما باحتْ بهِ لهذا الكون…
تبّاً لعصرٍ
يُخنقُ على الأشهادِ شاهدُه…
………….
لم يعلُ الموتُ قامتَهُ القصيرة
اصطحبَهُ بثباتِ قِممٍ
يرتقيها
لكنَّهُ
يظلُّ بجوارِها مملوكاً…
يَسرُّهُ:
لا يليقُ بعظمتِكَ أنْ تكونَ تافهاً إلى هذا الحدّ…
بئسكَ أنْ تُسكبَ سُمّاً في قعبٍ من فخار…
أغلقَ عينيْه…
القابعون فوقَ التّل
ليسَ لهم أنْ يقتربوا من حافرِ بَغل…
ليتَّهم يغادرون خوفَهم قليلاً
ليروْا أنَّ الحرَّ حينَ يموت
يُكفَّنُ بورقِ الشّمس !
صرخةُ الأمواتِ
تسمعُها إذنُ الطّغاةِ فقط!
…………
السُّمُّ
يرسمُ لوحةً مفتوحةَ الأبعادِ
تُرى بعينِ كُلِّ العصور…
ليسَ كوجهِ أثينا وجهٌ
تغادرُهُ كُلُّ الألوان جليداً أسود…
رجعتِ الشّمسُ إلى بيتِها بحفنةٍ من حزن…
كيفَ يُقشطُ ندمٌ تخثّرَ في حنايا مُعتمة؟
لاتَ حينَ نَدم
فلا يُغفرُ لسهمٍ خرقَ حنجرةً
هتفتْ لانسانيّةِ الإنسان!
………………………
(الدراسة التحليلية)
لما كنت لا أقول بانغلاقية النص، أو موت مؤلفه بعد فراغه من كتابته، فقد انسقت وراء مابعثته في ذاكرتي بنية عتبة هذا النص العنوانية (سقراط يموت واقفاً) الموحية بإنسانية الثيمة، من تداعيات قرائية لبعض آثار الكاتب الشعرية التي اطلعت عليها فإذاي أخلص إلى أنه قام بتناص داخلي، بين هذه العتبة، وعتبة أخرى موازية لها تركيبياً ودلالياً بعنوان (السياب يموت غدا) تعود لنص مخصوص الثيمة، كان الشاعر قد كتبه سابقاً، لتتشكل من هذا التناص ملامح نص غائب يشي بالمقاصد الحقيقية التي يضمرها ذلك النص السقراطي، الذي سنشتغل على التعرف عليه في نهاية دراستنا، ويتمظهر هذا التوازي العتباتي سيميائياً في عدة مستويات هي:
1 – مستوى البنية التركيبية لجملتيهما المتوازيتين فيما يلي:
– تماثلهما في الثبوت والديمومة والاستقرار، فكلتاهما اسميتان.
– تشابه عناصر بناء الجملتين في سياقهما التعبيري، عددياً/ ثلاث اشارات، تسلسلياً وتراتيبياً/ تجاورياً (اشغالها ذات الموقع في الجملة)، وكما في هذه المقاربة الإسنادية لهما:
إشارة إسمية مسند إليها (سقراط/ السياب) + إشارة فعلية مسند/ يموت + الإشارة (واقفاً/ غداً) إشارة قيدية تركيبية (القيود: إشارات تحدد معنى الجملة) مع وجود (استبدال) هنا.
– تماثل البنية الصوتية للإشارتين البؤرويتين (سقراط/ السياب)، على مستوى الوزن الإيقاعي، وأصوات حروفهما الداخلية، كما يلي:
– وزنهما الإيقاعي:
سقراطُ / سيّابُ (بعد حذف ” ال” التعريف كونها مزيدة):
كتابتهما عروضياً: سُقْرَاطُو / سَيْيَابُو ( فك التشديد )
تقطيعهما : متحرك/ ساكن/ متحرك/ ساكن/ متحرك/ ساكن
الوزن: مفعولن
– أصوات حروفهما الداخلية:
سقراط ………: مهموس/ مجهور/ مجهور/ مد/ مجهور
سيّاب/ سيياب : مهموس/ مجهور/ مجهور/ مد/ مجهور
2– مستوى البنيتين النحوية والزمانية:
تطابقت الإشارتان البؤرويتان (سقراط/ السياب) في نوع التعريف/ اسمان علمان، والموقع الإعرابي/ كلاهما مبتدأ مرفوع، خبرهما ذات الجملة الفعلية/ يموت، ومضارعية الفعل دلالة على استمرارية أثره في الوقت الحاضر مع انفتاحه على المستقبل.
3 – مستوى البنيتين الصرفية والدلالية:
– سقراط: في سياقها المقامي/ تاريخ الفلسفة:
بتكثيف رمزية الإشارة سقراط الفكرية واشتغالاته الفلسفية: معارض لحكومة الطغاة والنبلاء الأثينية (نسبة إلى أثينا) وديمقراطيتها المنحرفة، بثوريته الهادفة إلى تحرير العقل من الجهل وهيمنة الفكر اللاهوتي الغيبي، فهما عنده سبب الآثام والرذائل، وأن الحقيقة وتحقيق العدالة والفضيلة إنما تكون بالمعرفة والتخلي عن ماقبليات الأعراف والتقاليد البالية، وكان (الجدل) سلاحه المبتكر والناجع في ميادين حواراته مع خصومه وحلقات دروسه يهد ويبني به الأفكار والمعتقدات الجمعية، حتى صار أكبر خطر يهدد شمولية عرش السلطة الحاكمة، ومن تحالف معها من نبلاء ورجال دين، فاتهمته بالهرطقة وإفساد عقول الشباب والسخرية من قدسية الآلهة فحكمت عليه بالإعدام بتناول السم.
– الإشارة يموت: دالة فعلية، مخادعة مضللة في حقيقة داليتها، فحقيقة البنية الصرفية لفعلها الثلاثي المجرد مبنية للمجهول: مِيتَ، لا مبنية للمعلوم/ مات، لأنه من الأفعال المبنية لغير فاعل (على غرار: أُغميَ عليه، جُنَّ، وُلِدَ، أُعدِم ..الخ )، وهذا يعني أن هناك فاعلاً حقيقياً متوارياً هو من يقررالموت ويقدّره على (آخر ظاهر) في الجملة ظهوراً مجازياً، فحين نقول مات فلانُ بالسيف: ففاعل وعلة الأماتة الحقيقي هنا هو السيف الذي سلب حياة (فلان) الذي توهمنا الفاعلية فيه لوروده مرفوعاً بعد الفعل (مات)، وإسناد فعل الموت إلى مسند إليه متوهّم ماهو إلا تساند غير حقيقي تآلفه الناس لكثرة استعماله، وهذا الفاعل المتوارى، أما أن يكون عاقلاً (شخص ما/ .الآمر بالإماتة)، أوغيرعاقل (مرض ، حادث..الخ )، فما من كائن حي يملك أن يتحكم بفعل (الموت) تقديراً أو تقريراً، إلا بأن يخرجه من لزوميته، وتعديته بإحدى الصيغ الصرفية المعروفة كالهمزة الأولية، فنقول مثلاً: أماتَ الجفافُ الزرعَ ، يُميتُ) وهنا لابد ان تغدو جملة العنوان/ سقراط يُميتُ نفسَه واقفا ) وفي هذه الصياغة ضعف حبكة، فإماتة النفس/ كمدلول، يدل عليه معجمياً الدال/ انتحر، فتكون الصياغة اللغوية الأنسب/ سقراط ينتحر واقفاً، لكن استخدام الشاعر لصيغة المبني للمعلوم (يموت) عنوانيا، انما كان بقصدية الإيحاء أن سقراط هو من قدّر الموت على نفسه بشمم (واقفاً) حيث قام الشاعرهنا بالتناص مع قصدية واقعة الموت السقراطي (تناول سقراط السم المميت، رغم ما أتاحه له طلابه وأنصاره من أسباب الهروب من سجنه، قاصداً تأكيد على أن الأفكار السامية تستحق الاستشهاد دونها).
  أما عتبة عنوان النص المتناص معه (السياب يموت غداً): فهي ذات إشارات متعارضة ظاهرياً، فالسياب كدال، اشارة لها مدلولان:
ـ إحدهما لغوي: لقب إنسان (بدرشاكر)، دميم قبيح الخلقة، مات بايولوجياً (غياب نهائي لوظائفه الجسمانية)، وغادر الحياة (الغياب الجسدي)، منذ أكثرمن خمسة عقود خلت، والإشارة الظرفية المستقبلية (غداً) تتعارض مع هذا المعنى زمانياً.
ـ والآخر سياقي المقام: شاعر مبدع مجدد (أحدث ثورة أدبية بابتكاره الشعرالحر) متعارض مع طغاة الحكام، له رمزية و قيمة انسانية عابرة للزمن (شاعر رساليّ متجدد الحضور)، وبالتالي تخرج الإشارة (يموت)، من دلالتها التوقُّفية بايولوجياً للأجهزة العضوية للكائن الحي، وانتهاء زمنه المعاش)، الى رمزيتها الايحائية التصوُّرية (الموت المعنوي/ تغييب/ محو الأثر)، وهو هنا موت مؤجل بدلالة (غداً)، إيماءة إيحائية، بوجود إرادةٍ ما قضت بانقبار وإمّحاء آثار الرمزية السيابية، كقيمة (إنساشاعرية) وطنية ميتا زمانية، من الذاكرة والحياة.
(الثقافكرية) العراقية، وهي إرادة (آخر) نافذ القرار سلطوياً (فهو وحده من يقرر مصائر الآخرين) ومؤدلجاً ظلامياً (بدلالة قراره الإفنائي لآثار تلك الرمزية التحررية التنويرية)، شمولياً (لأنه لايتقبل نقيضه وجودياً).
بذا يتحقق التوازي بين الإشارتين (يموت) في العنوانين المذكورين، في تقابل إرادة (الأنا) السقراطية، وإرادة الآخر (الهو) المار ذكره، كما أن كلتي الإشارتين متعارضتا الدلالة:
دلالة الأولى/ موت جسدي
والثانية/ موت معنوي.
بذا فإن التوازي (السُّقْراسيابي) على المستوى المعنوي المقامي يتمظهر كفكر حر إنساني الثورة/ خلق الحياة، مقابل قداسة سلطة شمولية مؤدلجة/ وأد الحياة.
والمقاربة التأويلية لهذا التقابل:
الموت (السقراسيابي) محض وهم يشيعه أعداء الإنسان لسلبه إرادته بالتحرر من نير فكرهم الظلامي، فمن يصنع الحياة يُخلد في الذاكرة الإنسانية، على الضد ممن يئدونها ويفرغونها من معناها، فستُمحى آثارهم من صفحات الزمن خلا السوداء منها، ويطويهم النسيان.
نخلص من تحليلنا لمستويات التوازي بين العتبتين أعلاه، الذي قارب التماثل بين مركبات بنيتي جملتيهما أن يكون تطابقاً، أن الشاعر تقصد التناص بينهما، ليبعث رسالة خفية مفادها أن النص الحقيقي مغيًَّبٌ تحت سطح النص السقراطي (القناع)، كآلية (اتقائية) وقائية تصيب بعمى الألوان عيون الرقيب السلطوي المتلصصة على ما بين سطور كل أثر مكتوب، فتلقي القبض على كل حرف أو إشارة تشم فيهما رائحة تمرد أو تتوهم تلميحاً بانتقادٍ أو مسٍّ بجلال المؤسسة الحاكمة، مما سيعود عليه (أي كاتب النص المارق) بعظيم الأذى وفادح الخسران.
ولما كان متن النص يفسر ويوضح دلالات العتبة العنوانية ويجيب عمّا تثيره من أسئلة كما يذهب (علم العنونة)، لذا فإن التناص بين عتبتي النصين المذكورين، سيكون له تماثلاته المعنوية في الفضاء التعبيري بلْهَ ثيمة النص السقراطي، حتى ليصح دلالياً تأويل إشاراته المحورية وثيمة مقاطعه، بما يتسق مكزمانيا مع الهم السيابي/ العراقي الذي مازال مستمراً حتى اليوم، ًذلك الهم الذي بسببه يسعى (الآخر المؤسساتي) الذي عدَّه خطراً محدقاً بشمولية سلطته، إلى قتل/ إماتة، آثاره في الذات العراقية الواعية ً، وهذه التماثلات والتأويل هما ما انتجا النص الغائب، الذي ضمنه الشاعر حقيقة فكرته السيابية (رمزية الهم الوطني في الذات الواعية النازعة للثورة) بعد أن كساه جلباباً سقراطياً تحاشياً للرقيب كما أسلفت ويتجلى هذا التماثل (لن أشير للمقاطع السقراطية التلازم دلالياً فهي ذات قصدية قِناعية حسب) في الإشارات والثِّيَم المقطعية التالية:
– الدميم/ (من أينَ جاءَ هذا الدّميمُ بأتعسِ ما رأتْ عيونُ النّهار؟): الدمامة صفة خَلقية (سُقراسيابية) مشتركة بينهما/ توازٍ شكلي متماثل
– الثورة السقراطية على الجهل (يقلِبُ ما قد غارَ في جماجمَ مذ التصقتْ بها الأسماء)، وإثارة وعي الناس وحملهم على كسر جمودية التفكير(إنًّهُ يُلقي الحَصى في بحيرةٍ راكدة) والتمرد على قديم الاحكام والقياسات الفكرية والجمالية (بخرقِ ما نراهُ جمالاً!)، من خلال اتيانه (بالجدل) كآلية هد وبناء للأفكار، توازي الثورية السيابية في يسارية معارضته للحكم الشمولي، وثورته الشعرية على قيود العروض وإعلانه ولادة الشعر الحر.
– تماثل ثيم المقاطع السقراطية وقهرية الآخر المقابل لرمزية الهم السيابي:
أ- عصمة الجور:
(قضاةَ القصر
بيدِكم تُستَلُّ من تحتِ لذتِها الخطيئة
يُدارُ دولابُ القَرارِ لبوصلةِ الشّرفةِ المُنيفة!
حيثُ الظّلامُ يصنعُ توابيتَ بلا أسماء..).
ب – تغييب الوعي بإسم المقدس:
(مالكم
علقتُم الكلمةَ من ثدييْها
حتى تساقطَ لحمُها في أفواهِ السّفهاء !
كأنَّ الأمسَ روحٌ مقدسةٌ لا تُمسّ
تُحرقُ حولَها الفصولُ الأربعةُ بخوراً بترتيلةِ الوَلاء…)
ت – افناء الضديد:
(خذوا هذهِ التي أتنفسُ بها
لكنَّكم لنْ تأخذوا ما باحتْ بهِ لهذا الكون…
تبّاً لعصرٍ
يُخنقُ على الأشهادِ شاهدُه…
………..
 
