أرشيف التصنيف: مقالة أدبية

الرمز والإبهام في القصيدة المعاصرة بقلم: د . فالح الكيلاني

 
القسم الأول
 
   مما لاشك في أن القصيدة المعاصرة هي (النص الشعري الحديث للقصيدة العربية أو وجهها الجديد الذي يحمل رؤية رومانسية رمزية في الأغلب) وقد ظهرت للوجود في الشعر العربي الحديث أو المعاصر على أيدي شعراء امتازوا بالتجديد من أمثال نازك الملائكة والسياب وصلاح عبد الصبور وأن تقدمهم قليلا أمين الريحاني في (قصائده النثرية) فهم أول شعراء هذا النوع من الشعر والذي يعتبر بذاته طفرة نوعية معاصرة أو جديدة أو تعتبر بداية قيام نوع من الشعر جديد.
  ولو راجعنا الشعرالعربي قديما وحديثا لرأينا أن هذا التجديد قد بدأ منذ القدم أيام الشعرالجاهلي ثم أيام الدولة العباسية لكنه لم يخرج عن قاعدة الشعر العربية وعموديته في القصيدة – الوزن والقافية – وذلك بقول الشعراء – أو استحداثهم للمربع والمخمس والمسمط أو إيجاد الموشح- في بلاد الأندلس ثم هجرة الموشح إلى شرق البلاد العربية فانتشر كثيرا باعتبار تغيير الزمن ونفسية الشاعر والمتلقي وحاجتهما إلى التطور أو بالأحرى مالت النفس التواقة إلى الغناء والرفاهية والخفة في الطبع على اعتبار أن الشعر هندسة أصوات يدخل بها الشاعر في نفوس الآخرين والتي قد تشبه عالمه الداخلي أو لواعج نفسه الإنسانية، بغية تحفيز الطاقة الشعورية لديه ودفعها إلى ممارسة عملية التزاوج الاجتماعي والواقع النفسي السياسي، وبانحسار استعمال الأشكال الشعرية العربية القديمة، وتزايد استخدام الأشكال والإيقاعات والصور المقتبسة من الشعر الأوروبي، خاصة الشعر الحر.
   راجع كتابي (ملامح التجديد في الشعرالعربي) طبع دار دجلة عمان – الأردن.
   وقد تحولت هذه الحالة إلى تيار رمزي جارف يقوم على اعتبار الشعر كتابة إبداعية مادتها اللغة، وهذه الكتابة هي عمل إبداعي نابع من اللغة حيث يخلق منها كيانا ذاتيا يختلف عن لغة التعامل اليومي أو عن لغة المنطق الظاهري، يتفاعل معه الفكر الشعوري بالتداعي الحر مشتركا بتيار الأحلام النفسية المنبثقة من نفسية الشاعر ذاته ويهدف إلى إيجاد معان جمالية مبتكرة لها قابلية تغيير الأحوال نحو الأفضل في التعامل مع الموروث التاريخي واللغة المقال فيها هذا الشعر وهذان قد ينزعان في إدراكهما للموضوعات والفهم الشعوري، من أجل فهم أشمل وأعمق، وتحرير الطاقات الكامنة لدى الشاعر تحريرا شاملا يدخل من خلالها إلى الطاقات الشعرية الذاتية اوالنفسية والبواعث الإنسانية الاجتماعية. تقول نازك الملائكة في قصيدتها – من أنا؟ –
الليلُ يسألُ مَن أنا
أنا سرُّهُ القلقُ العميقُ الأسودُ
أنا صمتُهُ المتمرِّدُ
قنّعتُ كنهي بالسكونْ
ولففتُ قلبي بالظنونْ
وبقيتُ ساهمةً هنا
أرنو وتسألني القرونْ
أنا من أكون؟
الريحُ تسألُ مَنْ أنا
أنا روحُهَا الحيرانُ أنكرني الزمانْ
   إن المتعة الجمالية هي الوسيلة الشعرية في الوصول إلى الغاية، فالجمال وسيلة الشعر إلى غاية الجمال (فهو إحدى وسائل غرس الجمال في الوجود كذلك فإن من وسائل غرس الجمال الكبرى الصورة الشعرية).
 
   إن قصيدة النثر قد لا تخلو من الإيقاع أو موسيقى الشعر التي وجدت في الشعر العربي كأوزان وقوافي مستلهمة من بحورعمود الشعر التي أوجدها الخليل الفراهيدي البصري ألا أنه انحصر عند بعض الشعراء والنقاد والمتلقين في الوزن دون غيره، وربما تعداه إلى غيره عند آخرين فشمل كافة الظواهر الصوتية الأخرى.
 
   ومن المعلوم أن الإيقاع ركن من أركان الشعر وقد اتسع عند آخرين ليضم إليه كل الظواهر المسموعة، وظواهر أخرى ملموسة، أي أنواع الحركة الداخلية النفسية غير المسموعة المتعلقة بالصراعات بين الأفكار .
 
   إن الوزن سمة قاهرة من سمات الشعر، ولئن لم يركز الرومانسيون والرمزيون على البعد الإيقاعي الصوتي بصورة خاصة، فإن المتأثرين بالمدارس اللسانية الحديثة يتفقون أن العنصر الإيقاعي الدال الأكبر والعنصر الأظهر من مكونات الشعر، فالنص الشعري حقيقة هو نوع من الأوزان تتولد من قاعدة اتحاد وانسجام بين مختلف مستوياته وخاصة بين حروف اللغة وإبراز ذات الصوت المتشكل من الحرف اللغوي اتصاله باخر وفقا لامكانية الشاعر ومقدرته على الإتيان بالأفضل ويشكل العروض الجانب الأبرز في الشعرية، ألا إن القصيدة المعاصرة وأقصد قصيدة الشعر الحر التزمت عن بعد بحور الشعر الصافية مع إيغالها المفرط في الزحافات عند أغلب شعرائها أو قصيدة النثر الرافضة لكل المفاهيم الشعرية القديمة والثائرة على كل الأوضاع الموروثة سائرة في خط الحاضر أو المستقبل .
 
   والشعر على العموم بجماليته وقوته وطموحه وأحلامه، يبقى بماهيته شكلا ومضمونا ومنابعه الصافية محيراً للعقول ويظل جمال ماهيته شيئا مثيرا جاذباً للنفوس وعواطفها معبرا عن خوالجها بحيث يكتسب جماليته من وظيفته الإيحائية الغامضة فنيا. صائغا ماهيته من انبثاق عالم مكبوت في داخل هذا الشاعر الثائر وعلى هذا انبثقت جمالية هذا الفن من روحية عالية ونفسية شاعرة ملهمة.
   ويقول الشاعرالفلسطيني عبد الكريم الكرمي:
 
يَا فِلَسْطِينُ ٱنْظُرِي شَعْبَكِ فِي أَرْوَعِ مَنْظَرْ
بِلَظَى الثَّوْرَةِ وَٱلتَشْرِيدِ لِلْعَالَـمِ يَثْأَرْ
لَمْ يُحَرَّرْ وَطَنٌ إِلاَّ إِذَا الشَّعْـبُ تَحَرَّرْ
* * *
كُلُّ إِنْسَانٍ لَهُ دَارٌ وَأَحْـلاَمٌ وَمِزْهَـرْ
وَأَنَا الحَامِـلُ تَارِيـخَ بِـلاَدِي أَتَعَثَّرْ
وَعَلَى كُلِّ طَرِيقٍ لَمْ أَزَلْ أَشْعَثَ أَغْبَر
 
   فمقدرة الشاعر وثقافته اللغوية وخياله الواسع كلها أمور في غاية الأهمية في نتاج القصيدة مهما كان نوعها وشكليتها كلما كانت بعيدة عن الغلو في الإبهام والتعقيد كانت قريبة من المتلقي وتدخل إلى نفسه وتساب في روحه بيسر ويسهل تفاعله معها وهي غاية يروم كل شاعر تحقيقها أو الظفر بها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
. لاحظ كتابي (الشعرالعربي بين الحداثة والمعاصرة)
أمير البيان العربي
د. فالح نصيف الحجية الكيلاني
الـعراق – ديالى – بلدروز

استمر في القراءة الرمز والإبهام في القصيدة المعاصرة بقلم: د . فالح الكيلاني

هوية الطفل بين العولمة واﻹنترنت بقلم: السيد نجم/ مصر

*هوية الطفل بين العولمة واﻹنترنت

تخوف البعض من آثار العولمة، وهي تتمثل في ﺇضمحلال دور الدولة الذي ينحصر في وضع السياسات.. التخوف من التغييرات اﻹجتماعية المتوقعة عن سقوط وﺇرتفاع اقتصاد الدول على حسب قدرتها على مواجهة أو التعامل مع مفاهيم آليات السوق الجديدة..
لعل أهم الأسئلة: ماذا عن الهوية.. عن الذات الجمعية واﻹنتماء الوطني والقومي؟

إذا كانت الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والعرف، وكل المعتقدات والعادات التي يكتسبها الفرد من حيث هو عضو في مجتمع.. فهي تعني أن الثقافة تحمل في طياتها: الذاتي المجرد مثل المعتقدات والمعرفة، بجانب التقييمى مثل الأخلاق والسلوك والتقاليد.. كما أنها مستقلة عن الفرد، أي تكتسب بالممارسة الحياتية والتعلم، فهي ليست فطرية أو غريزية. لذا تعد الخصوصية الثقافية ممكنة ومطلوبة أيضا لكونها العمود الفقري للهوية.

وإلى جانب الثقافة، يعد اﻹنتماء والوطنية من جوهر الهوية. فالوطنية ثقة بالأنا الجمعية، لمجموعة تعيش على أرض مشتركة، يشعرون بالولاء واﻹنتماء والالتزام بمجموعة المفاهيم الرابطة مع استيعاب لذاكرة جمعية تتمثل في جوهر العادات والتقاليد والقيم العامة.
لذا فالمشاركة مع الآخر وبلا ﺇفتعال بالتشدق بمصطلحات أكبر هو جوهر العلاقة بين الهوية والعولمة.

ماذا نقول ونكتب للطفل؟
بداية لا يمكن إلا أن نعترف بالممكن ونخاطب الصغير كانسان قادر على “اﻹختيار” وليس تابعا لأفكارنا جبرًا. فحبس بعض الوسائل الإعلامية الجديدة عن الصغار (كما يتبع بعض الآباء) يزيد الطفل عنادًا.. أن نصارح الصغير بأن لكل شيء فوائده وأضراره حتى “الدواء المعالج للأمراض” هو البداية.. وغيرها.

لتأتي معاملة الآباء للصغار كخطوة عملية وإيجابية لتحقيق الهدف.. ألّا نعامل الصغير على أنه رجل أو آنسة بل على قدر عقولهم, حتى يعيش الطفل طفولته، ولكل مرحلة طفولة خصائصها.. إذا كانت الملكات الخاصة والمواهب هبة سماوية يضعها الخالق في الإنسان، فلا يبقى سوى التنقيب عنها باعتبارها جوهر “التربية” وهدفها.. فالوصفة السحرية هي أن يقل كلام الأبوين في التلقين، ويكثر الفعل سواء بالسلوك المباشر منها أمام الطفل، أو في التعامل مع الطفل.

