محمد صالح البحر: في قراءة لـ رواية “متاهة الغرف المتداخلة” للروائي يسري أبو العينين.


   انتهيت بالأمس من قراءة الرواية البديعة “متاهة الغرف المتداخلة” للمبدع الجميل يسري أبو العينين، وللحق مضى عليّ عامان تقريبا لم أقرأ خلالهما رواية عربية بهذا القدر من الجمال، الذي يعرف أين يكمن الإبداع السردي، فيقتنصه بخفة ريشة تحملها ريح هادئة، وقوة صقر لا يتنازل عن التحليق في الأعلى إلا من أجل غنيمة ضَمِنَ مذاقها في فمه.
احتوتْ الرواية على الكثير من جماليات الفن الروائي، كان أبرزها في ظني التدفق اللغوي السلس، الهادئ، والمتناسب تماما مع انتقالات الأحداث، التي تنقطع وتتصل بحسب تشظي الزمن على طول جسد الرواية، لتهب القارئ المتعة والتشويق والعمق، وهي تغوص بحرية مطلقة في أزمنة الأجيال الثلاثة للجد والأب والابن سليمان، لتُخبرنا أن الآباء لا يورثون أبناءهم الجينات الجسدية فقط، بل وجيناتهم النفسية أيضا، وأن النقص الذي اعترى كل شخص فيهم كان الجد هو الذي زرع بذرته الأولى، لتنمو في جسد الأب، وليكتمل نقصها في جسد ونفس وروح سليمان، للدرجة التي استطاعت معها أن تقتل إبداعه كفنان تشكيلي فطري، لا يُدانيه فنان آخر ممن تعلموا في مدارس الفن الأكاديمية، أو حتى ذاع صيتهم كفنانين عالميين على جسد التاريخ الإبداعي للإنسانية، التي لا يزال مصيرها يتقلب بين ألوانهم.

أؤمن تماما أن جوهر السرد ـ القصصي والروائي ـ لا يطفو على سطح الأحداث، مهما كانت جديدة ومتنوعة، ولا يَعْلق بأذيال الشخصيات، مهما بلغت قوة الدراما التي تُحركهم، بل يكمن في نظرة المبدع الدقيقة المحللة لدواخلهم، وهي تموج بالتناقضات حدَّ الصخب الذي لا يمكن ايقافه، وعندما يكشف عنه تُفسَّر الأحداث، وتتجلى الرؤية، وتبرز أهمية الإبداع في الحياة، في قدرته على أن يُعرفنا بأنفسنا، وبلحظتنا التاريخية التي نعيشها، كي نختار مصرينا ـ من بعد ـ بأيادينا التي ترى كل شيء بوضوح تام، وأن هذه النظرة من المستحيل أن يمتلكها المبدع إلا إذا امتلك حريته كاملة، وهو يرى، ثم وهو يكتب.
وهذا ما وجدته في رواية “متاهة الغرف المتداخلة”، وسَعِدتُ كثيرا وهي تهمس لي ـ ولكل قارئ وقعتْ، أو ستقع بين يديه ـ بأنه طالما زُرعتْ بذرة الفن بداخلك، وأردتَ أن تكون فنانا، فعليك أن تكون مجنونا بالقدر الذي يحتاجه الفن، ولا سبيل للهروب من هذا المصير، لأنكَ إن لم تستجب ستصير مجنونا حقيقيا، يُنهكه الندم، وتتقاذفه الهلاوس، وتأويه مصحات المجانين الأقل عظمة، والخالية عيونهم من أي تعبير حقيقي لمعنى الحياة، أو على أقل تقدير سيمزقك الحنين إلى أن تنتهي الوحدة من قتلك.

أضف تعليق