ث – خلود الفكر الثوري:
(لم يعلُ الموتُ قامتَهُ القصيرة
…………….
يَسرُّهُ :
لا يليقُ بعظمتِكَ أنْ تكونَ تافهاً إلى هذا الحدّ…
…………..
القابعون فوقَ التّل
ليسَ لهم أنْ يقتربوا من حافرِ بَغل . . .
ليتَّهم يغادرون خوفَهم قليلاً
ليروْا أنَّ الحرَّ حينَ يموت
يُكفَّنُ بورقِ الشّمس !
صرخةُ الأمواتِ
تسمعُها إذنُ الطّغاةِ فقط!)
…………..
جـ – جريمة المقابل للفكر الحر بحق رموزه لن يمحوها الزمن:
( لاتَ حينَ نَدم
فلا يُغفرُ لسهمٍ خرقَ حنجرةً
هتفتْ لانسانيّةِ الإنسان!)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ باسم الفضلي العراقي _
9 / 5 / 2019

قراءة تحليلية لقصة “أيقونة الدفء” للقاص: عبد الكريم الساعدي. بقلم: الناقد علي البدر

 العرض التحليلي النقدي لقصة “أيقونة الدفء” 
كعادته وفي معظم كتاباته، يحاول القاص وضع القاريء في وضع تساؤلات محددة وأحياناً غامضة. وقد يبقى جزء من الأبهام مثيراً رغبة إضافية في تتبع النص وربط فواصله. وعند الإشارة إلى نهاية السرد “من يجمع أشلائي المبعثرة في مسارب القمامة؟ لا أحد يسمعني، ألأماني تلوذ بالفرار، ثمة قوارض تنتظر بقاياي.” نجد أن الأنسنة personification متواصلة منذ البداية. حيث لغة “آلأنا” أي المتكلم . وما دام البطل في الاصل بدون حياة: ” سترة، معطف coat أو قبوط رجالي”، فلا بأس من جعله ضمن عملية الأنسنة هذه، يعكس دواخله reveals himself ، بنفس اللغة المأساوية العاكسة للحرمان العاطفي والإجتماعي حتى بعد تشتته إلى أشلاء حيث المأساة التي يتلاشى بها مع القوارض التي تنتظر بقاياه. “فالوقوف” منتصب القامة ولمدة شهر “صفات انسانية لكنها تضمحل عند ومضات تبدو مبكرة” مُحَنَّطاً بثمنٍ غالٍ… تقلبني الأيدي… تتحسس بطانتي وغيرها”، لكن جملة “أبحث عن جسدٍ يرتديني..” مزجٌ بين حالتين. الأولى تَدُلُّ على عملية اللبس لمعطفٍ وهو جماد بالتأكيد والثانية عند اعتمادنا على الفعل “يرتديني” فإننا ننحاز للأنسنة فالرجل والمراة أحدهما لباس للآخر. وهكذا تستمر عملية المزج كمحاولة تمويهية وتحفيزية للقاريء بالتتبع والمواصلة. وتأتي أخيراً ساعة الحسم حيث تتلاشى ساعات الانتظار عند قدوم زوجين ” يقتربان مني، أناملها تمتد، تُلامسُ أكمامي، تقلبني بين يديها الرقيقتين، تتحسس بطانتي، أحُسُّ بدفء أنوثتها، فيما كان الرجل يحاصرني بِعَيْنَي ذئب…” وقد يبدو لأوّل وهلة أنه غير راض بشرائه فها هو “يتفحص ثمني الباهض…” أو إنه مجبر على شراءه حيث” يستجيب لرغبتها.” لكننا نتفاجأ بأن الرجل هو الذي لبسه رغم بوادر الحوار بينهما تشير إلى رغبة الزوجة به ” رجلٌ استيقظ تواً من مفاتن زوجة جميلة، هائمة به، يرتديني كبقية من رغبته…” ليصبح هذا المعطف شاهداً على خيانة الزوج عند ارتمائه بأحضان امرأة أخرى” … باحثاً عن لذة حقيرة، يطفيء ابتسامة زوجته، ليدخن ابتسامة امرأة أخرى.
ويصر شاهد الاثبات هذا على إيغال صاحبه بالخيانة فياخته “المرصعة بالدهشة تشهد كل يوم خيانته على ما تيسر من متعة…”. ويبدو أنه قرر ذات ليلة عدم لبس المعطف، فَرَكَنَهُ في خزانة الملابس حيث تأتي الزوجة وتشم رائحة زوجها الذي انشغل عنها، وهاهي تعكس مشاعرها إتجاه زوجها ” تضمني وتشم أنفاسه المندسة بين مساماتي، ترتديني، يلسعني دفء جسدها البض….” وياترى… هل تستمر مشاعر الارتياح هذه خاصة عندما يزُرُّ نصف وجوده ليحتويها ” فتغفو على لهفة تصرخ باللقاء…”؟ مفاجأة، بل كارثة تنتظره نتيجتها مغادرة البيت وذلك النعيم الذي أحاطه. أجل لم يعد صالحاً أن يَلبَسَهُ رجل مترف بعد الان فقد تعثر المعطف بأيدي الخادمة العابثة بوجوده. ” أراها تحرق طرفي بالمكواة، تشوه جمالي،أُرْمى بِيَدِ أوَّلِ سائلِ يطرق الباب. “وأصبحتُ بعدها” أبات ليلتي الأولى مركونا في زاوية مهملة في كوخ…” حيث يستعمله هذا الفقير في النهار ” فراشاً، والليل يتخذني غطاء لصبية جياع…”. ثمّ يستقر المعطف أخيراً في سوق اللنكات وهي سوق لبيع الملابس القديمة” يشتريه سكيّرٌ ” بسعر بخس، يرتديني وأنا لست على مقاسه، أذيالي تلامس الارض، تكنس الطرقات خلفه…” حيث يدوي انفجار ليتحول من يلبسه إلى أشلاء تنتهي في مكب النفايات ” بعيدة عن الموت الذي أشتهيه… لا أحد يسمعني. ثمة قوارض تنتظر بقاياي… ”
نلاحظ مما تقدم تأطير القصة بنماذج متفاوتة طبقياً. وكان المعطف وسيلة ذكية قادتنا لكشف سلوكية كل نموذج لكنه ،المعطف، بدأ أولاً بالكشف عن نفسه تدريجياً. متعب من الوقوف مع شعور بالزهو لبهاء طلعته وثمنه الغالي محاولاً إغراء المارة بالشراء باحثاً عمن يرتديه لكن ضحكة في أقصى المكان نهشت سمعه. أجل. ” وجهٌ مضيءٌ ينبثق من بين الزحام يبدد ظلمة انتظاري…”. وياترى من الذي بدد ظلمة انتظاره؟
بالتأكيد إنها ” إمرأة لها نكهة الحلم، يلفها الغنج، طافحة بالجمال، تتهادى نحوي على إيقاع لهفتي.” وهنا يكون جنونه في أقصى مداه حيث يضعنا الكاتب وسط أروع حالة أنسنة ” أقف مذهولاً، أحاول أن ألفت انتباهها…” ويبدو أنه نجح في ذلك فها هي تشير بإصبعها نحوه وتتحسس أكمامه وتقلبه بين يديها الرقيقتين فيشعر ” بدفء انوثتها” عندما تحسست فراءه. وهنا تأتي الموافقة حيث يستجيب الزوج لرغبتها ” نعم إنه مناسب لي.” وهذه إجابة تبدو لأول وهلة أن فيها إبهام ambiguity . وقد يكون الابهام مقصوداً، حيث الحوار يقنعنا بأنه للزوجة وهذا لم يحصل، رغم أنها قادته واقنعته بالشراء. ولحل هذا الإشكال لابد من الافتراض بأن الزوجين دخلا السوق من أجل شراء معطف للزوج، وكان لابد له أن يستشير زوجته ويأخذ ذوقها بالحسبان. وعليه ركز على المعطف وحاصره بعيني ذئب ثم قال: “نعم. إنه مناسب لي.” والمحصارة “بعَيْنَي ذئب” تعني الإفتراس والرغبة في الحصول على الشيء. وعليه فإن هذه العبارة تحسم الإبهام في النص وتزيل الأستغراب عن لبس الزوج للمعطف.
وتأتي لحظات مغادرة أيام المعاناة والانتظار، عندما يؤخذ لبيت ثريً ليقضي أياماً فيه داخل خزانة الملابس الفاخرة وتكون ذروة النشوة عندما تأتي الزوجة الجميلة وتقف قبالته وتتنهد بحسرات مستذكرة زوجها الذي اعتاد لبسه والسهر ليلا، لتشم رائحته. لكنها أثارت انفعالات هذا المعطف فبدا وكأنه محرومٌ بحاجة لأن يضمها. “أُزُرُّ نِصْفَ وجودي لأحتويها فتغفو على لهفة تصرخ باللقاء…” ونلاحظ سلاسة السرد ممزوجة بعمقِ المعنى وفصاحةِ في الاسلوب، ينساب بهدوء مثيراً انفعالاتٍ جياشةً تشد المتلقي. وقد استخدم القاص الساعدي الخادمة كوسيلة إيصال المعطف الى مرحلة أخرى مأساوية عندما يحترق طرفاه بالمكواة لينتقل الى فقير معدم يلتحف به نهاراً ويتغطى به ليلاً لكنه يضطر لبيعه لرجل سكير. وقد أُلصقت هذه الصفة بالرجل لتكون مبرراً من أجل عدم استغرابنا لعملية شراء معطف محترق الطرفين. والمعطف هنا قد وُصِفَ بحالة مأساوية”… أذيالي تلامس الأرض، تكنس الطرقات خلفه… انتقل من حانة منسية إلى رصيف زلق….وفجأة يتوقف الحلم على صوت آنفجار…من يجمع أشلائي المبعثرة في مسارب القمامة؟ لا أحد يسمعني…ثمة قوارض تنتظر بقاي.” فالقوارض لا تقرض لكي تتغذى فقط و انما لتحول دون الاستمرار في نمو قواطعها وفي كلا الحالتين يكون المصير هو التفكك والتلاشي.
وعند التطرق لعتبة القصة، سنجد أن الايقونة قد تكون رمزاً معيناً أو صورة أو شيئاً معيناً ذات قيمة، ولابد أن يكون هذا الشيء معطفاً يمنح الدفء. وهكذا يبدو العنوان أيجابياً فهو رمزٌ symbol مانحٌ للعطاء انتابته ” دائرة الاستغراب”، بسبب خيانة زوج لزوجته الجميلة، ولكن من حقنا أن نستغرب لتصرفات تلك الأيقونة التي خانت الزوج بغيابه حيث فقدت القدرة على مقاومة إثارة جسدها، فكانت تلك الحركة المجنونة. أجل عندما جاءت امرأته نصف الليل ” تقف قبالتي، تطلق آهة خافتة، تفتح ذراعيها، تضمني، يلسعني دفء جسدها البض ، أزُرُّ نِصْفَي وجودي لأحتويها فتغفو على لهفة تصرخ باللقاء.”. لقد منحت إيقونة القاص عبد الكريم الساعدي الدفء لرجل ثري وامرأة تتلهف لزوجها اشتياقاً، ولسائلِ فقير، فباتت فراشاً في النهار وغطاءً في الليل لكنه باعها، ربما لسد رمقه ورمق عائلته الجائعة. وكانت ذروة تعاستها عندما باتت أذيالُها تكنس الطرقات وهي تلف جسد سكير يجوب الحانات والشوارع لتنتهي شتاتاً مع النفايات. الأيقونة هنا رمزٌ لعطاء متواصل في وجودها وفي تلاشيها أيضا حيث القوارض بانتظارها..وفي كل الأمور لابد أن يكون العطاء مستمراً.. أجل.. إنه منطق الحياة….
ألقاص عبد الكريم الساعدي… تحياتي ويسلم إبداعك.
علي البدر