هل يمكن أن نحدد محاور مخاطبة الطفل حول الهوية؟
بداية لا يمكن إلا أن نعترف بالممكن ونخاطب الصغير كإنسان. لتأتي معاملة الآباء للصغار كخطوة عملية وإيجابية لتحقيق الهدف/ الأهداف..
أولا: التعرف على التراث الشفهي
التراث الشفهي مهدد بالضياع، ليس على مستوى الوطن العربي فقط، ربما يعتبر أحد المتغيرات أو المؤثرات المباشرة لثورة التكنولوجيا المعاصرة. طغت وفاضت المحطات التليفزيونية الفضائية والأرضية، ثم المحطات الإذاعية، وغيرها من وسائل الترفيه والاتصال.. في مقابل إهمال غير مقصود من الأفراد لتداول العناصر التراثية.. مع رواج ملامح العناصر الاستهلاكية الجديدة!
يعتبر التراث الثقافي الشفهي المتمثل في الأغاني الشعبية والأمثال والأهازيج والألغاز والحواديت من المحاور الثقافية الفاعلة في تربية وتنشئة الطفل.. حيث تدعو إلى ترسيخ القيم النبيلة، وتنشيط النفوس بالمرح والحكمة، فضلا عن الإحساس بالأصالة والانتماء.

تتعدد العناصر ومنها الأهازيج الشعبية..: أهازيج التنويم.. من تلك الأهازيج: “يا ولد يا زين/ يا كحيل العين/ عندنا بنتين/ ياولد.. تتجوزشى” وتتابع بحيث تلزم بمخاطبة الذكور من الأطفال، مع الحرص على تأكيد الجمال الذكوري.

أما أهازيج البنات، وﺇن بدت وكأنها محاورات للدفاع عن قيمة البنت وفضلها, وكذلك مقارنات بين الولد والبنت!
” ما تفرحيش يا أم الولد/ بنتي كبرت تاخده/ وتسكنه بحرى البلد”
يلاحظ المتابع أن تلك الأهازيج أطول من تلك التي تتغنى للولد، مع وجود عنصر الصراع والحوار على العكس من الكثير التي تتغنى بالولد.

“الانتماء” في أغاني وألعاب الطفل
من الأسماء التي أخلصت في هذا المجال: سيد عويس، جمال حمدان، عبدالحميد يونس.. وغيرهم من الأجيال التالية..

لعبة “الغراب النوحى”.. حيث تتجمع الأطفال، بنات وبنين، إحداهن تقوم بدور الأم، يتعلق بذيل فستانها طابور بقية الأطفال، إلا أحدهم يمثل دور الغراب. يسعى الغراب للانقضاض على أي من الأطفال كرّا وفرّا والخصمان متواجهان. يسعى الغراب لاصطياد طفلا، وتسعى الأم لحمايته.. ثم يغنى الجميع:
يقول الغراب: “أنا الغراب النوحى.. النوحي/ أخطف وأروح سطوحي.. سطوحي
فترد الأم: “وأنا أمهم أحميهم../ إن عشت أربيهم../ وان مت ضربة تقطم رقابيهم!”

لعبة “عسكر وحرامية”..
ينقسم اللاعبون إلى فريقين، فريق حرامية، وفريق عساكر. يجرى الحرامية وفريق العساكر خلفهم. ومن يمسك، يتم ربطه (كأنها كلبشات أو أصفاد) إلى أن يتم مسك بقية الحرامية جميعا.. ثم يذهبون إلى القسم (مركز الشرطة).

ثانيا: التعرف المكاني والزماني لعالم الطفل..
المقصود بالتعرف المكاني والزماني لعالم الطفل، هو مساعدة فضوله الفطري في البحث عن المكان والزمان. فقد رصدت الأبحاث التربوية أن الوليد يبدأ منذ شهوره الأولى تلك الرحلة البحثية من خلال حركة العينين والكفين, ثم عندما يحبو ويكتشف الأشياء الخفية أو المختفية تحت الأسره أو أعلى الموائد! ثم بالسؤال “من أين أتيت؟ وأين الله؟”.. وغيرها من الأسئلة التي تكشف أهمية البعد الزماني والمكاني عند الطفل. وهو ما يعد مدخلا فطريًا لبث روح الانتماء وتعميق الهوية.

ثالثا: القدرة على ﺇكتساب المعارف والعلوم..
تلاحظ أن الطفل في تقنية النشر الالكتروني يوجد مبعثرًا على عدد من الأشكال داخل المواقع المختلفة على شبكة الانترنت: الطفل في مواقع المرأة.. الطفل في مواقع الأسرة.. الطفل في مواقع عامة وجامعة.. الطفل في مواقع تسلية وترفيه.. الطفل في مواقع دينية عقائدية..
الطفل في مواقع تعليمية.. الطفل في مواقع خاصة بالطفل..

وقد تلاحظ على المواقع التي تتعامل مع الطفل:
ــ عدم الالتزام الدقيق بخصائص المرحلة العمرية للطفل.. مخاطبة الطفل الأنثى والذكر على قدر واحد من التناول.. تقديم المفاهيم الغربية للأعمال المترجمة للطفل بشخصياته ومفاهيمه وكأنه الشخصية النموذج.. أما عن مضامين الموضوعات التي تقدم للطفل، فهي على شقين إما البعد عن روح الطفل في التناول مع تقديم المعلومة قبل التناول ألفني.. أو الاهتمام بالمعلومة البعيدة دون القريبة.

السؤال مجددا: من أين نبدأ؟
البداية في التربية ولا يمكن إغفال التعليم وليس التعليم التقليدي فقط، بل التعليم عن بعد، وضرورة توافر ملمح عام وهام:

ــ أن يوفر للطفل المعلومة.. وإبراز السلوك القويم والقيم العليا, كل ذلك في إطار جذاب.. أن توفير الاسطوانات أو الأقراص الإلكترونية (الديسكات) بات شائعا.. أن يضم الديسك أو الاسطوانة على التتابع والتوازي.. المادة اللغوية والمادة الفنية أو الرسومات المكملة التوضيحية. وقد وجد المختصون أن الألوان “الأصفر-الأحمر-الأزرق” هي أهم الألوان للطفل حتى سن التاسعة.. يجب أن يكون الخط واضحا وكبيرا.. يجب أن تكون الرسوم مكملة للمعنى.. ﺇستخدام التقنيات الحديثة في إطار من الإخراج الفني الملائم الجذاب.. البعد عن النصح والإرشاد وبالعموم.. أن تغلب روح الطفولة على المادة المنشورة (الملائمة لسن الطفل ولجنس الطفل).. تقديم المادة الثقافية/العلمية/التعليمية في إطار يحث الطفل على المشاركة، وتأهيله للتفكير الابتكار، بعيدا عن التلقين.. أن يصبح التعامل مع جهاز الكمبيوتر ومعطياته (في النهاية) لعبة بين يدي الطفل.

أخيرا.. لم يفقد الكتاب التقليدي مكانته (ولن!!)، أما القضية فهي ضرورة الاستفادة من المنجزات التقنية الحديثة.

خاتمة:

ولا يبقى إلا البحث الوعي بوسائل التحقيق والتنفيذ.. فلا شك إن للتعليم (المعلم والمناهج والعملية التعليمة) دوره، وأن للثقافة العامة والخاصة (بكل وسائل التثقيف) أهميتها. وفي إطار ذلك تتعاون المؤسسات المؤهلة لتزكية مفاهيم الهوية.. بلا تهويل ولا تهوين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*المقال منشور بجريدة القاهرة ضمن ملف الطفل في 12 نوفمبر 2019

لطيفة الأعكل.. و (نزعة الاغتراب في الشعر العربي المعاصر).

 

لا يزال مفهوم الاغتراب غامضاً، ونادراً ما يتفق الباحثون على تحديد مفهومه الواضح، بحيث تختلف الآراء عن المصدر أهو حالة مجتمعية، أم حالة شعورية نفسية ذاتية، أم نوعاً من السلوك الفردي؟.
ولا بأس من اِستعراض بعض وجوه الإغتراب عند مجموعة من علماء النفس الإجتماعيين.

 فمفهوم الاغتراب عند عالم الإجتماع الفرنسي إيميل دوركهايم يقوم على فكرة تفكك القيم والمعايير الإجتماعية، بحيث لا تتمكن من السيطرة على السلوك الإنساني وضبطه؛ فقد فقدت القيم والرموز والمعايير سيطرتها على الإنسان الحديث وتصرفه، بعد أن أصبحت نسبية ومتناقضة ومتغيرة بإستمرار، وبسرعة.
كما يعرف أستاذ علم النفس Morton Grodzins الاغتراب بأنه (الحالة التي لا يشعر فيها الأفراد بالإنتماء إلى المجتمع أو الأمة).
أما عالم النفس الإجتماعي الدكتور حليم بركات فيعبر في مقال له عن (الاغتراب والثورة)/ م. مواقف ع5/ س 69)بأنه عملية صيرورة تتكون من ثلاث مراحل:
الأولى: تبدأ على الصعيد المجتمعي وبنياته الإجتماعية -السياسية وأن الاقتصادية، ووضع الإنسان العاجز فيها، ومدى تمكن القيم والمعايير من السيطرة على السلوك.
الثانية: هي مرحلة الاغتراب الحق بوصفه تجربة نفسية شعورية عند الفرد العاجز، تتصف بعدم الرضى عن الأوضاع القائمة، ورفض الاتجاهات والقيم والأسس السائدة .
الثالثة: هي النتائج السلوكية يمكن أن تكون واحدة من الآتي:
الإنسحاب من المجتمع
الرضوخ له ظاهراً والنفور ضمناً
التمرد والثورة عليه
وانطلاقاً من بعض هذه المفاهيم يمكن إعتبار الاغتراب ظاهرة وجودية ترتبط بالزمان والمكان وهي قديمة قدم الشعر العربي ترجمتها التجربة الشعرية للكثير من الشعراء خاصة العباسيين. وكمثال على ذلك أبو العلاء المعري، فقد بلغت عنده ذروة الاغتراب النفسي، والزماني، والمكاني أقصاها حتى سمى نفسه “ رهين المحبسين “ ويعبر عن ذلك في قوله:

أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ،ولزوم بيتي
وكون النفس في الجسد الخبيث

 وقد بات الاغتراب قضية وجودية إنسانية معاصرة، تجسد مقدار معاناة المثقف العربي الرافض، والمتمرد على الواقع السياسي الخانق للحريات، والإجتماعي المتردي داخل وطنه. وإتسمت ردود فعله بالإنسحاب والهروب والهجرة، وإختيار الغربة والإغتراب.
وتجلى هذا الواقع على شكل اغترابات متنوعة لدى الشاعر العربي الحديث والمعاصر.
وتعد قصيدة “غريب على الخليج“ للسياب نقطة إنطلاق لشعر الغربة والاغتراب في الشعر العربي المعاصر. فقد كتبها أثناء إقامته في الكويت بعيداً عن العراق وجاءت تعبيراً صادقاً عن معاناته النفسية، وألم الذكريات، وحنينه وشوقه للعراق، وشعوره المرير بالإغتراب:

أعلى من العُباب يهدر رغوه ومن الضجيج
صوت تفجّر في قرارة نفسي الثّكلى: عراق
كالمدّ يصعد كالسّحابة كالدموع إلى العيون
الريح تصرخ بي: عراق
والموج يعول بي: عراق، عراق، ليس سوى عراق
البحر أوسع ما يكون وأنت أبعد ما تكون
والبحر دونك يا عراق
بالأمس حين مررت بالمقهى، سمعتك يا عراق…
وكنت دورة أسطوانه
هي دورة الأفلاك من عمري، تكور لي زمانه
في لحظتين من الزمان، وإن تكن فقدت مكانه
هي وجه أمي في الظلام
وصوتها، يتزلّقان مع الرؤى حتى أنام