2) القصة
أيقونة الدفء
منذ شهر أقف في ذات المكان، منتصب القامة، متلفعاً ببهاء طلّتي، محنّطاً بثمن غالٍ، منتظراً عيوناً تسرق نظراتي، أبحث عن جسد يرتديني؛ في المساء أرى عيون الزبائن تلمع، الخطى تنقر سمعي، تقلّبني الأيدي، أكابد مرورهم دون اهتمام، أحصي حسراتي، أرمم خيبتي، أعاود ترتيب نفسي، القلق ينتابني، أتساءل لِمَ يتجاوز هؤلاء أيقونة الدفء؟ الممرّ قبلتي، يمتدّ أمامي، ضحكة في أقصى المكان، تنهش سمعي، وجه مضيء ينبثق من بين الزحام، يبدّد ظلمة انتظاري، امرأة لها نكهة الحلم، يلفّها الغنج، طافحة بالجمال، تتهادى نحوي على إيقاع لهفتي، تتأبط ذراع رجل ذي سحنة مهيبة، متّشح بالكبرياء، أقف مذهولاً، أحاول أن ألفت انتباهها، أرمي سهامي، تبتلع جنون لهفتي، تهمس في أذنه، تشير بسبّابتها نحوي، يرتعش فرائي، أعلن حضوري بكلّ ما أوتيت من زهو، يقتربان منّي، أناملها تمتدّ، تلامس أكمامي، تقلبّني بين يديها الرقيقتين، تتحسّس بطانتي، أحسّ بدفء أنوثتها، فيما كان الرجل يحاصرني بعيني ذئب، يتفحّص ثمني الباهظ، يستجيب لرغبتها:
– نعم، إنّه مناسب لي.
أشهق فرحاً بعد انتظار طويل فوق أرصفة الصبر، أدخل منزلاً مترعاً بالدفء والجمال والثراء، أشرب نخب عالم جديد يتلو الوجود غناه، أحتلّ مكاني في خزانة ملابس مزدحمة ببدلات وقمصان فاخرة، وأربطة عنق زاهية الألوان. هاأنذا أتهيّأ لمحطتي الأولى، رجلٌ استيقظ تواً من مفاتن زوجة جميلة، هائمة به، يرتديني كبقية من رغبته، يخرج محتمياً بابتسامتها، أقتفي خطواته، يسعى في طرقات تثير الخيال، بيد أنّي وقعت في دائرة الاستغراب، لمّا بدا لي صاحبي كصرصار، يمدّ قرون استشعار، باحثاً عن لذّة حقيرة، يطفئ ابتسامة زوجته؛ ليدخن ابتسامة امرأة أخرى؛ ياقتي المرصّعة بالدهشة تشهد كلّ يوم خيانته على ما تيسر من متعة. ذات ليل أسمع صوت أقدام تقترب منّي، كان الزوج غائباً، تتجه ناحيتي، تقف قبالتي، تطلق آهة خافتة، تفتح ذراعيها، تضمني، تشمّ أنفاسه المندّسة بين مساماتي، ترتديني، يلسعني دفء جسدها البض، أزرّ نصفي وجودي لأحتويها؛ فتغفو على لهفة تصرخ باللقاء؛ لكنّي أعلم أنّها ستصحو يوماً على جرح لن يندمل، غيابه المتكرّر يمنحني الشغف بها، المكان يتواطأ معي، استظلّ بمناطق غامضة بالإثارة حين يهجس الجسد بالعطش، الأيام تمرّ، تغطّ في أحلام عليلة، أستفيق مذعوراً على صدى نداء ينبع من محطة أخرى، أتعثّر بأيدي الخادمة العابثة بوجودي، أراها تحرق طرفي بالمكواة، تشوه جمالي، أُرمَى بيد أول سائل يطرق باب الدار، أبات ليلتي الأولى مركوناً في زاوية مهملة في كوخ يرتجف من شدّة البرد، يلفّه الصمت والحزن؛ ليالٍ تمضي، مكتومة بأوجاع لا تحتمل؛ النهار يشكّلني فراشاً، والليل يتّخذني غطاء لصبية جياع، مثلي صاحب الكوخ، رجل محاط بالوجع وضجيج العزلة. ذات قدر تراني أُعرض في سوق ( اللنكَات )* فلا يروق لأحد منظري، يبتاعني رجل سكّير بسعر بخس، يرتديني وأنا لست على مقاسه، أذيالي تلامس الأرض، تكنس الطرقات خلفه، الوحل يشكلّني لوحة بائسة من قيء وقرف؛ كظّله ملازمٌ له، أتنقّل من حانة منسية إلى رصيف زلق، أحلم بانقضاء فصل الشتاء؛ لعلّي أحظى بقسط من الراحة؛ فجأة يتوقف الحلم على صوت انفجار، أجفل مرعوباً، أحلق في الفراغ، تعتريني رغبة بالبكاء، أرتطم بالأرض، أتبعثر، أشلاء الرجل السكّير تخلعني، ترتدي حلّة النسيان فوق الرصيف الزلق كأصدافٍ على شواطئ العدم؛ ما تبقّى منّي يُلقى في مكب النفايات، أشعر أنّي بعيد عن الموت الذي أشتهيه، غارق في ظلام دامس، وحدي في القمامة أحتسي فنائي، يؤلمني أن أطلق آخر صرخاتي دون جدوى، الصدى يردّد:
– من يجمع أشلائي المبعثرة في مسارب القمامة؟
لا أحد يسمعني، الأماني تلوذ بالفرار، ثمة قوارض تنتظر بقاياي.
* سوق اللنكَات: سوق لبيع الملابس القديمة.

الإدلال الاستراتيجي في القصّة القصيرة جدّا: قصّة “تجارة ” للقاص: “سعيد أحمد” نموذجا. بقلم: مريم بغيبغ/ الجزائر

الإدلال الاستراتيجي في القصّة القصيرة جدّا: 
عن القصّة القصيرة جدّا:
لا تقوم القصّة القصيرة جدّا على سرد قديم، ولا عن حكي مألوف وإنّما برزت كمخلوق ثقافي حداثي ارتبط بالتاريخ والمجتمع، وأنشأ ادراكه الجمالي وفق تصور لإنتاج معايير جديدة لمقاييس جودته.
لقد استمدّ هذا الجنس الأدبي مشروعيته من خلال أبعاد مستويات حدوده المعجمية (القصّة القصيرة جدّا)، يمتاز بقصر الحجم والإيماء المكثّف ،والانتقاء الدقيق ووحدة المقطع ،والنّزعة القصصية الموجزة والمقصديّة الرّمزيّة المباشرة وغير المباشرة والتّلميح والاقتضاب والتّجريب واستعمال الجمل القصيرة الموسومة بالحركيّة والانفعال والتّوتّر وتأزّم المواقف والأحداث بالإضافة إلى سمات الحذف والإختزال والإضمار، ولقد حاولت اللسانيات منذ كتاب “محاضرات في اللسانيات العامة “لفرديناند ديسوسير” ترصّد الدلالات التّي يوظّفها النّص ، فالنّص يحاول دائما الكشف عن طبيعة انتظامها وهذا ما يسمح للسانيات بإثراء قوانينها وتقديم ما يدعمها من أمثلة تطبيقية توفّرها النّصوص: السّؤال المطروح: هل ستساهم نصوص القصّة القصيرة جدّا في إثراء قوانين اللسانيات؟
 
عن نصوص القاص ” سعيد أحمد” القصصية القصيرة جدّا :
إنّ القصّة القصيرة جدّا تجاوزت مرحلة العفوية والتلقائية، ونحن نطالع قصص الكاتب والأديب الطّبيب السّوري “أحمد سعيد ” نحسّ أنّ لدى صاحبها وعي بقضيّة التّجنيس، ووعيه بقضايا الرّاهن والاستفادة من التّجريب والمثاقفة والفانتاستيك والشّاعريّة والتّناص وغيرها للتّعبير عن مواضيع متعدّدة بتكثيف واقتصاد دلالي، فتعدّدت عناوين قصصه بتعدّد كلّ ذلك فعانقت عناوينه الواقع والخيال:
حقيقة، شرنقة، غسق، لقاء، إيحاء، مسار، أمل، عائد، خصام، محاكمة، فسيفساء، بوصلة، غربة، لص، تأبّط شرّا، تهور، قرابين، شرعيّة، سيرك، طروادة، والعديد العديد من القصص فالكاتب غزير الإنتاج، تتميّز نصوصه بقوّة الثيمة فلا يمكن لمتذوّق هذا الفنّ أن يمرّ على نصوصه مرور الكرام، دون أن يقف موقف المتأمّل فيها… ومن بين نصوصه المبهرة المكتنزة الدلالة نصّه “تجارة” الذي يتميّز بإستراتيجية الإدلال.

النّص/ تجارة
يطلق رصاصته الأخيرة.
يخرجها الطّفل من رأسه مقهقها:

ــ أعيدها إليك بقطعة خبز…يبحث القناص في جيبه الفارغ.
 
التّحليل:
إن هذا النّص من النّاحية الشّكلية هو مجموعة من الجمل المتلاحقة، المتقطّعة، يحكمها الاتّساق والانتظام الدّاخلي، والقراءة الأوّلية تجعله في نظر المتلقّي العادي نصّا شكليا بسيطا، باعتبار وحداته اللسانية المتباعدة والتي جعلها النّص قريبة تخضع منطقيا لقانون لساني واحد، ولكنّ الصّعوبة تكمن في كيفية استجلاء دلالتها الخفية:
فالتّجارة هي عملية البيع والشّراء…ولكن ما علاقتهابالطفل والقنّاص، والرّصاص والخبز؟
وللإقتراب من الدّلالة العميقة للنّص وجب الإقتراب من الأطروحات اللسانية العلمية والإبتعاد عن التحليل الانطباعي الذاتي الذي لا يحقّق الإقناع العقلي.
ومنه فالنّص كما يفسّره “ديكرو” بمثابةاستراتيجية يخطّط لها المؤلّف بطريقة مخصوصة، وأنّ دلالته مبعثرة ضمن تمفصلات هذه الاستراتيجية، مما يجعل الوصول إليها يمرّ اجباريا عبر ممر تفكيك آليات هذه الإستراتيجيّة، ولملمة المادة الدّلالية المبثوثة داخلها…
تقدّم لنا قصّة تجارة مشهدا واقعيا وغرائبيا في الوقت ذاته، يتحدد من خلال علاقات اجتماعية “علاقة الطفل/ بالقناص،علاقة الخبز/ بالرصاص، علاقة الحياة/ بالموت.
نحسّ أنّ هناك صراع قائم بين كلّ هذه الثّنائيات وهو صراع إيديولوجيا تحدّد القصّة ملامحه من خلال: خاصّةً “القنّاص والطفل ” يحتدم بينهما الصّراع، حول الحياة فالقناص أخطأ الهدف برصاصته الأخيرة حين استقرّت في رأس الطّفل ، والطفل بفعل الغرائبيّة وبراءته أخرجها وأراد أن يبادلها بقطعة خبز، ولا يهمّنا إن كان هذا القنّاصَ/ إرهابيا أو مسؤولا أو قائدا عسكريا بقدر ما تهمّنا الدلالة العميقة للنّص.
“يطلق رصاصته الأخيرة ” يبيّن هذا الملفوظ أنّ القنّاص مرادفا للموت فهو يطلق الرّصاص بشكل عشوائيّ، وهذا ما تدلّ عليه كلمة “أخيرة” وهذا لا يتماشى مع المبادئ العامة التّي تستثني النساء والأطفال في الحروب مثلا.
“يخرجها الطّفل من رأسه مقهقها ” يبيّن هذا الملفوظ البسيط في شكله العميق في معناه، الثّورة من أجل الخبز، والدّلالة “القهقهة” التّي صاحبته، حين أخرج الرّصاصة من رأسه، حيث خابت آمال القنّاص حين خاطبه الطّفل قائلا:
ــــ أعيدها إليك بقطعة خبز” وهو بذلك يذكّره بإخفاقه إصابة الهدف، فكان له أن يحتفظ بالرّصاصة الأخيرة للعدوّ والمعارض، وليس للطّفل الجائع.
وفي السّياق ذاته يطالبه بقطعة خبز، وهو يوقن بقهقهته أنّ من يمنح الموت لا يمكن له أن يمنح الحياة وهذا ما تؤكدّه “القفلة المفاجئة “: “يبحث القنّاصَ في جيبه الفارغ “، يمثّل هذا الملفوظ الخلاصة الفكرية والدّلالية التّي سعى الكاتب الفذّ “أحمد سعيد “إلى تحقيقها، فالتّجارة هي تجارة “الموت”، التّي أصبحت في الدّول العربيّة الكلّ يقتل في الكلّ، والضحيّة ذلك الطّفل البريء.
 
من خلال هذا التّحليل الدلالي الذي وقف على بؤرة النّص القصصي القصير جدا الذي يقوم على ثنائية “الحياة/ الموت ، نجد أنّ النّص يحمل دلالات مهمّة لا بدّ للمتلقّي أن لا يستهين بشكلها البسيط، فللنّص دلالات قريبة تفهم من خلال السّياق العام، ودلالات عميقة يريد الكاتب أن يلفت انتباه القارئ الخبير إليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بغيبغ مريم/ الجزائر.

عرض تحليلي نقدي لقصة “الأريكة” للقاص عادل المعموري.. بقلم: علي البدر

 
عرض تحليلي نقدي لقصة “الأريكة” للقاص عادل المعموري.. بقلم: علي البدر

بدر

1) العرض التحليلي النقدي:

لقد ارتأى القاص عادل المعموري أن يجعل من الأريكة رمزاً لثيمة القصة وكانت الحبكة plot بسيطة تتناغم مع بساطة وهدوء ورتابة الحياة للزوجين لكنه وضع العقدة في نهاية القصة وفي الحقيقة في آخر جملة وهذا خلاف المألوف في أحيان كثيرة “ما حكاية الأريكة من فضلك؟ ” أريكة خضراء اكتسبت لون الشجر والأحراش المحيطة بها حيث اقترنت مع لحظات جلوسهما المتكررة بتغريدات الطيور وصوت الفخاتي الحزين الذي يشق حجب الصمت بين أنّ وآخر. يتكيء الزوج على عصاه مع زوجته التي يهددها الموت لقصور في قلبها وأريكة تنتظرهما كل يوم شاهدة على لحظات صمت متواصلة.. وإن كان الكلام وسيلة فعالة للتعبير عن مشاعرنا فإن الصمت أحيانا من أرقى وسائل التعبير.. أجل إنه لغةُ حوارٍ داخلي مع الذات monologue حيث الخشية من الفراق بعد عمر طويل من الحب والانسجام أمام زمن زاحف نحوهما وعمر بدا يتآكل مهدداَ بالفراق الأبدي. ولا شك أن تكرار جلوسهما على الأريكة دلالة على لحظات الانسجام والارتياح فأصبحت تلك الحالة عادة متأصلة لا يستغنيان عنها. وتأتي المفاجئة القاسية وذلك اليوم الذي خطف الزوجة ليصبح الزوج وحيداً لكنها تعيش في أعماقه وهذا بدوره قد عمق وجودهما مع بعض، فها هي الزوجة تنسج له “بالسنارة بلوزةً لبرد الشتاء القادم…” خوفاً على زوجها من لسعات البرد وهو بهذا الجسد النحيل. ولكي يمهدنا القاص للمرحلة الثانية جعل الزوجين شبه معزولين عن الوسط الاجتماعي ويبدو أن فقرهما وبساطة حياتهما معا قد رسخ حالة العزلة: “… وأنا أخلع بجامتي وأرتدي بنطلوني وقميصي الوحيد وأحمل عصاي…” لا شيء يشغله سوى التفكير بنصفه الاخر الذي سيطر على وجوده تماماً وباتت الأريكة متنفساً قوياً يمنحه دعما نفسيأ psychological support يزوده بطاقة عصبية قد تعينه على الصبر ومقاومة الوحدة “… أجلس على الأريكة ذاتها في الطرف خاصتي. الطرف الآخر خالياً إلاّ من طيفها وهي تجلس واضعة ساقاً فوق ساق…” وهكذا يقترن وجودها بوجود الأريكة التي منحتهما الاطمئنان والسكينة، وكانت لحظة وجودهما معاً قد كوَنت ما يشبه حالة التواصل الفكري، التخاطر، telepathy وهنا تكون حالة التقمص على أشدها فيشعر بحاجة زوجته اليه وتعلق روحها بالأريكة، فالقوة التي استُعمِلَت لاقتلاعها معادلة لدرجة شوقها اليه ورغبتها أن يكون بقربها، ساحبة الأريكة معها قي لحظة انتظار وهي حركة تمثل بالتأكيد حالة ذهنية تخص الزوج الذي يعيش لحظة الذكرى تماماً فهو يدرك عمق التصاق زوجته به وبالذكرى التي لا تموت. 
لقد انتقل القاص عادل المعموري من حالة الواقع الشعوري إلى حالة الخيال أي اللاواقع بدون تمهيد كحالة حلم أو تأمل يغور البطل فيه مع خيالاته حيث تكون المفاجأه في نهاية القصة وهي حل اللغز، لكننا تٌرِكْنا في جدل مع أنفسنا باحثين عن تبرير ما. وقد نجح الكاتب في ذلك حيث باتت قدسية العلاقة بين الزوجين على أشدها فالموت زاده قرباً منها لما تحملة الزوجة من حب وشوق له وقد أدركه وشعر به أكثر بعد موتها، فهو في أقصى درجات الفهم لمشاعرها وقد عكس أو أسقط حالته الوجدانية هذه عليها He reveals himself . وعليه فإن قُرْبَ الأريكةِ منها هو خيال يعكس إيمانَه بأنها لا تستطيع العيش بدونه. إن احساسه الراقي هذا اتجاه زوجته يعبر عن أقصى درجات رد الجميل لزوجته وكأنه يصرخ… أنا قريب منك ومثلما جمعتنا الحياة فلا بد للموت أن يجمعنا…. والموت في الحقيقة هو الحياة الأزلية في بيت قضينا عمرنا من أجل العيش فيه إلى الأبد….
وأخيراً لابد من التنويه إلى أن المرات التي نقلت فيها الأريكة إلى المكتب تبدو متناقضة مع الفترة الزمنية التي وارى فيها زوجته تحت التراب. ويبدو انه زارها بعد فترة قصيرة من موتها : ” بعد أيام توجب علي زيارة قبرها…” أي أيام قليلة حسب سياق الجملة، فكيف تُنقل الأريكةُ أربعين مرة من مكان القبر الى المكتب؟: ” للمرّة الأربعين، أُأمرُ غلماني بحمل الأريكة ووضْعْها في غرفة مكتبي.. نعودُ في صباح اليوم التالي لنجدها في المكان نفسه قرب القبر.” ومن الممكن أعطاءُ تبريرٍ لحلَّ هذا التناقض وهو أننا عادة نبالغ في الأرقام للتعبير عن الكثرة وليست العدد بالضبط. وبالرغم من جهود القاص في نحت النص وتركيزه فمن الممكن حذف كلمة ” حذاء” في جملة: ” استفسرتُ لدى الدفّان عمّن وضعها حذاء قبر زوجتي….” خاصة أن مرادف الكلمة موجود بنفس السياق: ” عند دخولي المقبرة فوجئت بوجود ذات الأريكة قرب قبرها..” وبهذا تكون الكلمة دخيلة على النص إضافة لأنها غير مناسبة وحذفها يقوي النص بالتأكيد. وحسب رأيي المتواضع، لابد من تغيير العنوان إلى المصطبة بدلاً من الأريكة التي هي ” مقعد مُزيَّن مُنجّد مريح. ” وهي غير موجودة بالحدائق، كما أن وجود قصة قصيرة سابقة بعنوان “المصطبه” لا يحول دون تغيير اسم “الأريكة” 
القاص المبدع عادل المعموري… دام ألقُك أبداً. تحياتي…
علي البدر

2) القصة:

الأريكة
كل مساء نتهيأ للخروج، هي ترتدي ملابسها وتحمل حقيبة يدها وأنا أخلعُ بيجامتي وأرتدي بنطلوني وقميصي الوحيد وأحمل عصاي، ثم نخرج معا ،نسير في ذات الشارع الذي نقطعه كل يوم مشيا على الأقدام، كالعادة ندخل تلك الحديقة العامة ونجلس على ذات الأريكة الخضراء .
مرتادو الحديقة قليلون، الأجواء هادئة إلاّ من زقزقة العصافير وهديل الفواخت، يجلس كل منا في طرف، نادرا ما أتحدث معها، أنا أحب الصمت، لا أحب الثرثرة كثيرا، عندما يحلُّ الليل ينسحبُ الرواد.
ننهضُ سويا بلا كلام ونعود أدراجنا في ذات الشارع الذي تتصطف على جانبيه الأشجار العارية والأضواء الخافته المعلقة برقاب أعمدة حديدية حانية رؤوسها نحو وجه الشارع الإسفلتي، نجلس في بيتنا نجتر الماضي نأكل ونشرب وننام.
ماتت زوجتي، توقّف قلبها المصاب بالعجز ذات ليلة.. فرغ البيت منها، تركتني وحيداً، مراسيم الدفن لم يحضرها سواي.. أنا والدفّان العجوز فقط، كعادتي أخرج لوحدي، أقطعُ الشارع الطويل، أجلسُ على الأريكة ذاتها في الطرف خاصتي.
الطرف الآخر خاليا إلاً من طيفها وهي تجلس واضعةً ساقاً فوق ساق، تنسج لي بالسنارة بلوزة لبرد الشتاء القادم، خرجتُ في اليوم الذي يليه، لم أجد الأريكة في مكانها، رأيتُ مكان قوائمها محفورا، كأنما اقتلعت من جذورها.
سألتُ عن مدير الحديقة أرشدوني إليه.. عاتبتهُ على رفع الأريكة من مكانها، أخبرني أنها فُقدت منذ الصباح ولا أحد يعرف أين اختفت، انقطعتُ عن زيارة المكان بعد أن عنّفتُ المسؤول بشدّة.
بعد أيام توجّب عليّ زيارة قبرها في طرف المدينة، عند دخولي المقبرة فوجئت بوجود ذات الأريكة قرب قبرها! .. استفسرتُ لدى الدفّان عمّن وضعها حذاء قبر زوجتي، أجابني قائلا:
_للمرّة الأربعون، أُأمرُ غلماني بحمل الأريكة ووضْعْها في غرفة مكتبي.. نعودُ في صباح اليوم التالي لنجدها في المكان نفسه قرب القبر.. ماحكاية الأريكة من فضلك؟!

 

عرض تحليلي نقدي لقصة “عذراء شنكال” للقاص عبد الكريم الساعدي بقلم الناقد: علي البدر

عرض تحليلي نقدي لقصة “عذراء شنكال” للقاص: عبد الكريم الساعدي بقلم الناقد: علي البدر