 ومن خلال إطلاعنا على دواوين شعر السياب نلمس أن الاغتراب كان يشكل جوهر شعره وحياته ومعاناته الإنسانية في غربته بعيدا عن بلده العراق.
وتزداد غربة السياب قسوة، فالمرض ينهش جسمه، والفشل في الحب يحاصره، والموت قدر سلبه أمه وهو في السادسة من عمره (وأمي طواها الردى المعجل)، وقُسم ظهره بموت جدته التي ربته وكانت سندا له، يقول:

جدتي من أبثُّ بعدك شكواي
طواني الأسى وقلّ معيني
أنت يا من فتحت قلبك
بالأمس لحبي أوصدت قبرك دوني

 إنها ثنائية الحياة والموت، قمة الشعورعند السياب بالأسى والحزن والإغتراب.
وبالعودة الى ديوان الشاعر صلاح عبد الصبورأحد رواد الحركة التجديدية في الشعرالعربي نلمس أن جل أشعاره تتسم بالحزن. وقد أكد ذلك بنفسه في حديثه عن تجربته الشعرية. فهو يتحدث عن الضياع، والتمزق النفسي، والإضطراب الداخلي، والقلق الوجودي، والغربة الذاتية ويتجلى ذلك في قصيدته (أغنية الشتاء) التي يعبر فيها عن مدى اغترابه:

يُنبئني شتاء هذا العام أنني أموت وحدي
ذات مساء مثله، ذات مساء
وأنّ أعوامي التي مضت كانت هباء
وأنّني أقيم في العراء
يٌنبئني شتاء هذا العام أن داخلي…
مُرتجفٌ بردا
وأنّ قلبي ميت منذ الخريف…
قد ذوى حين ذوت

 فالأغنية هنا ليست دلالة على التغني بالفرح بل هي دلالة على مدى الإحساس الداخلي بالالم، وبالوجع، والمعاناة. ومدى الحزن الدفين المقيم في الأعماق.
ومن خلال استعراض بعض أنواع الاغتراب عند الشاعر السياب، والشاعر صلاح عبد الصبور، يمكن أن نخلص إلى أن الغربة من مكونات الإغتراب الأساسية، وأنه لا يمكن الفصل بينهما، وأن الاغتراب هو وليد الشعور عند الشاعر المغترب بالقهر والمعاناة، والصراع من أجل الحياة.

لطيفة الأعكل/ المغرب
5/03/2019

الحدث في القصَّة القصيرة والقصَّة القصيرة جدًّا.. بقلم: د.عبد المجيد المحمود/ سوريا

الحدث في القصَّة القصيرة والقصَّة القصيرة جدًّا:

يرى كتَّابُ القصة القصيرة أنه لا قصة بدون حدث، فالحدث عنصرٌ مميزٌ لها، و ركنٌ أساسيٌّ تبنى عليه، كذلك الأمر بالنسبة للقصة القصيرة جدا فإنَّه لا يمكن تخيل قصة بدون حدث، فما هي السمات التي يتميز بها الحدث في كلا النمطين(القصة القصيرة و القصيرة جدا)؟
وهل هذه السمات متشابهة و أين تلتقي و أين تفترق؟
سأتناول الموضوع بطريقة تختلف قليلا عن التناول الأكاديمي و بحيث يكون أقرب للفهم والتناول من قبل الجميع… سأحاول اختصار الموضوع في نقاط منظمة حتى يسهل التعاطي مع الموضوع:
1ـ للحدث زمانٌ يبدأ و ينتهي به…فنراه في القصة القصيرة زمنٌ مطَّاطٌ قليلًا قد يستمر من عدة ساعاتٍ إلى عدة أيام، وقد يتم أحيانا تحديد تلك الفترة من الزمن حين تتداخل القصة مع أحداث تاريخية معينة في حين أنه في القصة القصيرة جدًّا يكون زمن الحدث قصيرًا جدًّا، لأن السرد يعتمد آلية الوميض أو الفلاش التي تحتمل إطالة الوقت أو تمطيطه فيفقد بذلك النص قيمته المبتغاة من حيث التكثيف والتركيز و إحداث القفلة الصادمة السريعة، والزمن هنا غالبًا لا يمكن أن نربطه بفترة تاريخية معينة لأنَّ أغلب النصوص هنا مجرَّدة عن التحديد في الزمن من حيث لحظة الوقوع و الحدوث، ويكاد يكون عنصر الزمن في الققج بمثابة العدَّاد الذي يسابق الثواني للوصول للقفلة.
2ـ للحدث في القصة القصيرة مكان تجري فيه الوقائع… ومن المهم في السرد أن نوضح مزايا وخصائص تلك الأمكنة لأنَّ لها تعالقات وتشابكات مع شخوص النص و هناك ارتباط بين أفعالهم وبين ذلك المكان، في حين أنَّه في الققج لا يلعب المكان إلَّا دورًا ضئيلًا جدًّا وفي القليل من النصوص، لأنَّ الحدث هنا هو عبارة عن فكرة أو صفة أو فعل أو سمة أو جانب واحد من شخصية مجرَّدة، لا ترتبط بمكان معين، لذلك من النادر جدًّا هنا أن يتم ذكر اسم مكان ما، لأنَّ المكان حتى يكون له تأثير و فاعلية حاضرة في السرد فإنه يستدعي بعض التفاصيل أو الوصف المختزل على الأقل، وهذا لا يحتمله زمن الققج، ولا التكثيف و الإضمار والإيحاء أو حتى الترميز، فهيمنة قصر الزمن وقصر النص على الحدث يكاد يلغي دور المكان في الققج.
3ـ للحدث في القصة القصيرة شخصيات واضحة متعددة قد تدور في فلك الشخصية المحورية في النص وقد تكون على البعد ذاته والأهمية نفسها من عقدة النص وفكرته، وهذه الشخصيات تستدعي بعض التحليل و التركيب البسيط لها، كما تستدعي في أغلب الأحيان اللجوء لإظهار صفاتها الجسدية والنفسية والحديث عن مظهرها الخارجي لما لذلك من أهمية في حبكة النص و عقدته، أما في الققج فإن النصوص غالبا ما تقدم شخصيةً واحدةً وربما حتى جانبًا واحدا من تلك الشخصية دون التوغل في إيضاح وتفصيل صفاتها الفيزيائية والنفسية والخارجية، لأنَّ ذلك لا يتناسب مع السرد الوجيز في الققج… فالشخصية هنا شخصية مجردة قد تقدِّم فعلًا مستقلًّا لكنَّها في أغلب الأحيان هي شخصية نمطية ترمز إلى نمط معين من البشر يتشابهون في الأفكار التي يحملونها والظروف التي يعانونها.
4ـ للحدث في القصة القصيرة جدًّا حبكة أو عقدة هي مربط النص وعليها تقوم القصة و الفكرة وهذه العقدة يتم تأزمُّها بشكل تدريجي في القصة القصيرة وذلك حسب طريقة السرد المعتمدة في عرض الأحداث، وتتشابه الققج هنا مع القصة القصيرة من حيث وجود الحبكة أو العقدة لكنها لا تعرض بنفس الطريقة كما في القصة القصيرة، فالحبكة في القصة القصيرة تستدعي المرور بالكثير من الأحداث و المقدمات للوصول إليها، في حين أنها في الققج غالبا ما تتمثل بالعبارة قبل الأخيرة والسابقة للقفلة، وقد يكون إيراد مثال ما عن الحبكة في الققج أسهل لنفهم الكلام السابق… كما في النص التالي:
رَقَاعةٌ
عندما قالَ لمن يشاركونَه الرُّقعةَ: كِشْ ملك… نظرَ تحتَ قدميهِ لأولِّ مرَّةٍ…
رأى الملوكَ ترتعُ في كلِّ رِقَاعِه…
وتقولُ له: كِشْ بيدق.
رقاعة: بمعنى صفاقة.
حيثُ نلاحظ في هذا النص أن الحبكة تمثَّلت بوجود الكثير من الملوك يشاركون الملك الأساسي للبلاد في حكم بلده (وهي الجملة ما قبل الخيرة في النص)، و هو أي الملك أو الحاكم لم يدرك ذلك إلا بعد أن أمعن النظر جيدا فيما يدور في بلده من أحداث، وهذه العقدة التي تتطلب حلًّا جاءت القفلة الصادمة بعدها مباشرةً لتعلن أنه في الحقيقة لم يعد لذلك الحاكم أي مكان لحكم هذه البلاد، لأنه كان مجرد جندي ضئيل (بيدق) في يد أولئك الذي استطاعوا من خلاله النفوذ إلى حكم واستعمار بلاده.
5ـ للحدث طرائق للسرد تختلف في القصة القصيرة عنها في الققج، حيث غالبا ما تعتمد الأولى على ثلاثة طرق في سرد الأحداث هي (التقليدية: تصاعد الأحداث تدريجيا للوصول للذروة أو العقدة، ثم الانزلاق باتجاه الحل… الطريقة الحديثة و هي التي تبدأ من لحظة العقدة أو التأزم، ثم يبدأ الكاتب باستعادة الأحداث الماضية ثم يقدم باقي الأحداث من خلال ما يتطور بعد لحظة التأزم… طريقة الخطف خلفا: تبدأ من نهاية القصة ثم يعود الكاتب للخلف ليعرض الأحداث منذ بدايتها مع ترقيها باتجاه الخاتمة أو الحل)… أما الققج فإنَّها غالبا تبدو خبرية المظهر بسبب طريقة السرد التي يتطلبها هذا الفن، لذلك وللتغلب على هذا المظهر الخبري فإن الكتاب يلجؤون لاستخدام التلاعب بالكلمات والتعابير فيقدمون ويؤخرون ولا يكتبون بطريقة الخبر التي تقوم على تقديم الفعل على الفاعل ثم يأتي الفاعل والمفعول به، فقد يبدأ الكاتب نصه بضمير أو بالفاعل أو بظرف أو بجملة اسمية كل ذلك لتجنب المظهر الخبري للققج، وإن طريقة السرد هذه هي أكثر المداخل التي يعيبها نقَّاد الققج ممن لا يتشجعون لها بل ولا يعترفون بها كفن قصصي مستقل بل يصنفونها تحت الخبر، وبالمقابل هي نقطة ينطلق منها من يشجع هذا الفن، لأنه يجد إمكانية إدراج الكثير من النصوص الفلسفية و الشعرية تحت هذا الجنس مختطِّين لأنفسهم دربًا مستقلًّا في تقعيد وتأطير هذا الفن… وهذه نقطة نقاش يطول شرحها.
6ـ للحدث عنصر مهم وهو التشويق، وهو موجود في كلا الفنين ـ القصة القصيرة والققج ـ وتستغرق مرحلة التشويق في القصة القصيرة فترة طويلة من السرد والالتفاف على القارئ في حين يكون التشويق أكثر حرارةً وسرعةً في الققج، خاصةً بالإتيان بتلك القفلة التي تتوافر فيها عناصر الدهشة والصدمة، وأنجح القصص القصيرة جدًّا هي تلك التي تتحصل على أكبر مفارقة وإضمار لتأتي تلك القفلة المدهشة وتزيد عنصر الإبهار والتشويق، أما القصص القصيرة فإنّ لغة الكاتب وطريقة السرد هي التي تجذب المتلقي لقراءة النص رغم أنه غالبًا ما ينجحُ توقعُه لما سيحصل في نهاية النص على عكس الققج التي تكاد نصوصها تكون باهتة إن لم تحقق درجة مفارقة عالية و قفلة مباغتة صادمة.
7ـ للحدث القصصي طريقة عرض أو نسيج قصصي تُعرض من خلاله الأحداث وهذا النسيج يتمثل بالسرد والوصف والحوار، والسرد هو الذي يمثل طريقة تقديم الحدث وارتباط الأحداث وتتاليها، فيما الوصف هو ما يقدم السمات الخارجية و الداخلية للزمان والمكان والشخصيات، وهما أي السرد والوصف أساسان مهمان من أسس القصة القصيرة، بينما يمثل السرد أيضا أساسًا هامًّا للققج لكنَّه يختلف عنه في القصة القصيرة بأنه سرد وجيز قصير، لا يحتمل الإطالة والتمطيط، أما الوصف فهو يتعارض بشكل جلي مع طبيعة الققج، لأنَّ السرد الوجيز لا يحتمل الوصف خاصة الإطناب في الوصف، فنص الققج قد يحتمل بعض الجمل الوصفية التي تمثل جزءًا مهمًّا من النسيج القصصي فقط، ولكننا في العموم نحاول عند كتابة الققج تجنب الوصف الذي يقتل عناصر كثيرة في الققج مثل التكثيف والتركيز والإضمار والمفارقة، وذلك من خلال الاعتماد على فعلية الجملة القصصية.
أما فيما يتعلق بالحوار فإنَّه قد يخدم كلا النمطين في القصة… و لكن يجب أن يكون الحوار جزءًا من السرد وليس دخيلًا عليه…. يجب أن يكون وسيلةً لعرض الحدث لا غايةً له… ومن المنطقي الابتعاد عن الأحاديث الطويلة، وتجنب النفس الفلسفي المغرق في الغموض لأنه يحول نص القصة عندئذٍ بكلا نمطيها إلى جزء من حوار فلسفي غامض يجعل الحدث باهتًا أو يجعله كمقطع من مسرحية…و الحوار بشكل عام يخدم النمطين لكنه أكثر جدوىً في القصة القصيرة لأنه يخفف من رتابة السرد، كما أنه يجعل النص أقرب إلى الواقع و في هذه النقطة بالذات يرى البعض أن الحوار قد يخفف من تألق الققج لأنه يعطيها بعدًا واحدًا لأنَّ الحوار يفضي بالنهاية إلى سؤال و جواب و غالبًا تكون الإجابة مفردة لا متعدِّدة فتفقد الققج عندها خاصية انقتاح التأويل التي تعتبر من الخواص المميزة للققج…(قد يكون هناك منشور خاص فيما يتعلق بالحوار و أهميته و كيف يمكن الاستفادة منه في نصوص الققج بشكل كبير).
8ـ أهم أساس للحدث القصصي هو الفكرة التي عليها يقوم الحدث و يبنى السرد و من أجلها توضع الحبكة و النهاية و القفلة… و غالبا ما تكون فكرة النص في القصة القصيرة فكرة عامة واحدة لكنها تكون مكونة من أفكار ثانوية تساهم في بناء النص و إكماله و تتأتى تلك الأفكار لنصوص القصة القصيرة من خلال تعدد الشخصيات والأمكنة و الأزمنة ومن خلال تعقد الأحداث وتأزمها، في حين أنه في الققج تكون الفكرة غالبا فكرة واحدة لا تستعين بأفكار ثانوية لإتمام النص بل إن تعدد الأفكار ربما يسيء للنص و يجعله يميل باتجاه القصة القصيرة… ورغم تعدد أفكار القصة القصيرة إلا أنها مع نهاية النص تصل مبتغاها وتتوقف عنده وينتهي التفاعل العقلي من قبل المتلقي معها، فيما تتميز الفكرة الواحدة التي يعرضها نص الققج بأنها فكرة ولاَّدة قد تحرض لدى القارئ الكثير من الأفكار التشاركية التي تغني النص وترقى به.
تلك هي تقريبًا أغلب نقاط الاشتراك والاختلاف بالنسبة للحدث ما بين القصة القصيرة والقصيرة جدًّا… و لكلٍّ فيما يعشق مذاهب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#د.عبد#المجيد المحمود#

من أخطاء الكتابة، إهمال علامات الترقيم بقلم: د.مديح الصادق 

من أخطاء الكتابة، إهمال علامات الترقيم

بما أن الكتابة – بكل أشكالها، وأغراضها – صارت حقا مُيسَّراً لكل من يرومها، بغض النظر عن مستوى إلمامه بقواعد اللغة العربية، أو أصول الكتابة فيها؛ فإنه لَمِن الطبيعي أن تتكرر الأخطاء؛ بل تتضاعف في حال انعدام الرقيب، أو المُقوِّم، وليس غريبا أن نطالع كل يوم نصوصا قد تخرج عمَّا وضعت له من غايات بسبب تلك الأخطاء، وما دفعنا للكتابة عن أهمية علامات الترقيم سوى قلقنا – ومعنا كثيرون – من نصوص لا يُعرف أولها من آخرها، استفهامها من تعجبها، إلى غير ذلك؛ لهذا نضع هذه الملاحظات بين أيدي زملائنا، وأصدقائنا؛ علَّها تساعدهم في إخراج نصوص تصل المتلقي باكتمال كل جوانب كتابتها، ومنها علامات الترقيم.

علامات الترقيم في اللغة العربية هي علامات اصطلاحية توضع بين الجمل، وفي نهايتها، وفي نهاية المقاطع، في بداية الكلام أو خلاله؛ كي تعين الكاتب على تقديم صورة جلية للأفكار التي يتناولها في الموضوع الذي يكتب فيه، والقارئ على فهم ذلك النص دون أن يقع في حيرة التباس المعاني، واختلاطها، فهي تُعِّين مواضع الفصل والوصل، والوقف، والابتداء، وطبيعة نبرات الصوت أثناء القراءة بحيث توضح المعنى الذي قصده الكاتب، وفيما يلي عرض لكل منها مع إيضاح لإغراضها:
أولا – الفاصلة (،): ويُحسَن عندها وقوف المتحدث أو القارئ وقفة قصيرة بدون تنفس، أما مواَضعها فهي:
أ – بين الجمل القصيرة المعطوفة على بعضها، وإن اختلفت في المعنى نحو : في العلم تزدهر الشعوب، وفي الفنون غذاء النفوس، والمجالس مدارس، وخير الناس من اقتدى بالحكماء.
ب – بين المفردات المعطوفة في حال التقسيم أو التنويع، نحو : في السنة أربعة فصول : شتاء، وربيع، وصيف، وخريف.
ج – بعد المنادى في أسلوب النداء، نحو: يا زيدُ، ألم يصلك مني جواب؟
د – بين المفردات المعطوفة التي يرتبط بها ما يطيل الكلام، كالنعت مثلا، نحو: احذر جاهلا زاد على جهله خبثا، وأحمق لا يقتدي بحليم، ومنافقا يهز ردفيه لكل إيقاع.
ه – بين جملة القسم وجوابه إذا طالت جملة القسم، نحو: أقسم بالله العظيم الذي لا حدود لسلطانه، لأبتعدنَّ عن أصحاب السوء.
و – بين جملة الشرط وجوابه إذا طالت جملة الشرط، نحو: مَن ينصر الحق بلا خشية من باطل، فهو الإنسان بكل معانيه.
ز – في حال التركيز على ألفاظ البدل التي لها أهمية، نحو: شهدالعام الحالي، 2015 ميلادي، كوارث طبيعة جسيمة.
ح – قبل الجملة التي تكون صفة أو حالا أو ظرفا لما قبلها، وفي الأولى بعض الطول، نحو: استقبلتُ صديقي الذي فارقته مذ زمن طويل، وكانت عيناه دامعتين. قرأتُ على أحد المواقع قصيدة لشاعرة مبدعة، تجيد سبك العبارات.
ط – قبل وبعد الجمل الاعتراضية، نحو: اعتمد أئمة اللغة العربية، وهم يضعون قواعدها، القرآن والشعر القديم مصدرين أساسيين لها.
ثانيا – الفاصلة المنقوطة (؛): ويُحسَن عندها الوقف وقفا كافيا يمكن خلاله التنفس للقارئ أو المتحدث، وتكتب في المواضع لتالية:
أ – بين جملتين تربطهما علاقة سببية، نحو: لقد استفحلت أنظمة الدكتاتورية في العام العربي؛ فانفجر بركان ثورات الجماهير.
ب – إذا اشتركت الجمل المعطوفة في غرض واحد، نحو : اللغة أداة الكاتب؛ وهي وسيلته في التعبير عن أفكاره.
ج – في حال الاستدراك أو الإضراب، نحو: الصبر من شيم الشجعان؛ لكنَّ للصبر حدودا
الديمقراطية ليست فضلا من حاكم على شعبه؛ بل هي حق الشعوب على حكامها.
ثالثا – علامة الوقف (.) وعندها يسكت المتحدث أو القارئ سكوتا كاملا، وموضعها في نهاية الجمل المستقلة عما بعدها في المعنى والإعراب، نحو : قدم شعب العراق أفواج الشهداء، وخلفت الحروب آلاف الجرحى والمعوقين. تحيط العراق دول أنظمتها تنظر بأعين الطمع إلى ما يملك من ثروات طبيعية وبشرية. 
رابعا – علامة الاستفهام (؟): وتوضع في نهاية الجمل الاستفامية سواء أكانت مذكورة أداة الاستفهام أم مقدرة، نحو : متى يستقيم الظل والعود أعوج؟ تعتقد أنَّ الرأسمالية ستنهار حتما؟
ولا توضع علامة الاستفهام حين يكون الاستفهام معلقا، نحو: لم أكن أدري لماذا ناجى الشعراء البدر والنجوم والأطلال.
خامسا – علامة التعجب أو الانفعال (!): وتوضع في نهاية الجمل التي يُفهم منها دلالة القول على تهيج أو انفعال قائلها، نحو : ما أجمل أن يلتقي الأحبة ! أكرِم بزيد ! وا عراقاه ! أيحكمك اللصوص والمارقون ؟ حذارِ من صحبة الغادرين ! وفي أسلوب الإغراء أيضا.
سادسا – علامة التنصيص (” “) وتستعمل لحصر النصوص المنقولة من مصدر آخر نصا بدون تغيير أو إضافة، نحو: قال عيسى بن عمرو النحوي: ” مالكم تكأكأتم عليَّ كتكأكئكم على ذِي جِنَّة؟ افرنقعوا عني ” وتستوي في ذلك النصوص المنقولة نثرا كانت أم شعرا.
سابعا – النقطتان {:}: وتوضع بعد القول أو التقسيم أو التفصيل، نحو: حدثنا الأستاذ قائلا : الصدق سلاح الشجعان، والكذب وسيلة الجبناء. الفعل ثلاثة أقسام: ماض، ومضارع، وأمر. علامة رفع جمع المذكر السالم هي الواو، مثل: المبدعون هم صوت الجماهير.
ثامنا – الشرطة (-): وتوضع بجانب الأعداد، أو أسمائها، أو حروف التسلسل كما ورد في مقالنا هذا
تاسعا – علامة الاعتراض (- .. -) وهي شرطتان توضعان في بداية وفي نهاية الجمل الاعتراضية أو التفسيرية، كقول الشاعر:
إنَّ الثمانينَ – وبلغتُها – أحوجت سمعي إلى ترجمان. نحن – العراقيين – ما صبرنا على ظلم وظالم
تاسعا – القوسان الكبيران ( ): ويستعملان لحصر مصطلح علمي، أو اسم أعجمي، أو لتفسير مفردة أو جملة، نحو: قرأت روايات الكاتب العالمي (تولستوي) جميعها. أحب أكلة الكسكسي (وهي وجبة طعام شائعة في المغرب العربي) كثيرا.
عاشرا – علامة الحذف (…) وهي ثلاث نقاط متتالية تدل على أن هناك كلاما محذوفا، إما لكونه غير لائق، او للاختصار، نحو:
قال أبو هلال العسكري في كتابه، الصناعتين : ” الفصاحة والبلاغة ترجعان إلى معنى واحد … لأن كل واحد منهما إنما هو الإبانة عن المعنى والإظهار له ” وقد تكون في بداية الكلام، أو وسطه، أو نهايتة
حادي عشر – القوسان المُزَهَّران { }: لقد اعتاد كثير من الكتاب على حصر النصوص القرآنية بين علامتي التنصيص، أو بين قوسين كبيرين مما يدعو إلى اللبس، واختلاط النص القرآني بغيره من النصوص المقتبسة؛ لذا أرى أن تكون الأقواس المُزهَّرة علامات تمييز تفيد الكاتب والقارئ على حد سواء، وتُبعد الشبهات عند التعامل مع النصوص.
هذا ما تمكنَّا من أن نضعه بين أيدي زميلاتنا وزملائنا الكتاب والقراء الكرام؛ لعلَّنا قد أصبنا بعضا مما سبقنا إليه أعلام نذروا أنفسهم، وبذلوا ما كان بوسعهم؛ كي يسلمونا أمانة تفرض علينا حفظها، فهي أداتنا في التعبير عما يجول فينا من أفكار، وما يقض مضاجعنا من هموم، وبورك الأستاذ والتلميذ، فكلاهما خازن علم أمين.