 العرض التحليلي النقدي:
“ومن يضيء أشلائي الراقدة على رمال الذبول؟ وكيف سأقابل أبي؟” أجل. معاناة لإنسانة انتهك شرفها وبيعت في سوق النخاسة كبقية الفتيات الأزيديات وانتهى بها المطاف في خيمة للمشردين من ديارهم حيث تدخل الدكتورة ثناء ليطالعها “وجه ذابت ملامحه، عيناها تبرقان حزناً..” فتلقي نفسها في أحضان ثناء، تدس أنفها بين ثنايا الصدر.. تغوص في ركام من قلق..” وتجهش باكية ” فقد أفسد الزمن رقتي وهتك أستار معبدي.” ياترى.. كيف يفسد الدهر رقة إنسانة تمسكت بعفتها التي انتهكها الإرهاب في غفلة من الزمن؟ إنها إذن في حالة نفسية متردية جعلتها تفقد إحساسها بالقيمة الأساسية للحياة التي سلبت منها كل شيء.. عائلة لا تعلم مصيرها ورفيق قد يكون حبيباً أو خطيباً نزف ورداً أحمر قانياً ” فقد نحروا سعيداً عند منعطف جنوني… أحرقوا قريتنا، ساقونا جواري لأسيادهم..” ضمن سلسلة حوادث دامية لتبدأ فيها “رحلة موتنا..” وما أقساها من رحلة بربرية أبطالها يرتدون ثوب الدين لينفذوا أجندة سياسية خطط لها منذ زمن ” فقد وطأتنا وجوه كالحة وكنا فرائس العمى، تسري بنا شهواتهم ليل نهار… يباغتنا حضورهم كل ليلة في جداول معلقة على كتف الأيام ولما قطفنا الأحتضار باعونا في سوق العبيد..” وكان هذا كافياً لانهيارها باكية، تلطم وجهها رغم محاولة الدكتورة في تهدءتها بأنهم “سينالون جزاءهم و… لم يكن الأمر بيدك” فأنت “لست الملومة على ماجرى.” ولكن.. ” من يعيد لي سعيداً وأحلامي المذبوحة على دكة الفجيعة؟ ومن يضيء أشلائي على رماد الذبول؟ وكيف سأقابل أبي؟ “ذلك الإنسان الذي حرص علي طيلة هذه السنين.. يا إلهي ماذا دهاني؟ أتراني لا أستحق الحياة.. أبي كيف أواجهك وأستار العار تلفني.. وهكذا تستمر بانهيارها و “تلطم وجهها ثانية، تخدش خديها، تمزق ما تبقى من أسمالها، يتعالى صريخها، تتشضى، تنتابها نوبة جنون، تسقط بين يدي ثناء مغشياً عليها” لتفيق بعدها وكأنها فقدت عقلها أو كادت. أحساس بواقع ممزوج بلحظات جنون قد يغادرها أو ربما يلازمها الى الأبد.. ” تحدق في الفراغ، تتجاهل الحضور، يتوقف البصر عند ملامح ثناء..” فتلتفت هامسة:
– ” أريد أن أسرك بأمر لا يعرفه أحد، فهل تصدقيني؟ “
– ” نعم حبيبتي، سأصدقك.”
– أنا ماريا.. مازلت عذراء..”
يحاول القاص عبد الكريم الساعدي في هذا النص الواقعي الموقفي، توثيق جزء من مأساة الطائفة الأزيدية التي عرفت بوداعتها واحترامها واعتزازها بتقاليدها وعادات الطوائف المتعايشة معها. فكانت تلك القصة التي تخص ثيمتها theme عذراء شنكال التي اغتصبها الدواعش الذين غزوا البلاد ضمن مؤامرة خارجية وتعاون بعض الخونة من أبناء البلاد طمعاً بمنصب أو جاه على حساب خيانتهم لشعبهم.. وكانت ماريا إحدى الضحايا فقد تقصد الكاتب منحها هذا الاسم لتشبيهها بمريم العذراء أولاً وللتعبير عن احترامه للأخوة المسيحيين الذين عاشوا بأمان مع بقية أخوانهم.. انها حقاً توثيق حضاري ومنشور سياسي يكشف الحقيقة المرة التي واجهت شعبنا. وقد توزعت التفاصيل بين سرد حرص الكاتب على تركيزه “النداء يمتد، يقصف سمعها، يمازج دعاء مرتجفاً بصقيع السواد….” والتحدث بضمير الغائب أحياناً Third person ” ابنتي.. سأسفح نشوتي على قارعة الهجير، أرتدي عبق المغامرة، فأمسح دمعك هناك في الأصقاع النائية.” وبين الحوار Dialogue الذي حُصر بين الدكتورة ثناء وماريا، بعيدا عن الاسهاب معتمداً التلميح ومبتعداً عن التصريح ضمن بعد زمكاني عشنا وسطه وكأننا ضمن شخوصه، وقد زادته عمقاً وإثارة استعمال الكاتب لعبارات بدت كلماتها منسجمة ضمن ترابط Collocation مثل “يصدمها الصدى” وأيضاً ” يخرس المسير عند العتبة.” حيث تتوقف الدكتورة ثناء في سكون رغم الصراخ في أعماقها لتعطي دلالة التعاطف مع الضحية. وقد دارت القصة حول نفسها لتنتهي بجملة ” أنا عذراء “، لتطابق العنوان تماماً. إن الأحداث حيكت ببراعة جعلتنا نشعر بكامل السيناريو فقد امتلكت هذه القصة معاييرها الفنية وخصائصها التقنية واستندت على ركائز تدوينية جعلت النص يعبر عن ذاته ويتوغل لذهن القاريء بانسيابية أخاذة وتسارع ملفت للنظر، رغم أننا قد نشعر أحياناً بضرورة عدم استعمال أسلوب المجاملة من قبل عذراء منكوبة هدر شرفها وذلك عند حديثها مع الدكتورة ثناء ” سيدتي ثناء. لا أريد الانتظار . أريد ان أرجع الى شنكال.” وكذلك ” أتعلمين سيدتي. إني لا أخشى حرب قبائل…” وأعتقد ان الكاتب من حيث لايدري يعكس نفسه reveals himself من خلال تصرف مهذب لكنه قد يبعد المتلقي عن عمق الحدث وانسجامه مع السيناريو الذي حيك ببراعة. ولكي تكون قفلة القصة conclusion منسجمة مع الواقع جعل الكاتب ماريا في حالة انهيار أدت إلى غيابها عن الوعي لتفيق وكأنها فقدت جزءاً من عقلها ” تحدق في الفراغ، تتجاهل الحضور، يتوقف البصر عند ملامح ثناء. تبتسم، تهمس في أذنها……. أنا ماريا.. مازلت عذراء.”
ولو كانت ماريا في كامل عقلها وصرحت بعذريتها لدخل النص في تناقض لا يحسد عليه، بين حزنها على مأساتها وتصريحها هذا. ولكن الكاتب وبذكاء منحها حالة من الغيبوبة، وهي حيلة لاشعورية تخلص الأنسان من موقف فوق طاقته، كانت نتيجتها شروداً ذهنياً جعل زعمها بأنها لازالت عذراء مقبولة جداً. وقد نتساءل: مالسبب الذي جعل القفلة هكذا؟ وقد يكون الجواب مقنعاً لي على الأقل وهو التركيز على ان ماريا لازالت طاهرة نقية فهي عذراء الروح والنفس الأبية ولابد أن تبقى طاهرة نقية اعتدي عليها ماديا لكن قيمها لازالت نفس القيم التي تربت عليها، كما أن شرودها الذهني يخلصها، إن استمر، من الأحراج الذي ستواجهه مستقبلاً وهي بين بقايا عشيرتها أو عائلتها وفي حضن أب يخفف عنها مأساتها.. ويمسح دموعها.. “ابنتي..سأسفح نشوتي على قارعة الهجير، أرتدي عبق المغامرة فأمسح دمعك هناك… في الأصقاع النائية.”
القاص عبد الكريم الساعدي… يسلم ابداعك.. تحياتي.

(القصة)
عذراء شنكَال*
توكّأت على صمت الريح، تستفزّها النخوة، تثيرها مواجع الخديعة، العتمة تحمل صراخاً موجعاً، كانت تبدو مثل فراشة تنشد وهج الحرائق، تساير طريقاً يلهث بالمسافات، يمتدّ أسى من عينيها حتى سوق (عبيد الجنس)، تتقافز أسئلة ومخاوف من النهايات، متاهات تشهق بالمجهول، صوت يجزّ صمت الشفاه:
– من أين سنبدأ؟
– من المخيم.
النداء يمتدّ، يقصف سمعها، يمازج دعاء مرتجفاً بصقيع السواد، يغفو على أسمال مزقّتها مخالب الغدر، مازالت تشدو خوفاً:
– من يضيء أشلائي الراقدة على رماد الذبول؟
كم عذّبها النداء، ترتجف أناملها الناعمة فوق أسطر من دمع شلّالاً ينفض غبار السكون:
– ابنتي، سأسفح نشوتي على قارعة الهجير، أرتدي عبق المغامرة؛ فأمسح دمعك هناك، في الأصقاع النائية.
تيمّمت زمناً تكدّر فيه الصفاء، تستقي من وجه الصباح دثاراً لخطواتها، وتمضي على جمر الفجيعة، أرامل فقدنَ وهج المواقد، زوجات يربكهنّ اللقاء، فتيات بعمر الورد، يترجّل الدمع من عيونهنّ، يمازج عشب القرى، يتلو وجد القلوب الكسيرة، تهرّأت آخر الخطوات حين لاح المخيّم عن بعد، تتوقف دكتورة ثناء، تحبس أنفاسها، يصدمها الصدى، صدى صراخ جسد فرّت أشلاؤه بين أنصال حادّة، تبحث عن آخر الخطى، الطريق ملبّد بالوحل، يئن بأنفاس ثكلى، تتقافز على جانبيه صبية، يرتدون البرد جلباباً؛ فيرتسم الدمع سلاماً على خدّيها، تبتلع رضاب الترقب، يلفحها سموم الجواب:
– هناك، في تلك خيمة.
ما زالت الخطوات عليلة، ينبجس من تحتها ينبوع حنين، تذري لهفة للعناق، يوخزها القرب، يشرئب باب الخيمة خجلاً:
– دعوني وحدي.
يخرس المسير عند العتبة، تمدّ يدها، تزيح طرف الخيمة جانباً، يطالعها وجه ماريا، وجه ذابت ملامحه، عيناها تبرقان حزناً، تتوهان في مهبّ الخجل، تلقي نفسها في أحضان ثناء، تدسّ أنفها بين ثنايا الصدر، تنفض بقايا حشرجة، ينسج الخواء خيوط الإحباط، يتفجّر خوفها، تغوص في ركام من قلق، تمسح ثناء رأسها، تكفكف دمعها:
– لا عليك، أنت بين أهلك، ارفعي رأسك.
– لقد أفسد الزمن رقّتي، هتك أستار معبدي.
تتّجه صوب نافذة الخيمة، تمدّ رأسها، لا أحد، تفتح سرّها بحذر، تهرول ناحية الأمس، تجلدها سياط التذكر:
– كنت أنا وسعيد يختطفنا الشوق، نراقص أحلامنا البريئة، نغرق في دفء الهمس، فرحين، تغازل خطانا الدروب…
تجهش بالبكاء، تفيض عيناها دمعاً، ترتجف خوفاً، تصرعها صور مرعبة، صور تقهقه بالقتل:
– لقد نحروا سعيداً عند منعطف جنوني، كان ينزف ورداً أحمر، أحرقوا قريتنا، ساقونا جواريَ لأسيادهم، وتبدأ رحلة موتنا، وطأتنا وجوه كالحة، كنّا فرائس العمى، تسري بنا شهواتهم ليل نهار، لا يعرفون غير مفارق الأرداف، وانفراج السيقان، نستحمّ في موج مائهم، يباغتنا حضورهم كلّ ليلة في جداول معلّقة على كتف الأيام، ولمّا قطفنا الاحتضار باعونا في سوق العبيد، تطأطئ رأسها، تكتم شهقة، تختنق بدموعها:
– لا تبكِي، حبيبتي، سينالون جزاءهم.
تصرعها نوبة هلع، تلطم وجهها، تتعثّر بانطفاء بكارتها، تتقاذفها الظنون:
– لكنّي أخشى الفضيحة.
تتوهج ثناء حناناً، تضمها بين ذراعيها، تحنو عليها، تجفّف دمعها:
– لم يكن الأمر بيدك، لست الملومة على ما جرى.
– سيدتي ثناء، لا أريد الانتظار، أريد أن أرجع إلى شنكال.
تطوّقها اللوعة، يصرعها العطب، ترتعد، أسئلة حائرة تنفلت من شفة قنوطها، تنغرز في عيني ثناء دهشة:
– ولكن، من يعيد لي سعيداً، وأحلامي المذبوحة على دكّة الفجيعة؟ ومن يضيء أشلائي الراقدة على رماد الذبول؟ وكيف سأقابل أبي؟
تلطم وجهها ثانية، تخمش خدّيها، تمزّق ما تبقى من أسمالها، يتعالى صريخها، تتشظّى، تنتابها نوبة جنون، تسقط بين يدي ثناء مغشيّاً عليها، تخرس دقات الساعة، تتقوقع ثناء في لجة الغياب، تتأمل وحشة المكان، يحاصرها الانتظار، تهزّها أحلام ماريا النافرة، وصراخ سعيد، تنعدم الرؤية، تفقد خطواتها في عتمة الأوهام، تتطاير، تحلّق في دوائر مغلقة، تهبط على انفراج وعي ماريا:
– سلامات، حبيبتي ماريا.
تحدّق في الفراغ، تتجاهل الحضور، يتوقف البصر عند ملامح ثناء، تبتسم، تهمس في أذنها:
– أتعلمين سيدتي أنّي لا أخشى حرب القبائل؟
– ولا أنا.
تلتفت هامسة:
– أريد أن أسرّك بأمر لا يعرفه أحد، فهل تصدّقيني؟
– نعم حبيبتي، سأصدّقك.
– أنا ماريا، مازلتُ عذراء.
*شنكَال (سنجار): قضاء يقع في شمالي العراق.