 

القصة القصيرة جدًّا بين جسديَّة القصِّ وروحانية التأويل عثراتٌ أمام اكتمال التجنيس.. بقلم: د. عبد المجيد المحمود

القصة القصيرة جدًّا بين جسديَّة القصِّ و روحانية التأويل
عثراتٌ أمام اكتمال التجنيس

 يتساءل الكثير من الكتاب من هواة ومحترفين، هل تجنيس مانكتب من أدب هو أمر ضروري؟!! 
ففي كثير من الأحيان نسمع البعض يقول: أنا لا أفكر كيف سيخرج ما أكتب… أي هل سيخرج خاطرة أم قصة أم شعرًا!!
فذلك ليس من اهتماماتي ولا من أولوياتي… لأنني أرخي العنان لمشاعري وكلماتي لتكتب ما يفيض فيها من أحلام وأحاسيس وهموم وهواجس بعفوية كاملة ودون تصنع أو تكلف ثم بعد انتهائي من الكتابة، قد أنظر أو لا أنظر في تجنيس ما كتبت.
فإلى أي مدى يعتبر هذا الكلام دقيقًا ومعبِّرًا و خادمًا للأدب وحافظًا للنصوص التي نكتب؟
عندما أنظر إلى التراث الأدبي الإنساني بشكل عام فإنني يجب أن أعي وأعترف بأنَّ كمًّا كبيرًا مما وصلنا كان مجنَّسًا تحت صنف أدبي معين، وذلك لا يُنقِص من صِدقه وعفويته وجمال تدفق الخاطر والأحاسيس فيه.
وإنَّ النص الذي لا يتبع جنسًا أدبيًّا معينًا غالبًا سيكون مصدره الضياع مع الأيام لأنه لن يتم حفظه في إطار معين يمكن الرجوع إليه بسهولة وفي أي وقت.
إذًا يجب أن نتفق أنَّ التجنيس أمر في غاية الأهمية خاصةً إن كان مقصودَ ومرادَ الكاتب وهو لا يُبعد الكاتب عن عفويته ولا يحرمه من تدفق كلماته بصدق، بل إنَّه سيحفظ له كتاباتِه وسيسهل عليه الرجوع إليها في أي وقت والأهم أنه يساهم في تأدية الرسالة المبتغاة من الأدب ألا وهي الرسالة الإنسانية والاجتماعية والجمالية.
وإذا ما كتبت شيئا تحت مسمى جنسٍ أدبيٍّ ما، فيجب عليَّ التقيد بالقواعد والخطوط الأساسية على الأقل لذلك الفن، و إلَّا فعليَّ ألا أضعه تحتَ ذلك الجنس الأدبي.
فإذا اتفقنا مبدئيًّا على أننا لا يمكن أن نترك كتاباتِنا نهبًا لنوازع شخصية بحتة مفرطة في غرائبية الطرح والمسار تؤدي بها في النهاية إلى التلاشي والنسيان والضياع فإننا يجب أن نعترف آنئذٍ أنَّهُ لا بدَّ لكل فنّ أدبي من قواعد نسير عليها ولو بالحدود الدنيا لنستطيع أن نصنف نصًّا ما تحت جنس أدبي ما… بحيث وإن كانت بعض النصوص متألقة وبعضها جيدة وأخرى ضعيفة لكنها بالمحصلة كلها توضع تحت جنس أدبي واحد.
تلك الحدود الدنيا هي ليست فقط قواعد وأطر على الكاتب تحقيقها أو الالتزام بها لينجح نصُّه في الولوج إلى عالم الجنس الأدبي الذي يقصده، بل في ذات الوقت هي تمثِّل إطارًا هامًّا للنقد والتداخلات النقدية و التأويلات الفنية التي تقوم على ذلك النص.
ولتوضيح القصد والغاية فإنني سأنطلق لما اختصَّ به عنوان المقال حول القصة القصيرة جدًّا… لأضع قاعدة معينة
أو لأقوم بتشبيه النص القصصي بالجسد الذي لا بد له كي يعيش أن يمتلك قلبًا و رأسًا وأطرافًا و عيونًا وهكذا فكما نقول هذا عرق شرق آسيوي وهذا إفريقي….. الخ…. فإنَّ جسد النص الأدبي يمنحنا من خلال مظاهره القدرة على أن نصنفه جسديًّا تحت جنس أدبي معين.
أما التأويلات أو ما يسمى بالقراءات النقدية والفنية للنص فسأطلقُ عليها لقب الرّوح… تلكَ الرُّوح التي لا يعرف أحدٌ كنهها أو أسرارها، ولكنَّها في الوقت نفسه لا تفارق الجسد مطلقًا إلا عند موته، فإذا مات الجسد فارقته الروح، و مادام الجسد حيًّا تظل الروح ملازمةً له ومنغمسةً فيه.
فكيفَ يموتُ نصُّ الققج جسديًّا، و هل يمكن للروح المستمدَّة من التأويل القرائي لهُ أن تبثَّ فيه الحياة؟
سؤالٌ يضعنا أمام إشكاليات كثيرة ويُحيلنا إلى صراعات فكرية فنية تجنيسية، مستمدة من اختلاف الرؤى حول هذا الفن الجديد، وللحق أقول إنَّ هذه الاختلافات تغني وتفيد أكثر مما تضر، وبرغم التشوش الذي قد يحدث لمرتادي هذا الفن خاصة من الكتَّاب الجدد، إلَّا أنَّ الفائدة تتحقق أكيد من خلال هكذا نقاشات، تبرز أوجه الاختلاف وتظهر بعض النظريات الجديدة التي يحاول أصحابها تحميلها لهذا الفن الذي لم يعرف النور إلى الساحة الأدبية العربية إلا منذ بضعة عقود من الزمن.
في الوقت نفسه، لا بدَّ أن نعترف أننا أصبحنا نمتلك مكتبة ثريَّة من المدارس الأدبية ما بين الشرق والغرب العربيين من حيث نظرتهما لهذا الفن، والطرفان قد اتفقا على أغلب الأسس والتقعيدات حول هذا الفن وأهم تلك الأسس هي (التكثيف والتلغيز والإيحاء والرمز وقصر النص و الإدهاش والقفلة المباغتة واللغة القوية التي تمنحنا القدرة على التكثيف وحسن استخدام الرمز وانفتاح قراءات وتأويلات النص…. إضافة إلى بعض النقاط الأخرى الأقل أهمية).
لذلك فإننا غدونا نمتلك القاعدة العامة التي يمكن من خلالها أن نقوم بتجنيس النصوص من كونها ققج أم لا.
إنَّ موتَ النص القصصي لا يكونُ برأيي إلَّا حين يحدثُ ضياعٌ في تجنيسه و صعوبةٌ في تقييمه وبروز الاختلافات الشاسعة في أمر أرشفته تحت أي جنسٍ أدبي و عندها تضيع هويته وتسقطُ قيمتُه ذلك أنَّ كتاباتِنا ما هي إلا رسالات نرغب إيصالها، فمتى فقدت بوصلة التوجيه فقدت أهميتها و وظيفتها.
إنَّ موتَ النص جسديًّا يعني ببساطة عدم امتلاكه للقواعد الرئيسية للققج كالتكثيف والتلغيز والرمز وقصر النص والقفلة المباغتة بشكل عام والتي تمثل العناصر الأساسية التي تم الاتفاق عليها تقريبا والتي ذكرناها سابقا هنا.
فإذا مات النص جسدًا بالاختلاف في تجنيسه بين الخبراء، وأجمع الغالبية على سقوطه من جنس الققج فإنّ روح التأويل التي يحاول البعض غرسها في ذلك الجسد لن تستطيع مهما حاولت الاندماج فيه و بعثه للحياة من جديد.
وذلك مهما قدمَّت تلك الروح من تجميل لنفسها ومهما قدَّمت من المغريات والمكياجات لتزيين ذاتها بغية أن يرحب بها الجسد الميت… فإنها لن تحصدَ سوى الرفض و الهزيمة.
ولعلَّ روح التأويل تحاول الالتفاف على الجسد وتجرِّب أن تخدعه ليقبل بها، وتحاول أن تصور له أشياء غير موجودة لديه، لتقنعه بأنه حيٌّ يرزق، فتصنع له عينين ولسانًا وشفتين، وذراعين وقدمين ورأسًا، ولكنَّها للأسف لا تستطيع أن تمنحه القلبَ النَّابض بالحياة… ذلك القلب الذي يجعل الآخرين يُقبلون عليه ويتلقونه بلهفة وشوق ومحبة.
لكنَّ التساؤل الذي يطرح نفسه الآن: هل انفتاح القراءات والتأويلات لنص الققج له حدود معينة أم أنه مفتوح الآفاق؟! فمن الملاحظ ظهور بعض المدارس التي تضع النص وتبدأ بالبحث في معالم الفلسفة والخيال والتخيل وتذهب إلى تطبيق نظريات تلك العلوم على النص المسكين البسيط الذي لا يحتمل كل تلك التأويلات والقراءات المغرقة في تحميل كلمات وعبارات وأفكار النص أشياء بعيدة في أغلب الأحيان عما يريد النص تقديمه، وبالتالي نرى تطبيقات بدون استدلالات أو تبريرات مقبولة من داخل النص، وكأن غاية تلك المدارس هي بسط تلك الرؤى الفنية والفلسفية والتخيلية وتركيب عبارات ذلك النص عليها دون وجه حق وذلك ترهق الكاتب أولا وترهق النص وترهق صاحبها الذي تجشم عناء القراءة والتأويل.. ذلك التأويل الذي يبدو وكأنه روحاني المظهر، فتشعر أنَّك أمام شيء من الشعوذة يزيغ نظرك عن الحقيقة ويبعدك عن الواقع، تلك الروح التأويلية تحاول أن تبث الروح أحيانا في بعض الأجساد القصصية لتمنحها صفة تجنيسية لا تليق بها ولا تستحقها، وقد تكون تلك النصوص رائعة ومبدعة ولكنها لا تصنف كققج، ونجد تلك الروح التأويلية تحضر أكثر ما يكون لدى النصوص التي تمتاز باللغة الشاعرية العالية، والتي تضع المتلقي أمام تساؤل هل أنا أمام ققج أم خاطرة أم نتف شعرية نثرية؟! وعندما يتفق الغالبية على إخراج تلك النصوص من صنف الققج، تهرع تلك الأرواح التأويلية محاولةً أن تمنح الحياة لأجساد ميتة قصصيًّا لكنها تتفجر منها الحياة حين تصنيفها تحت أجناس أدبية أخرى.
فما هي جدوى تلك المحاولات التأويلية الروحانية؟ وما مدى الخدمة التي تقدمها لفن الققج؟ وما هي الذرائع التي يتقدم بها أصحابها لتبرير رؤاهم و تدخلاتهم التي بالعموم تثير التشوش لدى المتلقي و لدى الأدباء الجدد و ذلك بسبب خروج التأويل الروحاني عن المألوف، ومحاولته التفرد من خلال النظر للفنون الأدبية بأنها فنون حركية ديناميكية لا تتوقف عند مجموعة من القواعد والأسس، ومن خلال تذرعها أنَّ الإبداع لا يتحقق إلا من خلال كسر الحواجز وولوج عوالم جديدة، ولكن المعقَّد في الأمر أنَّنا لو أخضعنا أنفسنا لهذه القواعد وتلك النظريات لرأينا أننا يمكن أن نجعل من أي كلام عادي ملحمة وذلك حين ينطلق بنا الخيال إلى عوالم رائعة ومنفتحة على الكثير من القضايا والأمور الفلسفية، والحالات التناصية والرمزية، والتي ينطلق صاحبها إليها من خلال استخدامه ربما لكلمة أو تعبير أو إشارة فقيرة في النص لا يكون للكاتب أية غاية منها، لكنها حاضرة في ذهن الناقد وقت تلقي النص، وربما تفاجأ ذلك الكاتب بتلك العوالم التي ذهب إليها الناقد والتي ليس له بها أدنى معرفة بل وربما لا يكترث لمعرفتها، فيصاب ذلك الشخص بالعُجب بنفسه كيف استطاع أن يصنع ذلك الإبداع وربما يستفحل لديه الأمر ويتمكن منه الغرور فيما هو لازال يحث بعض الخطا على طريق الكتابة فيكون ذلك الناقد أضرَّ بالكاتب أيَّما ضرر من حيث يدري أو لا يدري. 
إذا يمكننا القول: إنَّ التأويلات لها سقف لا يمكن تجاوزه ولها حدود لا يمكن لها أن تقطعها، و إلا تحولت إلى مجرد تهويمات أو خيالات أوأشباحًا لجسدٍ ميت، والتأويلات التي ليست لديها قرائن نصية ودلالات تفسيرية مشتقة من قلب النص وليس من خيال الناقد، هي تأويلات مفتوحة لا تغني ولا تسمن مهما حاولت بسط أروع النظريات الفنية الأدبية ومهما استعانت بالمدارس الغربية ونظرياتها المختلفة، ومهما اعتمدت على خبرة صاحبها… وأستطيع أن أشبهها هنا بالبالونة المنتفخة بشدة والتي تثير الانتباه إليها لكنها سرعان ما تنفجر وتؤدي إلى لاشيء، لأنها ابتعدت بالنص وانحرفت به عن المسار القاعدي، نحو صحارى بعيدة لا ماء فيها ولا هواء ولا ظلال و لكن مجرد سراب بقيعة.
ثمَّ إننا ليس من الضروري أن نحمل هذا الفن أي الققج الكثير من النظريات، ولماذا لا ننطلق بتلك النظريات لوضعها أسسًا لفن جديد؟ فنحن ما كدنا حتى الآن نرسى على بر معين بالنسبة لقواعد وأسس هذا الفن في الأدب العربي ومن التسرع أن نبدأ بإقحام أشياء كثيرة فيه تبتعد عن الخط القاعدي له.
إذا أردنا أن نكون مؤسسين لإبداع يسجل باسمنا فلا ضير في ذلك، بل هو شيء مستحبٌّ وجميل، لكن علينا ألا نحمل نظرياتنا إلى ساحات ليست ساحاتها، متذرعين أنَّ الإبداع يكون بكسر القواعد.
إنَّ الانفصام و الانفصال بين الروح التأويلية التخيلية وبين البنية الجسدية للققج سيكون له الأثر بالغ السوء في ذهن المتلقي وفي عقل ووجدان الكاتب خاصة حديث العهد بالققج، وبالتالي قد تؤدي إلى تشوهات وتشويشات تخلق صراعات فكرية لاطائل منها… كما تضع في الوقت نفسه مشاكل عديدة في تجنيس الققج.
وكم جميلٌ أن يتلبس الجسد الجميل بروحٍ جميلة تحمل صفاته وهمومه وهواجسه، ولا تحمِّله أفكار وهواجس الآخرين فيموت قبل أن يولد.

لكيلا نُخطِئ في الكتابة؛ مواضع همزة الوصل أوَّل الكلمة.. بقلم: د. مديح الصادق.

لكيلا نُخطِئ في الكتابة؛ مواضع همزة الوصل أوَّل الكلمة….

بقلم: د. مديح الصادق.

قد يستغرب كثير من الزملاء والأصدقاء، كُتَّاباً أم غير كتاب؛ من الاهتمام الذي نوليه لمواضع الهمزة أول الكلمة، الوصل أو القطع، ومنهم من يُبرِّر ذلك بأن لغة الصحافة لا تستوجب هذا الاهتمام؛ متناسين أن الهمزة في غير موضعها تُغيِّر معنى الجملة بكامله، فحين تقصد أنك – شخصيا – تروم الكتابة فإنك تكتب: أَكتبُ مقالا؛ فقد كتبتَ الهمزة قطعا لأنها همزة المضارعة عندما يكون المتكلم هوالفاعل، وحين تطلب من زميلك أن يكتب فإنك تكتب: اكتبْ مقالا؛ بهمزة الوصل، فالفاعل هو المُخاطَب، وشتَّان ما بين المعنيين. لقد كتبتُ قبل هذا مقالا عن مواضع همزة القطع أول الكلمة، واليوم أكتبُ عن مواضع همزة الوصل أول الكلمة، راجيا أن يكون لها استقبال من لدن الزملاء.

بما أن العرب لا تبدأ بالساكن مثلما لا تنتهي بالمتحرك؛ فقد استُجلبت همزة الوصل في كثير من الكلمات في اللغة العربية بغية التوصل للنطق بالسواكن الأولى فيها، وتُرسم على شكل ألف بدون علامة الهمزة فوقها أو تحتها، ويُنطق بها – مكسورة أو مفتوحة أو مضمومة – في بداية الكلام، ولا يُنطق بها وسط الكلمة أو الكلام، فحين تقول : الشِعر ديوان العرب؛ فإنك تنطق بالهمزة في كلمة ( الشِعر ) مفتوحة لأنها في بداية الكلام، وحين تقول : قرأتُ الكثير من دواوين الشِعر؛ فإنك لا تنطق بالهمزة في كلمة (الشِعر) لأنها وسط الكلام، كما أنها لا تُحذف في الكتابة عندما تسبقها بعض الحروف، نحو : باسم ربه توكَّلَ، فاستأذن ممن حوله، واستغفر الخالق، لاستكمال الامتحان العسير. فالحروف: الباء، الفاء، الواو، اللام، و (أل) التعريف قد سبقت همزة الوصل؛ لكنها لم تُلغِها، في حين لم تظهر في النطق كما لو كانت غير مكتوبة، وتُحذف همزة الوصل من الكتابة في بعض المواضع مما سنأتي عليه لاحقا، أما مواضعها فهي

أولا – في بعض الأفعال ومصادر بعضها:

أ – في أمر الفعل الثلاثي نحو: كتبَ: اكتبْ، حضرَ: احضرْ، قرأَ: اقرأْ، سمعَ: اسمعْ، رعَى : ارعَ، مشَى: امشِ، هجَا: اهجُ

وبما أن فعل الأمر مبني فهو في الأفعال الثلاثة الأخيرة قد بُني على حذف حرف العلة من آخره، والتعويض عنه بحركة تناسب الحرف المحذوف، ويُستدل عليها من صيغة المضارع للفعل، فالفتحة عوض عن الألف، والكسرة عن الياء، والضمة عن الواو.

ب – ماضي الفعل الخماسي، والأمر منه، ومصدره، نحو: امتَحَنَ، امتَحِنْ، امتِحان؛ ارتَبَطَ، ارتَبِطْ، ارتِباط، استَمَعَ، استَمِعْ، استِماع.

ج – ماضي الفعل السداسي، والأمر منه، ومصدره، نحو: استَنْسَخَ، استَنْسِخْ، استِنْساخ؛ استَهْلَكَ، استَهْلِكْ، استِهْلاك.

ثانيا – في الأسماء:

أ – بما أن مصادر الأفعال هي أسماء؛ فإن مصادر الأفعال الخماسية والسداسية هي من ضمن الأسماء التي تُكتَب همزتها وصلا، فالمصادر: امتحان، ارتباط، استماع، استنساخ، واستهلاك؛ هي أسماء بدأت بهمزة الوصل، وقد شرحنا ذلك في الفقرتين ب و ج من مواضع همزة الوصل في بعض الأفعال، ومصادر بعضها.

ب – في الأسماء العشرة في اللغة العربية التي تبدأ بهمزة الوصل وهي : اسم، ابن، ابنة، امرؤ، امرأة، است، ومُثنَّى الكلمات السابقة، اثنان، اثنتان، ايمن، ايم الله. وهاتان الأخيرتان تستعملان في القَسَم

وإن وجدنا ميما ملحقة بكلمة (ابن) فهذه الميم زائدة للتوكيد، فيقولون: حضرَ ابْنُمٌ، قابلتُ ابْنَماً، ومررتُ بابْنِمٍ.

وهناك لغة للعرب في كلمة (ابنة) فقد يكتبونها (بنت) بحذف همزة الوصل وإبدال التاء المربوطة بالمفتوحة.

ولهم لغة في (امرؤ) إذ يكتبونه (مَرْء) وفي (امرأة) إذ يكتبونها (مَرْأة) وذلك بتحريك الحرف الأول من الكلمتين؛ مما لا يستوجب كتابة همزة الوصل؛ لأن مهمتها التوصل للنطق بالساكن.

ثالثا- في الحروف: لا تُكتب همزة الوصل في الحروف إطلاقا؛ ما عدا (أل) التعريف التي توصل بالأسماء، نحو: الله، الوطن، الشعب، الجماهير، الرجال، النساء، وفي الأسماء الموصولة مثل: الذي، اللذانِ، التي، اللتانِ، الذينَ، اللائي.