قراءة تحليلية في نص “محاولة أخيرة للموت” للكاتب فتحي إسماعيل بقلم الناقد: محمود عودة

قراءة تحليلية في نص “محاولة أخيرة للموت” للكاتب فتحي إسماعيل بقلم الناقد: محمود عودة
النص:
محاولة أخيرة للموت
في آخر مرة حاولت أن أموت فيها، توقف النعش على أبواب المقابرفجأة، فقد كان والدي يتقدّم مظاهرة من موتى عائلتنا تحول بين النعش والمقابر قائلاً:
– إنه صغير وما زالت أحلامه محلّقة، من سيحقهها؟
تراجع النعش ودفع حامليه للتراجع مما تسبب في ارتباك وهرج ارتفعت معه الأتربة، وما كاد النعش يستدير عائدًا نحو البيوت حتى اعترضته مظاهرة أخرى يقودها أخي يتبعه أفراد عائلتنا الأحياء، ترفض عودتي، كان أخي يقف ثائرًا وبيده دفاتر وأوراق.
حضر العمدة ومأمور المركز وقيادات الأمن واستعانوا بفرقة أمن مركزي في محاولة لفض إحدى المظاهرتين دون فائدة، اقترب من النعش أحد المعممين لا أعرف صفته، همس لي:
– مت يا بني، الموت عليك حق.
ليتني كنت أستطيع الكلام لكنت لعنته، أو الحركة لصفعته، الغبي ألا يرى أن الأمر ليس بيدي وأنني ميت بالفعل، الحقيقة أنا نفسي كنت في شدة الحرج والرغبة في حل ونهاية لتلك المهزلة، و لم يكن بيدي غير الصمت والانتظار، مع اقتراب المغيب بدأت وفود السائرين خلف جنازتي تقل تدريجيًا، تسرّب بدايةً واحد خفية ثم اثنان، ومع سقوط الشمس خلف الجبل الذي يحيط بالمقابر لم يتبقّ غير بعض المخلصين من حاملي النعش، وبعض المنافقين الذين يتبعون أخي، وعسكري أمن مركزي اتكأ بكتفه على حائط “لبني” متصدّع، بينما مظاهرة الموتى لم يتغير فيها شيء بل أظنها قد ازدادت عددًا وتماسكًا،بدأت أشعر بالبرد، الوحدة والصمت أصاباني بغضب دفعني أن استجمع قواي وأفض الغطاء المزركش الذي يحيط بالنعش، نهضت نازعًا قماش الكفن عن وجهي، أصابت الرجفة بعض المحيطين فتدافعوا، نظرت نحو أبي بأسف، وتسللت من وراء العسكري مغادرًا المقابر.
مضت أزمنة وأنا أتجوّل بكفني القديم، أحصي الموتى العابرين إلى قبورهم وأبحث عن رفيق يساعدني في خطة العبور دون خوف… إلى موت آمن.
(القراءة)
العنوان يشي إلى أن هذه ليست المحاولة الأولى بل سبقها محاولات، ومن ثم أسأل كمتلقي لماذا المحاولة وهل هو انتحار أو هروب من واقع مؤلم ومرير وعجز عن تحمل كوارثه ومصائبه وبما أنها ليست المحاولة الأولي فهو تلغيز صريح لحالة القهر والشقاء منذ فترة طويلة.
بدأ النص سرده الشيق على لسان البطل والرواي في نفس الوقت “في آخر مرة حاولت أن أموت فيها” وهي بداية لصراع يتقمصه النص بين الأموات وهو مشهد فنتازي عرضه الكاتب بحرفيه للصراع الأبدي بين المتشبثين بالدنيا والحياة وما يلحق من تزييف وتملق، والزاهدين بشفافية الأخلاص والحرص على الخير، فجأة يظهر والد البطل وقد خرج من رمسه يقود ثلة من ساكني المقبرة من أفراد عائلة البطل وقد خرجوا من أجداثهم في مظاهرة تحول بين النعش والمقبرة لأن الأب يرفض موت ابنه قائلاً “إنه صغير وما زالت احلامه محلقة، من سيحققها” عبارة تحمل الكثير فلو مات الشباب من سيحقق أحلام الوطن والموت ليس فقط بالجسد بل موت الجهد والعمل، ومن وجهة نظري كمتلقي أرى هذا المشهد احتجاج من الأب على محاولة ولده المتكررة للموت لما تحمله من ياس واستسلام .
يتراجع النعش ويسحب معه المشيعين حتى يقترب موكب الجنازة المتراجع من البيوت حتى يصتطدم بمظاهرة أخرى يقودها أخ البطل ويتبعه أفراد العائلة الأحياء ويبدو هذا الأخ ثائراً ويحمل في يده أوراق ويرفض عودة اخيه، وكمتلقي راودني سؤال عن السر الذي تحتويه الأوراق التي يحملها أخ البطل، هل هي أوراق أرث أم أوراق شهادة الوفاة؟ وترك الكاتب هذا السر بدون توضيح وليسرح فيه فكر المتلقي كيفما شاء. ولكني أراه كمتلقي يحمل تلغيز إلى تعارض مصالح الأخوة فأحدهما مخلص لعائلته وبلده والأخر يركض وراء مصالح شخصية ولذا ينهض الأب من مرقده في تظاهرة رفض موت الأبن تبعه أموات العائلة وتظاهرة الأحياء من العائلة بقيادة الأخ الرافضة لعودة البطل ويحتد الصراع لدرجة تستدعي العمدة ومأمور المركز وقيادة الأمن المركزي لفض أحد المظاهرتين، وتبرز في وسط هذا المشهد الخيالي شخصية معممة مجهولة الصفة تقترب من النعش وتهمس للبطل “مت يابني، الموت علينا حق” فيندهش البطل الميبت ويشرح لنا الكاتب بلسانه حالته المضطربة وهو يستهزء من الشخصية المعممة والمجهولة وتمنى أن يتمكن من صفعه وهو تلغيز ايضاء من الكاتب لفئة المتسترين خلف الدين وهم ينافقون ويتملقون من أجل تحقيق مآربهم ومصالحهم الخاصة.
ويصل بنا الكاتب مع بطله الشبه ميت إلى المشهد الأخير من النص المخاتل، فقد أصاب البطل الجزع والحرج الشديد وتمنى انتهاء هذه المهزلة ولكنه لايجد أمامه سوى الانتظار، وهي بالقطع لن تنتهي ما استمرت الحياة لأنها الصراع الدائم بين الخير والشر بين المخلصين والحريصين على العائلة والوطن من الأفراد الأموات وحاملي النعش، والمنافقين والمتملقين من أفراد العائلة الأحياء.. وهو أضاء صراع بين المحافظ على تراث الأجداد والمتلق للحاضر بكل مآسيه. ويتجلى هذا المشهد في منظر العسكري وهو يتكأ بكتفه على حائط لبني متصدع بينما مظاهرة الموتى لم يحدث فيها شيء بل تتزايد وتتمسك أكثر في نفس الوقت الذي ينسحب الواحد تلو الآخر من المظاهرة الأخرى وهو أيضا تلغيز إلى أن التراث والأصالة لن تندثر ابداً مهما فعل المستحضرين والمتملقين، ويرمز الحائط وقد جعله الكاتب حائط لبني بحرفية لارتباطه بالأرض فهو بني بلبن الأرض وطين الأرض وما التصدع إلا رمز للصراعات التي تدور في الوطن.
ونصل إلى الحبكة والتي تأتي بانتفاضة البطل بعد أن استجمع قواه وينفض الغطاء المزركش وينزع قماش الكفن عن وجهه ويتسلل وراء العسكري وهو ينظر بأسى إلى والده وكأنه يعتذر له لعدم تمكنه من تحقيق حلمه ولا حلم والده.. وجاءت القفلة المخاتلة بعد أن غادر المقبرة يجوب الأزمنة بكفنه القديم يحصي الموتى العابرين إلى المقبرة وهو ينتظر صديق يعبر به إلى موت آمن… والسؤال هنا.. هل يوجد في الموت أمن وأمان..؟
كل التحية للكاتب المبدع فتحي إسماعيل على النص الرائع الذي استفزني وارجو أن تروق قراءتي لكم جميعا

الناقد: محمود عودة في قراءة تحليلية لنص (قراءة سليمة) للكاتبة: ميسون قاسم السعدي

الناقد: محمود عودة في قراءة تحليلية لنص (قراءة سليمة) للكاتبة: ميسون قاسم السعدي

النص
====
قراءة سليمة
رفعت الصغيرة عيونها نحو أمها، وقد أحست بارتجاف جسدها حين نشجت باكية.
سقط سؤال من شفتيها الصغيرتين: لماذا يقولون أن الكبار أقوياء..؟؟
عبثت الأم بمحتويات حقيبتها، لم تجد شيئا تلهي أطفالها به عن رؤية ما يحيط بسيارة تنهب الطريق مسرعة، تحسبا من رشقات الرصاص من إحدى الفصائل المتقاتلة. أحاطت أطفالها بذراعين مرتجفتين… بادرتها الصغيرة بكلمات رشيقة: أمي تعلمت القراءة أسرع من رفيقاتي، أشيري على أي يافطة من النافذة أقرؤها لك.
– حقا.. أي شيء !؟
حدقت من النافذة.. المحلات تداعت، واجهاتها تكومت على جوانب الطريق، على ماذا تشير..!؟ قرأت الصغيرة من النافذة يافطة زرقاء ملتوية الجوانب: القيادة فن وذوق وأخلاق.
ـ أمي هل قراءتي سليمة ؟ .
ربتت على كتفها،نعم، اخفضي صوتك.
-أمي !!… لماذا..؟ قراءتي صحيحة تماما.

القراءة
====
لفت نظري لأول وهلة عتبة النص وهو العنوان ” قراءة سليمة ” وعليه توقعت أن أقرأ درس في اللغة العربية ولكن بعد خوض رياح المتن، وجدت نفسي أمام درس سياسي أو نقد سياسيي وربما درس أخلاقي.
بدأت الكاتبة نصها بنظرات من عيون طفلة صغيرة إلى جسد أمها المرتجف رعبا وإلى عيونها الدامعة ألما، فسقط سؤال من شفتيها الصغيرتين “لماذا يقولون الكبار أقوياء” وهنا أقف لحظة أمام مغزى هذه العبارة وإن جاءت عفوية من طفلة وأرى أنها لا تعبر عن تفكير طفلة ، لذا فلو جاءت لماذا يقولون أن الكبار لا يبكون ربما تكون معبرة أكثر عن حكي طفلة في عمرها بالكاد تتعلم القراءة .. وهنا يبدو المغزى واضحاً ربما هو ما أرادته الكاتبة من جعل سؤال الطفلة أكبر من سنها أى أن الكبار أقوياء قطعاً بفكرهم وحكمتهم وهي المفقودة في الظروف الحالية.
ثم تأخذنا الكاتبة إلى الوضع المؤلم بحالته السيئة من الدمار والقتل في الوطن نتيجة تراشق المتقاتلين من الفصائل المتعددة برصاصهم الغبي بلا وعي ولا هدف، سوى القتل العبثي .. ” عبثت الأم بمحتويات حقيبتها ” فلم تجد شيئاً تلهي أطفالها به عن رؤية ما يحيط بسيارة تنهب الطريق مسرعة، تحسباً من رشقات الرصاص من إحدى الفصائل المتقاتلة ” .. بهذه الفقرة وضعتنا الكاتبة في خضم الحالة المأساوية في الوطن وذلك من خلال أم تهرب بأطفالها داخل سيارة من جحيم الموت المحيط بها من عبث الفصائل المتقاتلة بلا رحمة ولا شفقة، فلم يسع الأم سوى أن تحيط أطفالها بذراعين مرتجفين، عندما بادرتها الطفلة الصغيرة والأكثر شقاوة من أشقائها، فلم تقدم لنا الكاتبة شيئا عنهم، ربما حرصت الكاتبة على التكثيف، لذا وجدت لا ضرورة للتحدث عنهم أو ربما وجدت أنه لايخدم الهدف من النص ولكني أرى أن التكثيف هنا على حساب الحالة الإنسانية للنص.
بعد حالة الرعب والقلق والاضطراب نقلتنا الكاتبة إلى صلب الهدف المنشود في النص، وذلك من خلال ذكاء وشقاوة الطفلة التي تتحدث متفاخرة بقدرتها على القراءة وقد تعلمت بسرعة تفوقت بها على زميلاتها في المدرسة، بقولها لوالدتها “أشيري على أي يافطة من النافذة أقرأها ” فيأتي جواب الأم المندهش ” حقاً .. أي شيء” .. حدقت الأم من النافذة، وجدت المحلات تداعت وتكومت واجهاتها على جوانب الطريق فلم تجد ما تشير إليه لتقرأه ابنتها، في نفس اللحظة يشدها صوت الطفلة وهي تقرأ من خلال النافذة يافطة زرقاء ملتوية الجوانب ” القيادة فن وذوق “.. استوقفني لون اليافطة والتواء أطرافها ولماذ اختارت الكاتبة اللون الأزرق دون أي لون آخر والتواء أطرفها وفورا تبادر إلى ذهني علم العدو الصهيوني بخطيه الزرقاويين وبينهما نجمة سداسية بنفس اللون الأزرق، ومن هنا راودني سؤال: لماذا اختارت لليافطة الزرقاء عبارة القيادة فن وذوق؟ هل تريد الكاتبة الإشارة إلى تفوق العدو الصهيوني قيادة وذوقا على قياداتنا العربية وخاصة في البقاع الملتهبة..؟ ثم تستمر الكاتبة في التركيز على هذه النقطة عند سؤال الطفلة لأمها “أمي هل قراءتي سليمة” فتربت الأم على كتفها بإعجاب مع عبارة تعكس الرعب الذي يعيشه المواطن العربي في وطنه من قهر بعض الحكام بقولها لابنتها اخفضي صوتك.. وهنا تتفوق الكاتبة في التعبير عن صرخة تخرج من الطفلة بكل براءتها لكنها نابعة من قلب كل مواطن عربي شريف متمسك بأرضه ووطنه …. أمي لماذا ..؟ … قراءتي صحيحة تماما..
نعم قراءتها سليمة وصحيحة تماما ولكن العيب ليس في القارىء ولكن العيب في المؤلف وهنا تبدو الصورة واضحة بين الحاكم والمحكوم وهي كالقارىء والمؤلف فليس أما المتلقي سوى القراءة ……..
كل التحية للكاتبة المبدعة على نصها الرائع وأرجو أن أكون وفقت في سبر غور النص.