وهناك ملاحظة بخصوص (أل) فهي تُكتب بهمزة القطع حين تكون منفردة؛ لأنها في هذه الحال اسم علم، والأعلام همزتها قطع؛ لكن (أل) تُكتب وصلا حين تتصل بالأسماء؛ كما مثَّلنا.

حذف همزة الوصل: هناك عدة مواضع تُحذف فيها همزة الوصل هي:

أ – من كلمة (اسم) في البسملة الكاملة بعد باء الجر، على شرط أن تكون البسملة كاملة ( بسم الله الرحمن الرحيم) ولا تحذف إن لم تكتمل البسملة نحو: باسمه تعالى، باسم الله الرحمن، باسمك اللهمَّ؛ وفي حال ذكر المتعلق به المحذوف نحو: باسم الله توكلنا، باسم الله ابتدأنا.

ب- من كلمة (ابن) في حال وقعت صفة (بين علمين، ثانيهما أب للأول) نحو: محمدُ بنُ عبد الله نبيُّ المسلمين؛ يحيى بنُ زكريا نبيُّ الصابئة المندائيين، وفي هذه الحال لا يُنوَن الاسم الأول – إن كان حقُّه التنوين – ولا تحذف في مثل: عيسَى ابنُ مريمَ نبيُّ النصارَى؛ لأن الثاني ليس أبا للأول، ولا تحذف في حال لم تكن صفة، كأن تكون خبرا لمبتدأ، نحو: سلامٌ ابنُ عادلٍ؛ وعلامته تنوين الاسم الأول؛ كما أنها لا تُحذف إن وقعت في أول الكلام كقولك: ابنُ المقفَّعِ كاتبٌ بليغ، ولا تُحذف إذا فُصل بينها وبين الأول بفاصل نحو: زيدٌ هو ابنُ سعيد لفقدانها شرط الصفة.

ج- إذا سُبقت الكلمة المبدوءة بهمزة الوصل بهمزة الاستفهام، فإن همزة الوصل تُحذف، نحو: أسمُكَ علي؟ أبنُكَ هذا؟ أستنسختَ الكتاب؟ وإذا سبقت همزة الاستفهام اسما مبدوءا ب (أل) التعريف؛ فإنها تُدغم مع همزة الوصل وتُكتب على شكل مدَّة نحو: آلامتحانات ابتدأت؟

د- تحذف همزة الوصل من كلمتي (ابن، وابنة) إذا سُبقتا ب (يا) النداء، نحو: يابنَ أخي، يابنة الكرام.

ه- تحذف من (أل) التعريف المسبوقة ب (لام الجر) نحو للصحافة دور كبير، للمدرسة توجَّهَ التلاميذ، أما في حال كون الكلمة مبتِدئة أصلا بلامين ففي هذه الحال تُدغم اللام الأصلية الأولى بالثانية وتُشدَّد نحو: لله الحمد، للَّحم فوائد كثيرة، وهناك كثير ممن يقول – خطأً – إن إحدى اللامات تُحذف.

هذا ما تمكنا من تقديمه لأعزائنا الكتاب والقراء؛ عسى أن نكون قد وُفِّقنا فيما قصدنا إليه.

الناقد: مختار أمين و.. “إشكالية النقد الأدبي الحديث وتقصيره بمناهجه ومدارسه في قراءة النصوص وتحليلها بلهجاتها المحلية”

من فترة لم تكن بالقليلة وأنا مهموم بقضية خاصة في النقد الأدبي العربي المحلي، ومازلت أراه ناقصا لم يرتق على مستوى الإبداع في النصوص الحديثة وما آلت إليه من ابتكار وتكنيك جيد من حيث الشكل والأسلوب واللغة، وكم من نص جيد طرده ولعنه النقد الأدبي غير المتطوّر.. ناسيا أنه يتعلم من المبدع الأول ويضع نظرياته وقوانينه من خلال الإبداع الجيد الحديث، فالقضية التي شغلتني هي هويّة النص والكاتب (محلية النص والكاتب) ومن خلال هذا المنهج أحاول قراءة النص وتفكيكه وتحليله، وأحب أن أنوّه لمفهوم شرح الهويّة وقومية النص والكاتب..

هوية النص والكاتب (محليته):
أود أن أنقل لكم مفهومي بأبسط شيء لما يتعرّض له كثير من النقاد أمام بعض النصوص ويقفون مكتوفي الأيدي إذا خرجت هذه النصوص عن موروثهم الثقافي ومحليتهم الخاصة (بلهجاتهم الخاصة).
كيف لي كناقد عربي أنقد وأحلل قصيدة للشاعر الألماني جوتة.. أأقوم بتحليلها من خلال ما درست في مدرسة الشعر العربي من بحور الخليل بن أحمد وعلم العروض وتفعيلاتنا العربية من خلال الشعر الحر الحديث أم ماذا؟ ..

استمر في القراءة الناقد: مختار أمين و.. “إشكالية النقد الأدبي الحديث وتقصيره بمناهجه ومدارسه في قراءة النصوص وتحليلها بلهجاتها المحلية”

أوهام الحداثة.. بقلم الأديب:حسين رحيم

أوهام الحداثة..
مرة جمعني مهرجان ثقافي بصديق يكتب في النقد، وكنا نتحاور في الحداثة السردية والشعرية التي كان متحمسا لها بشدة لدرجة انه قال لي بالحرف الواحد ((عليك ان تمسح كل ماكتبت من روايات وقصص ومسرحيات وتبدأ الكتابة من جديد على وفق طريقة الحداثة )).. هذا الكلام نبهني إلى حقيقة في سبعينات وثمانينات القرن الماضي كان هناك جيل كامل في عشرينات عمره يعيش العبثية والوجودية والاغتراب والتغريب ويؤمن بالسريالية والدادائية والمستقبلية وثورة الشباب في فرنسا وهربرت ماركوزا وإنسانه ذي البعد الواحد وتنظيرات روجيه كارودي وكان هناك حماس كبير، كنا نسخر من شعراء العمود والتفعيلة والواقعيين في السرد ولانعترف بهم في الوقت الذي كان يدهشنا أسماء مارجريت دوراس ونتالي ساروت ومالارميه وآخرون ولا أظن أبد أن أحدا من الجيل الجديد يقرأ لهذه الأسماء أو يعرفها
الحداثة ببساطة شديدة أتجاه في الفن والأدب يهدف الى الغاء كل مرتكزات وقواعد وقوانين الماضي في الأبداع بشكل عام ..والابتداء من جديد… من الصفر على رأي بارت بمعنى ليس هناك من استقرار أبدا فحين تستقر تخرج عن كونها حداثة وتقعد مستقرة وهو مرفوض عندهم وكان أول ظهور لها في المعماروحققت إنجازات كبيرة ومذهلة ثم انتقلت إلى الأدب والفنرب بعامة ولم يكن لها حضور كبير في الغرب لكن حين وصلتنا بدأت الكارثة.. كارثة تخريب الذائقة الأدبية وإعادة برمجتها حسب اعتقادهم بسبب التطرف في اعتبار الحداثة ومابعد الحداثة وما بعد بعدها هي سبيلنا الوحيد للكتابة وما عداها كتابة تقليدية سطحية…المشكلة أنهم أعادو صياغة تاريخ الكتابة عند العرب على وفق المختلف والمؤتلف حسب رأي الجرجاني والذي كان يتمحور حول نظم الكلام فحسب وأصبح النفري والبحتري وأبي تمّام والمعري حداثيون والبقية أنصاف.. وفي العصر الحديث نجد أدونيس الشاعر الكبير وانتحالاته وتنظيراته يعد رائد الحداثة الشعرية كذلك صلاح ستيتية وانسي الحاج وصلاح فايق وغيرهم, هؤلاء شعراء كبار مبدعون لم تصنعهم الحداثة بل مسار تجاربهم الشخصية ومعرفيتهم العميقة لأنهم لايختلفون عن نزار قباني سوى بالأسلوب الذي لايقل عنهم قوة وإبداعا وليس كما وصف شعره أحد النقاد بقطعة الشكولاته التي تذوب وتنتهي بسرعة…المشكلة الكبرى تكمن في قصدية النص الحداثي بالإختلاف والتمرد على الكتابة وهذا جعل الكثير من أنصاف الموهوبين أصحاب النص الشعري المغلق والنص المستور كذلك نجد أن النص السردي أصبح أشبه بشكل لتهويمة كلام بجيش من المجازات المجازات وصور وإحالات ومسميات بسرد يسير في كل الأتجاهات ثم يجتمع في بؤرة موهومة ومسارب عديدة لحكاية واحدة يضع القاريء أمام أسئلة عديدة عن مغزى كل هذا التهويش اللامجدي لتنتهي الحكاية (أن كان ثمة حكاية) كما بدأت أول مرة أن أغلب هؤلاء يختبئون خلف نصوص مفتعلة الغموض قصدية التغريب تحت هذه اليافطة حتى أعلن بعض منهم موتها مؤخرا.. أقول بعد هذا التلخيص المبتسر… أن الرواية جنس أدبي خاص بنفسه وعابر للزمن ولكل روائي عالمه وأسلوبه الشخصي وقد فرضت الرواية نفسها بأبسط الأساليب وخير دليل على ذلك رواية الشيخ والبحر لهمنغواي التي تصل الجميع بعدالة وبإمكان أي فرد قراءتها مهما كانت درجة ثقافته دون أن يقلل من عمقهاِِ.

للمشاعر طرائق ودروب.. الناقد: أحمد طنطاوي في قراءة لـ نصّ (صكّ عبور) للأديبة زهرة خصخوصي

للمشاعر طرائق ودروب.. الناقد: أحمد طنطاوي في قراءة لـ نصّ (صكّ عبور) للأديبة زهرة خصخوصي

صكّ عبور

يظلّ يرمقهم.. يتدافعون نحو الضّفّة الأخرى..
يتساقط بعضهم كزهرات ياسمين..
تئنّ بعض الخطى، تُجهض الحلم وتنتحر على بوّابات العبور..
يمضي بلا وهن وعيناه ترمقان الشّمس، تنهشه ضباع الفزع وهو يراها تندسّ في الحضن الغريب. يرتعش خافقه..
يراه يلفّها ببرده الحريريّ، يتشمّمها، يلعقها كقطعة مثلّجات في يد ظمئ، يرتشفها قطرة قطرة حتّى ثمالة وله الضّياء..
يتعثّر بالوجع، تضطرب خطاه، يكاد يقع، يمسك بأهداب العزم ويرتمي مع المرتمين في لجج الدّرب المتلوّي كنبض أنثى تكابد غرغرة النّسيان..
يدنُون..
تمتدّ أيديهم تقرع الأبواب الموصدة..
تجول عيناه بحثا عن تميمة الولوج..
يراها..
خلف البوّابة العشرين تزرع على الشّرفات وردا، تدندن ترنيمة وعد صفصافة بالرّحيل إلى مرج الكروم، تبتسم وهي تردّد:
“أسكرني الحلم.. شقّت جذوري دربا في الصّخور
أيا كرم مهلا..لا تثمر حتّى تصحو فيّ الجذور..”
ينادي:
“أدلي إليّ ضفيرتك الحبلى
ترفعني..
فأطير…خلف الغيم البعيد”
ترنو إليه من خلف عيون الورد الباكيات شوقا إلى ربيع..تدلّي ضفيرتها ، يمدّ يديه ليمسك بها، يقف على أصابع قدميه، يشرئبّ بكلّ ارتجافاته نحوها
_أمسكتُ……..
طق طق طاااااق…
تتهاوى الشّرفات…
من بين حجب الأغبرة والأدخنة والعويل يراهم يعبرون نحو الشّمس..
يراها معلّقة كشرنقة تذروها الرّياح، ترتجف، ضفيرتها تتدلّى وأصص الورد تسبح في فلك خفقاتها، وعيناها تهاجران نحو السّماء..
تلاحقها عيناه..
طيور الخطّاف تحوم حول الأفق المُتخم بشهد الشّمس، لا يزال يتلمّظ بقايا ارتشافاتها..
فجأة يتهاطل السّواد عليه ودقا.. يحجب عنه وجه السّماء، من أقبية الغياب يسمعها تدندن بترنيمة وعد الصّفصافة السّكرى:
“تنتحر الدّمعة في الأحداق
اقرع الأبواب ..
تعبر..
ضفائري للوهن مشانق..”
يجثو على ركبتيه، يجتثّ من العمر دربا، ينصب قخاخا للمستحيل، يؤوب..
يؤوب..
يزاحمهم نحو الضّفّة الأخرى، يتلافى السّقوط كزهرة صبّار..
يبصره يضمّ أنفاسها الوجلة من الدّجى، يدثّرها بأهدابها المتيّمة بالضّياء، يهدهدها، يجهّزها عروسا لأوّل العابرين..
يحثّ الخطى، يدندن ترنيمة السّواعد المفتونة بطَرق الأبواب..
تتدانى إليه قطوف السّماء..
يخضوضر مرج الكروم مرتحلا نحو الصّفصافة المثقلة بالحنين.
—————————-

(القراءة النقدية)

للمشاعر طرائق ودروب..
سلكها كل عابر شرقًا وغربًا، وفي الأزمنة المتباينة…
والمتلقى _ تلقائيًا_ حين يجابه النص الجديد يستدعى كل المخزون القديم، ويحدد موقع هذا النص على الخريطة وفق الإحداثيات الدقيقة، لتنبثق حينها علامات الاتفاق والاختلاف، والقرب والبعد، ومدى الدقة في تشكيل الجماليات ورسم العوالم المحفزة للمشاعر والباعثة على تأجيج تفاعلات الروح وموسيقاها الكامنة، وهذا أيضًا يتم فى الأدب المقارن بين الأداب مختلفة الأماكن واللغات.
ويختلف المتلقون _ تبعًا لاختلاف الثقافات ودقة اتباع المنهجية والصرامة فى ذلك _ على اكتناه العناصر والخطوط المتقابلة والموازية، وتبين زوايا الكهف المظلمة، وإيقاعات الموسيقى وترددات الصدى في كل نص أدبي في مكان ما مقابلة لنص آخر في مكان أو عصر أو لغة أخرى، للوصول للمشترك الإنساني الواحد ويمكننا مثلا، مباشرة، تلمس نقاط تماس توجبها وحدة الشعور الإنساني رغم اختلاف المسافات والأزمنة بين هذا النص، وبين نصين آخرين لكل من الشاعرين هلدرلن وريلكه.. وعلينا التأمل والتدقيق لإيجاد نقاط ارتكاز وتشابه..

(هلدرلين)

خبز وخمر – المقطوعة التاسعة
نعم! يقولون بحق، إنّه يوفّق بين النّهار والليل،
يُسَيِّـرُ نجـومَ السَّماء عالياً وسافلاً إلى الأبد،
جذلٌ دوماً كأوراق شجرة الصّنوبر دائمة الاخضرار،
التي يُحبّـها، والإكليلُ، الذي اختاره، من اللبلاب،
لأنّـه يدوم ويجلب أثرَ الآلهة الهاربيـن
إلى الجاحديـن إلى أسفلَ تحت الظّلام.
وما تنبّـأتْ أغاني القدماء لأطفال الإلـه،
انظرْ! نحن هـو، نحـنُ؛ إنّـه فاكـهة هيسبيريـا*
مدهشٌ وبدقّـة تحقّـق تماماً كما للبشر.
اعتقـدَ به مَـنْ اختبـرَه! ولكنْ كثـيرٌ يحدث،
لا شيءَ يفعل فعلَه، لأنّـنا ظِلالٌ، لا قلـوبَ لنـا، إلى أنْ
يجعلـَنا أبونـا الأثـيرُ معروفين ويخصَّـنا كلَّـنا.
ولكنْ في غضون ذلك، يأتي كفتيلة قنديل ابن الذات الأعلى،
السّـوريّ إلى أسفلَ بين الظِّلال.
سعيداً يراه الحكماءُ؛ تشعّ بسمة في الروح السّجينة،
ولكنَّ عينَـها لا تزال تذوب من الضّياء.
تحلم برقّـة أكثـرَ وتنام بين أذرع أرض الجبابرة،
حتّى ذلك الحاسد ُ، سَـربَـرَسْ ** ذاتُـه ، يشربُ وينـامُ .

(ترجمة: بهجت عباس)
……………………………

راينر ماريا ريلكه
بساتين
كم من مسارة غريبة
همسنا بها للأزهار
حتى يقول لنا هذا الميزان
المرهف وزن حماستنا
النجوم كلها آسفة
لأننا نجمعها بأحزاننا
ومن أقواها حتى الأوهن
ولا واحدة عادت لتحتمل
مزاجنا النزق،
تمردنا، صرخاتنا
إلا المائدة التي لا تكل
والسرير (المائدة المتلاشية).

** ** **
لا أحد يدرك كم يحكمنا
ما يرفض اللامرئي أن يهبناه
عندما للخديعة غير المرئية
تستسلم من دون أن ترى، حياتنا
ببطء، وعلى هوى التجاذبات
يتنقل مركزنا من أجل
أن يكون القلب بدوره هناك
هو سيد الغيابات الأعظم أخيرا.

** ** **
كم يلذ أحيانا أن أشاطرك الرأي،
يا شقيقى البكر، يا جسدي
كم يلذ أن أكون قويا
بقوتك
أن أحس بك ورقة، لحاء، غصنا
وكل ما تقدر أن تكون أيضا
أنت البالغ القرب من الروح
أنت يا بالغ الصراحة يامن تتجمع
في جلي فرحك
في أن تكون شجرة الحركات هذه
التي تبطيء لهنيهة
سير السماوات
لتموقع فيه حياتها
____________
* مُقتطفات
(ترجمة كاظم جهاد)

(1)
هلدرلن وريلكه

تأثر هلدرلن _ ومن بعده ريلكه_بالروح الفلسفية التى ميزت عصرهما بل لقد عاصرا الفلاسفة الكبار، فهلدرلن عاصر ( هيجل، و شلينج، وفشته)، وريلكه عاصر الفيلسوف (نيتشه)، وقرأ للفيلسوف الوجودي المؤمن (كيركجارد)، فخرجت أشعاره عاكسة لتلك المشكلة الفلسفية التي شغلت الفكر الوجودي وهي المكان الذى يشغله الإنسان بين الماهيات والوجود، وعلاقاته بهما، وأن كان هلدرلن _ الذى جعله الابتعاد عن أرض الوطن يخرج أشعارًا تمثل الاغتراب والحنين الذى يشوبه الحزن، فهذا لا يعني في نهاية الأمر أن الإحساس العميق لكلا الشاعرين لا يلتقى أخيرًا عند نقطة واحدة، وهي مكان الإنسان في
الحياة والوجود، والقلق النابع من الرحيل والسفر المتواصل.. سواء في اتجاه بلاد أخرى.. أو في اتجاه الموت غير أن ريلكه قد عبر عن هذا المدلول بطريقة ربط ربما كانت أكثر مواجهة وتجريدًا، وأكثر تعميمًا وإبرازًا للروح الفلسفية فى نفس الوقت من هلدرلن، حتى أن الفيلسوف الألمانى ” مارتن هيدجر ” _ أبو الفلسفة الوجودية _ قال أنه لم يضف في فلسفته عمقًا إلى ما عبر عنه ريلكه بصورة شعرية إن ريلكه _ وهو شاعر رومانسي _ يرى أن الأمل الأخير _ هربًا من ذلك القلق الذى يعتمل فى الروح الإنسانية _ يوجد في الطبيعة .. يقول:
أننا لسنا بأمان فى هذا العالم الواضح لنا
ربما بقيت لنا شجرة ما على المرتفع
شجرة نراها يوميًا
ولنا تبقى نزهة الأمس،
وعادة مدللة.. عادة أحبتنا، وظلت عندنا ولم ترتحل.

ومن قبله أحس هلدرلن أيضًا بهذا الشعور الغريب الذي ينبع من معاناة التشتت، والذي نهايته الرغبة العارمة فى العودة إلى أصل الاشياء.. ربما الوطن أو الطبيعة والذات نفسها، أو الكلمة الشعرية، فالعزاء أخيرًا يكمن فى الفن والشعر، وقد يكون الارتباط الذة لا ينفصم بالأرض هو صورة خارجية وقوية لهذه المشاعر كما عبر عنها هلدرلن.. يقول:
فمثلما النبتة التي، إذا لم تتجذر فى أرضها
تضمحل، هكذا نفس البشرى
الذى هو، مع ضوء النهار وحده، مسكين
يسوح على أرض مقدسة.

(من مقال لي عن الشاعرين/ الكويت 1975)

(2)
وهذه المعاني _ معاني التلهف على الأمن الداخلي العميق _ الذي يهبه البيت والوطن تناولها هلدرلن في أغلب شعره.
ونفس الصورة السابقة عبر عنها ريلكه، بطريقة أكثر تجريدًا، مصورًا السعي المستعر للإنسانـ، حين قال فى ” مرثيته الثامنة “:

ونحن.. أبدًا متفرجون ,
كل مكان، نتطلع إلى كل شيء ولا نتخطاه
أنه يملؤنا.. ننظمه و ينهار..
ننظمه من جديد.. وننهار بأنفسنا.

وتبدو فى هذه الصورة، كما يُلاجظ، إرهاصة وجودية واضحة، غير أن ريلكه لا يخاف من الموت، بل يرى أن مواجهته هي في المواصلة الدؤوبة، وتجسيد الصورة القوية للإنسان كما نادى بها ” نيتشه ” فى مبدأه ( إرادة القوة )
يقول:

أبدًا
من جديد عاود الغناء الذى لن يتحقق
واذكر: البطل يستمر، حتى انهياره..
لا يكون سوى حجة لبقائه
أن انهياره ولادته الأخيرة.

ونفس المعنى أيضًا قاله فى قصيدة أخرى:

أعيش حياتي فى حلقات متنامية
تتخطى الأشياء،
وربما لن أنجز الحلقة الأخيرة
غير أن سأحاول.

إن التجربة الشعرية تحاول أن تخلق رؤية، أو كشفًا جديدًا للإنسان، يستشفه الشاعر من سفره المتواصل فى ضبابات المشاعر والأحاسيس والأفكار للبحث عن الحقيقة، ويصبح بهذا جسرًا ومعبرًا بين الوجود والإنسان.

قال هيدجر فى ريلكه:
“عندما يكون الشاعر شاعرًا زمن الأزمة، فإن شعره يجيب فقط على السؤال التالي:
لماذا هو شاعر.. وإلى أين غناؤه المستمر أبدًا.. وإلى أين يتجه فى ليل العالم ؟؟ “
ولعل ما قاله هيدجر فى ريلكه، ينطبق أيضًا على هلدرلن، وعلى كل شاعر
استطاع أن يتخطى بفنه حدود أمته وعصره.

(أحمد طنطاوي/ الكويت 1975)