الناقد: أحمد طنطاوي (النظرية النسبية ثورة على وهم اليقين المطلق، والحقائق الثابتة) قراءة في نص “البعد الرابع” للكاتبة: رجاء بقالي

قراءة تحليلية في نص “البعد الرابع” للأديبة: رجاء البقالي

بقلم الناقد: أحمد طنطاوي

(النص)

البعد الرابع
عربات قطار مكشوفة تسير إلى الخلف بسرعة الضوء،
على الرصيف أجهزة تحكم عن بعد..
لا لا، كيف صدقتم؟ الحقيقة أن القطار لم ينطلق
إلى ..
أقلتُ إلى الأمام؟!
و عرباته معتمة موصدة..
المشكل الوحيد الذي يؤرق الطفل وهو يحرك
لعبة العيد:
“كيف أجعل هذا القطار اللعين ينطلق خارج مساره
الدائري؟”
يرمي بكل الأجهزة، لكن القطار يدور و يدور ..
لأجل هذا، فلن يلبس ثياب العيد
لن يخرج ليلعب مع أبناء الجيران
لن يأخذ من الأهل عيديته، لن و لن ولن …
بين الركام، كان ينام عند قبر أمه..
بيده لفافة من ورق ملون، عليها بقايا فتات، و قطار
لا يتوقف عن الدوران …

القــراءة:
نص أصابنى بالدوار حين فكرت من أى زاوية أبدأ ؟؟
إنه يحاكى مغزاه النسبى الرياضى، ومعادلاته فيزياء للروح والعقل، النص يصيب بالارتباك.. ارتباك يماثل عرض المرايا المحدبة والمقعرة والمستوية لمنظر واحد فى نفس الوقت، ووسط ضوء ساطع يصيب العين بالانهاك والحيرة التى تتعداها إلى مسالك الروح والعقل معًا..
إن العقل مدرب على تناول الجزئيات فى شكلها المرتب المنطقى المتسلسل، وهذا النسق يستحضره العقل حتى مع المفردات المبعثرة، لكن المشكلة هى فى هذا [البعد الرابع]هذا المفهوم الجديد الذى يطرق أبواب الغرائب والمستحيلات، فإذا تجاسـرنا على مزج المفهوم الرياضى ليتوغل فى ثنايا الروح ويلامس راية الموت فى عقل طفل عالمه فى الحياة هى البراءة المطلقة ومداعبات النسيم لوجهه الصبوح وتحليق الفراشات الناعم، فلنا حينئذ أن نقف فى صمت أمام جلال التناول وعمقه المذهل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقدمة ضرورية وإضاءة: الحركة والالتباس اليقينى:

“عربات قطار مكشوفة تسير إلى الخلف بسرعة الضوء،
على الرصيف أجهزة تحكم عن بعد..
لا لا، كيف صدقتم؟ الحقيقة أن القطار لم ينطلق
إلى ..
أقلتُ إلى الأمام؟!”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{القطار يسير الى الخلف.. والحقيقة إنه لم ينطلق إلى الأمام}
والحقيقة أن الجزم بأى من (الحقيقتين) بالنسبة إلى القطار هو أمر مشكوك فيه وثمة احتمال ثالث لم يتم التصريح به وهو سكونه.. فقد تم نفى الحركتين المتعاكستين (الأمام و الخلف) وتم السكوت عن حال السكون. كل تحديد سيكون خاطئًا, لان الحركة هى فى كل الاتجاهات فى هذا الكون,،والتقدير هو نسبى طبقًا (لموقع) الرائى. لا يمكن تقدير (الوضع الحقيقى) لأى شىء فى المكان، والممكن فقط فى هذا التشوش والارتباك هو تقدير الموضع (النسبى) إلى شىء معين، مع ملاحظة أن هذا الشىء المعين هو الآخر فى حالة حركة. فلا يوجد المكان المطلق فى رأى آينشتين.. بل هناك دائما مقدار متغير ونسبى” و يستحيل تقدير وضع أى جسم فى المكان، وإنما علينا أن نقدر وضعه بالنسبة الى متغير بجانبه وفى العام 450 قبل الميلاد تقريبًا حاول ” زينون الإيلى” نفى الحركة بحجج كثيرة منها حجة السهم، فلو تصورنا أن سهمًا قد انطلق من مكان الى آخر فإنه لن يتحرك لأنه سوف يوجد فى مجموعة من الآنات الزمانية المنفصلة، وحالته فى كل آن من هذه الآنات هو السكون التام لأنه لا يمكن أن يكون فى نفس هذا الجزء من الثانية فى مكانين مختلفين.
إلا أن حجج زينون ضد الحركة والتى من ضمنها حجة السهم هذه افترضت أن المكان يمكن أن ينقسم الى أجزاء، وأن هذه الأجزاء يمكن أن تكون متماثلة مع أجزاء الزمان.
وقد ثبت بعد ذلك أن كثير من حججه كان يشتمل على مغالطة فقد فاته أن مقدار المتوالية الهندسية اللا متناهية يكون لا متناهيا إذا كانت النسبة المشتركة أقل من (1)
وبما أن المكان المطلق غير معترف به فى النظرية النسبية لأنه “مقدار متغير يدل على وضع جسم بالنسبة لآخر”، وبما أن الأجسام كلها متحركة فيلزم أن يرتبط المكان بالزمان، ولتحديد وضع جسم ما نقول:
هو فى (المكان) كذا … فى الوقت (كذا).. لأنه متحرك دائما.. وقد وصف” آينشتين ” الزمان بتعبير بليغ قائلا:
“إنه تعبير عن انتقالات رمزية فى المكان”
وحقا قال، لأن زمننا يستخدم _السنة والشهر واليوم والساعة و _ هى رموز تعبر عن دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس. _ الزمان والمكان إذن مقولتان فى متصل واحد “متصل الزمان/ المكان” أو “الزمكانية” Space_ Time continuum

البعد الرابع
الهندسة الإقليدية المستوية هى ثنائية الأبعاد ______ (طول وعرض)
والهندسة الفراغية ثلاثية الأبعاد ـــــــــــــ لأنها أضافت البعد الثالث (الارتفاع)
والنظرية النسبية رباعية الأبعاد ــــــــــــــ فقد أضافت البعد الرابع وهو (الزمن)
(فتحديد موقع طائرة مثلا يستلزم البعد الرابع. لأنها متحركة تتغير فى المكان)
الطول والعرض إذًا بعدان سطحيان، طول وعرض، والعمق أو الارتفاع بعدحجمي، والزمن بعد حركي {إذا تحرك الحجم شكّل زمناً، وهو البعد الرابع للأشياء فيقال أن الطائرة تطير فى خط طول محدد وخط عرض محدد في ارتفاع محدد في (الوقت المحدد)}
وأحد تعريفات الإنسان _ حديثًا _ أنه (زمن):
وليد طفل صبى كهل شيخ هرم …… فى _ حركة دائمة _.. نعيش الزمن كل لحظة بالتقدم حتى نقطة محددة ونهاية محتومة عبَّر عنها ” مكبث”
فى المونولوج الشهير:
“غدًا وغدًا وغدًا، وكل غد يزحف بهذه الخطى الحقيرة يومًا إثر يوم حتى المقطع الأخير من الزمن المكتوب، وإذا كل أماسينا قد أنارت للحمقى المساكين الطريق إلى الموت والتراب، الا انطفئى، يا شمعة وجيزة!
ما الحياة إلا ظل يمشى، ممثل مسكين
يتبختر ويستشيط ساعته على المسرح،
ثم لا يسمعه أحد: إنها حكاية
يحكيها معتوه، ملؤها الصخب والعنف،
ولا تعنى أى شىء”

نحن إذًا أزمنة مختلفة _تتقاطع مع بعضها فى {الوقت} نفسه.. ؟؟!!..
فى نفس اللحظة {الملتبسة} الغامضة..
{أى لحظة..؟ وبالنسبة لمن .. وقياسًَا على أى شىء؟؟؟}
لكنا تجاوزًا نساير الأمور المجنونة المذهلة دون أن ندرى الضوء يسير فى خطوط منحنية لا مستقيمة والضوء مادة، والأشعة الضوئية لا تسير في خطوط مستقيمة.. وإنما تنحنى وفقًا لخطوط المجال.. فالانحناء والالتفاف والدوران إذًا هو قاعدة الكون وهو عنصر النص الهام اللافت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نسبية الحقيقة، والدوران شعار الكون والبعد الرابع (الزمنى)، تقاطعًا مع براءة طفل يحاول إيجاد معادلة الكون _ رياضيًا __ حتى ولو بحدس إشراقى غير مقصود و لا منظَّم على سطح اللغز الأعظم حيث تقبع أمه تحت الثرى، هو ما يجعل هذا النص [نصًا مجنونًا] إذا جاز التعبير.. فهو يطبِّق علينا _ نحن القراء_ قاعدة الدوران والالتفاف، فلا نستطيع الإمساك بضلع من إضلاع النص فائق الدوران وبسرعة الضوء فى معادلة أدبية جديدة فى علم [هندسـة الروح].

*رؤانا القاصرة، ونسبية الأحكام
“عربات قطار مكشوفة تسير إلى الخلف بسرعة الضوء..
على الرصيف أجهزة تحكم عن بعد..
لا لا، كيف صدقتم؟ الحقيقة أن القطار لم ينطلق
إلى..
أقلتُ إلى الأمام؟!
(النص)
” أنت جالس فى قطار متحرك..
إذا مر بك قطار آخر فى عكس الإتجاه.. خُيل اليك ان قطارك واقف والآخر هو المتحرك، و ستراه ايضا أسرع جدا من سرعته العادية، بينما سرعته هى نفس سرعة قطارك، و إذا كان سيره هو نفس اتجاه قطارك ومواز له.
ستعتقد أن القطاران واقفان. ولو أغلقت نافذة قطارك ستعتقد أن القطار ثابت لا يتحرك”

( مصطفى محمود أينشتين والنسبية)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كانت نظرية النسبية ثورة على وهم اليقين المطلق، والحقائق الثابتة بذاتها هى بالأحرى (قياسا إلى شىء آخر) ولا تُعرف تمامًا بذاتها فالأبيض يعرف بمقابلته بالأسود والقصير بالطويل، والعالى بالمنخفض، وأيضًا الزمن بفرضياته [الماضى الحاضر المستقبل] أثبتت النظرية أن الزمن كأنه موضوع تجاورًا على منضدة أفقية، وليس سلمًا صاعدًا فالمفهوم “والترتيب” يتغير من مكان لآخر فى الكون، فلو انفجرت الآن ثلاثة نجوم: الأول يبعد عن الأرض بمسافة سنة ضوئية.. والثانى بسنتين.. والثالث بثلاث سنوات ضوئية، فإن راصد على الأرض وآخر فى مكان مختلف من الكون تختلف المواقع بالنسبة إليه، سيحدث اختلاف هائل بينهما فى رؤية تتابع هذه الانفجارات.
_ .إذًا فإن (حادثاً في هذا الكون قد يكون في الماضي بالنسبة لمشاهد وفي الحاضر بالنسبة لمشاهد آخر وفي المستقبل بالنسبة لمشاهد ثالث)!!!!
وينتج عن هذا عدم وجود زمن مطلق (ساعة مطلقة) يشمل الكون ويستند عليه في تحديد الماضي والحاضر والمستقبل للكون كله. ونستطيع حينئذ أن نرى الأزمنة الثلاثة _ الماضى والحاضر والمستقبل _ وكأنهم موضوعين على منضدة أفقية متجاورين كوحدة، وليس على شكل تتابع وتسلسل رأسى.

استمر في القراءة الناقد: أحمد طنطاوي (النظرية النسبية ثورة على وهم اليقين المطلق، والحقائق الثابتة) قراءة في نص “البعد الرابع” للكاتبة: رجاء بقالي

الناقد: محمود عودة في قراءة لنص (فرط الحجر.. كوميديا النور والنار) للكاتب: محمد الشطوي

قراءة في نص الكاتب المبدع محمد الشطوي (فرط الحجر.. كوميديا النور والنار) وهي قصة قصيرة من المجموعة القصصية “الدانتيل الأسود” والتي صدرت حديثا للكاتب عن دار المختار النشر والتوزيع.. بقلم الناقد الفلسطيني: محمود عودة

(النص)

فرط الحجر (كوميديا النور والنار)

     أبو نضال:- يا لها من انتفاضة..! تفوق فيها الحجرعلى السلاح. نبلة ومقلاع.. بيد أبناء الضفة والقطاع، حار العدو في المواجهة، أبدى العجز والخور.. لقد تفوق الحجر.. لقد تفوق الحجر. [قبة الصخرة في خلفية المشهد، الربط واضح]، شواهد القبور.. قبور الشهداء والضحايا من حجر الرخام الأبيض مسجل عليها الاسم والتاريخ والحدث.. الحجر خير  شاهد على  ما  كان، إنه أخلد من البشر.. المشهد ينسحب ويمتد في عمق الزمان، وعمق المكان ملونا بأشعة الغروب الأرجوانية مشيعا بأهازيج، وتراتيل، وتكبيرات وتسابيح كلها لا تخلو من شجن، ولا من موسيقى جنائزية والليل معها يأتي  ثقيلا بطيئا  يسدل ستائره السوداء على أرض الميعاد.. 

    أحمد ماهر:.. مكانه الفارغ يلفت النظر منذ فترة.. المبنى رائع التنسيق والجمال في موقعه على النيل، لا  أحد يمر من  هنا إلا ويتعجب، ويتساءل: من انتزع هذا الحجر من الواجهة  الجميلة؟ ولماذا؟..

     لابد وأن هناك سرا  ما..!

     سهام  فتحي:.. من نفس مكان أحمد ماهر: كثيرا ما توقفت أمامه وتساءلت.. لماذا لم يوضع حجر مكانه؟.. أهم  يقصدون  ذلك؟

    دقات طبول تنداح بملء الفراغ.. ما من شيخ  ولا شاب ولا رجل ولا امرأة شاهد واجهة المبنى الجميل إلا ومني بما مني به  أحمد وسهام.. وكل يوم.. صباح مساء تتزاحم الأفكار وتتكاثر علامات الاستفهام..

    (المعلم) معلوف الجزار: يا فتاح يا عليم.. يا رزاق يا كريم.. يا قاعدين الله يكفيكم شر الماشيين، والجايين.. يخرج حجرا من محله الكائن أسفل المبنى على النيل، يمسك الحجر ويسن عليه سكاكينه..

    الحاج أبو الوفا:- هنا.. في مكة.. كيف يتأتى النوم؟ حول البيت، مع الحجر الأسود، وحجر إسماعيل، ومقام إبراهيم.  لا ينبغي أن تضيع لحظة من العمر بغير أج، ولا  يصح  لإنسان أن يتوقف عن الصلاة، والطواف، والسعي.. هنا.. لا نوم.اللهم.. اجعل نطقي ذكرا، وصمتي فكرا، ونظري عبرا، وعملي شكرا.. ولكي يرتاح القلب،  وتقر العين لابد من تقبيل الحجر الأسود.. نستعين بالله على الزحام. لا نلوم المتزاحمين حوله.. كلنا يهفو إليه  لمزيد من القبل.. قطعنا  المسافات، وعبرنا البحار والمحيطات. فكيف نعود دون  تحقيق  المراد؟.. أمس رمينا الجمرات.. رأينا الحجر كيف يضرب الحجر.. والعبرة في المعنى والرمز؟

– الشيخ الشعراوي:.. سبحان الله!.. حجر يقبَل،  وحجر يُرجم.. [حجر ينداس ، وحجر ينباس ]…

– الطبيبة أشجان رمزي:.. عشرات بل مئات الثوار من أبناء مصر في أيام مشهودة يصلون المستشفيات مابين قتلى وجرحى، تقرير الطب الشرعي عنهم يؤكد على أن السبب في كثرة الإصابات والدماء – غير الرصاص، والقنابل – هو الحجر، وكسر الرخام من فعل هذا بأبنائنا؟ من غذى أرض الميدان بدم الشرفاء المسالمين من أبطالنا؟ من هؤلاء الذين حولوا حجر البناء إلى حجر هدم وفناء؟

     في خلفية المشهد، الأهرامات الثلاثة تمثل قيمة الحجر عند الأجداد. يصحب المشهد صوت القارئ يرتل: (ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد)

القراءة
العنوان.. كما يقال هو العتبة التي يدخل منها المتلقي إلى فيحاء حجرة النص إما للنوم أو الاستمتاع… قبل دخولي إلى متن النص أتوقف كثيراً أمام العنوان الذي بدء بكلمة فرط وكأن الحجر هو ثمرة رمان، تنفطر إلى حصاوي وقطع صغيرة، وجعلني أتخيل الحجر فرط صخرة كبيرة ليدخل إلى كوميديا النور والنار، شدتني هذه الكلمات لأتابع مشهد مسرحي بطله الحجر الذي يصنع النار بحركات تتراوح بين القسوة والمرح لتخرج شرارة تشعل ناراً أما للنور بإضاءة شمعة أو سراج أو ناراً للطهي وربما أحياناً بنظرة سوداوية، لهيباً يلتهم الأخضر واليابس ويرجع ذلك كله عبر التاريخ إلى الإنسان بطل المشهد المسرحي وما يفرضه عليه ضميره ونوازعه الأخلاقية التي جبل عليها..
المتن.. حجرة النص مسرحية الحجر
المشهد رقم 1
بعد العنوان الجاذب بحنكة من الكاتب أدخل بحذر بهو حجرة النص وأنا أنشد الاستمتاع…. بدأ الكاتب نصه باسم أبو نضال وهو أسم مناضل فلسطيني يبدي دهشة إعجاب بالانتفاضة” يا لها من انتفاضة تفوق فيها الحجر على السلاح، نبلة ومقلاع”، هنا تتجلى الجمل الشعرية للكاتب الشاعر.. رغم السلاح الفتاك للعدو الصهيوني إلا أنه أبدى العجز والخور أمام بطولة أبناء الضفة والقطاع فقد تفوق بأيديهم الحجر في المواجهة، وبنقلة شاعرية سريعة من الكاتب يدخلنا مع تفوق الحجر إلى قبة الصخرة واستطاع الكاتب الربط بينها وبين الحجر في أيدي شباب وأطفال الانتفاضة، قبة الصخرة تبدو شامخة وهي تركيبة بديعة صنعها الإنسان من الحجر، ويستمر الكاتب بلغة الإدهاش والنقل السريع إلى ضحايا الانتفاضة، حيث يسمو الحجر كشاهد على بطولة هؤلاء الفتيان، ليقف شامخاً برخامه الأبيض ليؤرخ أسماؤهم ويسجل بحروف من نور مصدره الحجر تواريخ صولات المقاومة ببطولتها الباسلة للأجيال القادمة، ويستمر المشهد البطولي سيره ملوناً بأشعة شمس الغروب الأرجوانية كما لون قبة الصخرة ، وهنا أبدع الكاتب بعبارة شمس الغروب لأن الانتفاضة غاب وهجها وبريقها ولم يبق منها سوى الأهازيج وتراتيل وتسابيح كلها لا تخلو من شجن، أي حنين إلى ذكرياتها وتصدح مع هذه الذكريات موسيقى جنائزية تحية لأرواح الشهداء، فيما يتقدم الليل ليسدل ستائره السوداء على أرض الميعاد ، وفي هذه الفقرة تفوق الكاتب في توصيف أرض السلام الأرض المقدسة التي ستبقى نوراً يحلق في سماء الأمل، كما سيبقى السواد يغلف آمال الصهاينة بأرض الميعاد مهما طال زمن الاحتلال والقهر.
المشهد رقم 2
“احمد ماهر.. مكانه فارغ يلفت النظر منذ فترة” بهذه العبارة بدء المشهد وراودني سؤال من هو أحمد ماهر ؟ أهو شخصية معروفة في التاريخ؟ أم هو إنسان عادي من الشعب المصري شيد مبنى رائع الجمال والتنسيق على النيل ، تشوه بانتزاع حجر من واجهته ، مما حدا بكل من مر أمامه للتساؤل من نزع هذا الحجر ؟ من شوه المنظر؟ ولماذا..؟ وهنا تدخل يد الإنسان التي تضع الحجر في برواز الجمال أو في بؤرة التشوه والقبح.. وكأنه يقول يد تعمر وأخرى تدمر .
ثم يأخذنا برشاقة إلى اسم آخر.. سهام فتحي ونفس السؤال راودني من هي؟ فنانة مشهورة، أم سيدة مجتمع معروفة ؟ أم مواطنة مصرية ” من نفس مكان أحمد ماهر كثيراً ما توقفت أمامه وتساءلت لماذا لم يضع الحجر في مكانه؟ “وتستمر في التساؤل “أهم يقصدون” ويستمر المشهد بجعل كل من مر بهذا المبني إلا وتمنى أن يكون كما أحمد ماهر وسهام فتحي ويشتعل المشهد بزفة تدق فيها الطبول وكأنه منظر فرح أو مأتم مع تكاثر علامات الاستفهام وتزاحم الأفكار ليدخل علينا العم معروف الجزار بقوله “يا فتاح يا عليم.. يا رزاق يا كريم.. يا قاعدين يكفيكم شر الماشيين والجايين” ثم يخرج حجراً من محله الكائن أسفل المبنى على النيل، يمسك الحجر ويسن عليه سكاكينه.. هنا رسم الكاتب بانوراما رائعة لمنظر الإنسان الانتهازي ممثلاً في العم معروف الجزار، الذي نزع الحجر من واجهة البناية غير عابئ بما يسود الوجهة من تشويه أو تحطيم وتجلى ذلك بقوله يا قاعدين يكفيكم شر الماشيين والجايين ، فقد استغل الحجر لخدمة أغراضه ومصالحه الشخصية، وهو مشهد يتكرر عبر التاريخ متجاهلاً قيمة هذا الحجر في واجهة البناية وباختفائه ربما يسقطها على رؤوس الماشيين والجايين المتسائلين.
المشهد رقم 3
ندخل في هذا المشهد مع قيمة الحجر المادية والروحية ” الحاج أبو الوفا: هنا في مكة .. كيف يتأتى النوم؟ حول البيت مع الحجر الأسود، وحجر اسماعيل ومقام ابراهيم، مشهد روحاني مع شعائر الحج والعبادة لله سبحانه وتعالى، فهذا الحاج الذي قطع المسافات والبحار والمحيطات ودفع الأموال ليصل إلى البيت العتيق، وجب عليه ألا يضيع لحظة من تواجده دون صلاة أو طواف ثم تقبيل الحجر الأسود لكي يرتاح وتقر العين، فلم يكترث إلى زحام المتزاحمين على تقبيل الحجر الأسود دون تحقيق المراد.. ويستمر المشهد مع قيمة الحجر الروحانية “أمس رمينا الجمرات.. رأينا الحجر كيف يضرب الحجر .. والعبر بالمعنى والرمز؟.. هنا يتجلى فكر الكاتب في التعبير القوي عن شعيرة من شعائر الحج المهمة .. ثم ينزاح بنا الكاتب إلى الشيخ الشعراوي في توصيف الحجر” سبحان الله.. حجر يقبل، وحجر يرجم ..( وحجر ينداس وحجر ينباس)
المشهد 4
نقل الكاتب المتلقي والمشاهد بخفة ورشاقة من أجواء العبادة والحج إلى ثورة الشعب المصري في 25 يناير ليعرض لنا قيمة الحجر وأثاره في تاريخ الشعوب والأمم .
“الطبيبة أشجان رمزي.. عشرات، بل مئات الثوار من أبناء مصر في أيام مشهودة يصلون المستشفيات ما بين قتلى وجرحى” تقرير الطبيب الشرعي يؤكد على أن السبب في كثرة الإصابات والدماء غير الرصاص والقنابل، هو الحجر وكسر الرخام ويتساءل الكاتب ببراعة من فعل هذا بأبنائنا؟ من غذى أرض الميدان بدم الشرفاء المسلمين من أبطالنا، هؤلاء الذين حولوا حجر البناء إلى حجر هدم وفناء… وفي هذا المشهد يضعنا الكاتبة في المفارقة العجيبة في الوصف التاريخي للحجر منذ خلق الله آدم حتى يومنا هذا، وكيف استغله الإنسان كل على هواه، منهم من استعمله سلاح للدفاع عن نفسه ومنهم من استفاد منه للبناء والسكن وأخر استعمله في شحذ السكاكين وآخرون لقهر الشعوب.
المشهد الأخير
ينقلنا الكاتب في هذا المشهد إلى الأهرامات الثلاثة مع انزياح على القبور والشواهد الرخامية التى تخلد أسماء شهداء الثورة.. ويؤكد أيضاً تخليد قيمة الحجر كما خلده الأجداد بالأهرامات وهي قبور للفراعنة رغم قوتهم وجبروتهم في زمانهم وهو مشهد يبرز استغلال الإنسان عبر الأيام والتواريخ لأخيه الإنسان ثم يدخل الكاتب على المشهد خلفية رائعة مع صوت القارئ يرتل “ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد “
الخاتمة
تنتهي هنا مسرحية.. فرط الحجر.. كوميديا النور والنار وكأني أرى الكاتب يقول مهما فعلت أيها الإنسان واستخدمت الحجر للقتل او البناء أو البهرجة ومها تعلو وتسمو في بناءك فمصيرك إلى زوال ويبقى الحجر شاهداً على كل أفعالك.
كل التحية للكاتب المبدع الأستاذ محمد الشطوي على هذا النص الرائع واتمنى أن اكون وفقت في قراءته وتحليله.