أرشيف التصنيف: قراءة تأويلية

الناقدة:رجاء البقالي في قراءة لـ قصيدة “لهفة العيون” للشاعرة:سعاد العتابي

الناقدة: رجاء البقالي/ المغرب في قراءة.
قصيدة “لهفة العيون” لـ سعاد حسن العتابي
الشاعرة التي تعزف الوطن لحن خلود..
تمتطي جدائل الحنين.. تحلق.. تلوح للانتظار وتنطلق..
______________________________
لهفة العيون..
لم يبقَ في الصّبح مكان..
نصفٌ يشغله طيفك
وقافلة حنيني تروي الغدير
المار على واحات الأمنيات
ونصفٌ يعلّقني على جِيد الحلم..
نغم قيثارة
الرّيح تعرفني..
وشجرة النّخيل
وتلك الرّوح العاشقة
المنتظرة حطّت
واستنشقتْ خبز الصباح
ودَعتني
لنعيد تقويم الفرق بين الموت والولادة
ونداعب تناسل الفراش والورود
فنظمتُها بقافية من لهفة العيون…
_____________________
(القــراءة)
لهفة العيون..
عيون الروح، بواباتها المتعطشة إلى عطر الأرض تحمله الريح أنساما تحيي الذات المغتربة عن وطنها..
الاغتراب كان وما يزال قدر الشعراء لفرط حساسية الشاعر ورهافته و توتره الدائم، ما جعل الشعراء المغتربين في القرن العشرين ينحون منحى الرومنسية الغربية، فجعلوا من الليل أنيسا وتغنوا بالحزن تعبيرا عن شعور القفر و الجذب، وهو ما نجده في شعر الرواد مثل السياب والبياتي وغيرهم الذين عانوا من شتى صنوف الاغتراب، السياسي والاجتماعي والروحي الذي يعتبر التتويج القاسي للاغتراب..
ولا شك أن شاعرة الوطن و الحنين سعاد العتابي تشكل امتدادا لهؤلاء الرواد، حيث تتغنى بالحزن وقفر الروح وجفاف النبع تعبيرا عن غربة روحية تختزل في داخلها الغرية الاجتماعية والمكانية والسياسية، فيتماهى لديها التوق إلى الوطن مع التوق إلى الحياة ليصبحا واحدا..
الحياة هي المرادف للطبيعة، للغدير، للنخيل، للفراش وللورود ..
الوطن ولادة وخصوبة، والغربة موت وعقم..
ثنائية الحياة والموت، صيرورة الوجود التي لا تكتسب معناها إلا بطرف ثالث هو عند الشاعرة المعادل الروحي وليس الموضوعي لتحققها كذات موجودة لا ترى قيمتها إلا بين كائنات الطبيعة المترعة بالحياة وبالجمال..
ها هو الصباح يشرق في وعي ومتخيل الشاعرة محملا نصفه بطيف الوطن، وفيض الحنين يروي الغدير المار والمنساب في واحات الأمنيات، الأمنيات بالعودة ومعانقة الأرض من جديد.
والنصف يربط الشاعرة بجيد الحلم، يعلقها طوقا من نغم..
نغم قيثارة..
لم يبق في الصبح مكان..
نصف يشغله طيفك
و قافلة حنيني تروي الغدير
المار على واحات الأمنيات..
أية صورة هذه تصبح فيها روح الشاعرة موصولة بطيف الوطن يملأ الصباح إشراقا والحنين يولد مع الصبح مكتملا، قوافل تروي الغدير المنساب على واحة الأمنيات..
ونصف يعلقني على جيد الحلم
نغم قيثارة..
ثم يعلقها الصباح على جيد الحلم طوقا من نغم
نغم قيثارة في سيمفونية عشق و ترانيم حنين ..
ملحمة عشقية ، ترنيمة على أوتار قيثارة ..
وموكب عودة ترسمه الشاعرة بنبض وبتصوير بلاغي غاية في الجمال:
الريح تعرفني
وشجرة النخيل
وتلك الروح العاشقة
المنتظرة حطت
واستنشقت خبز الصباح
الريح تعرفها و شجرة النخيل، وهاهما في الاستقبال، لتحط الروح العاشقة المنتظره وتستنشق عبق الصباح ترسله أفران الخبز نسائم دفء و احتواء..
لكنه الحلم، مهما طال سينتهي لتفيق الشاعرة على واقع الغربة والبعد عن الوطن، وهو المرادف للموت في روحها المتعطشة إلى الأرض، إلى طبيعة الأرض: الحياة..
هنا لحظة الإشراق والتنوير في القصيدة..
هذا الدفق الشعوري والامتداد الروحي في ما وراء المعطى القاسي، سيضع الشاعرة أمام إشكالية وعي بالوجود:
الموت / الولادة..
وسؤال الكينونة في وعي مغترب:
ودعتني
لنعيد تقويم الفرق بين الموت والولادة
وتداعب تناسل الفراش والورود
فنظمتها بقافية من لهفة العيون ..
الحياة والموت بالنسبة للوطن يتناغمان، فالبعد وهو المرادف للموت، يصبح حياة، تزفها الأمنيات والحلم والارتباط اللامحدود بالوطن..
فلا موت أبدا، بل من الموت تولد الحياة في روح تواقة الى أرضها، إلى ريحها ونخيلها وغديرها..
ها هو الفراش، وها هي الورود
رمز الاستمراية والتجدد وولادة الحياة من الموت
حنينا و أمنياتٍ و حلماً
تترنم بها قصيدةً من لهفة سوف يكتب لها الخلود ..
القصيدة دفقة شعورية محتدمة تصاعدت بين حلم و أمنيات إلى التحقق الروحي تجاوزا وإشراقا، وهروبا من واقع أصبح فيه الوطن ذكرى، حلما يراود خيال الشاعرة، لكنه حلم الخلود وانبعاث الحياة من رحم الموت..
البنية التقابلية في القصيدة تتمحور حول ثنائية:
الموت / الحياة
ثنائية ضدية في الظاهر، لكنها في الجوهر تشكل وحدة، فالموت الذي أرادوه للوطن هو حياة تنطق بها الطبيعة الحية، ويحققه الصباح أمنيات وحلما.. فلا ظلمة ولا ليل، بل العيون متلهفة لرؤية الوطن، يشدها الحنين، لكنها الروح التي سترى بالبصيرة، بالحدس ستدرك أن الأرض، و أن الوطن فوق كل إرادة شر وتقتيل وتفتيت
انه حلم النهار أملا في الحياة والخلود..
الشاعرة المحلقة سعاد العتابي
ترتقي في شعرها إلى أعلى مراتب العشق، عشق الوطن ليصبح الهواء، النخلة، والغدير والفراش و الورود..
فليس الوطن الناس و لا المدينة..
ليس الأسرة ولا الحبيب..
إنه الروح التي توحِّد كل هذا، روح كونية تنطق بها الطبيعة، فالشاعرة موقنة أنها جزء من طبيعة بلادها، هي والريح والنخلة، و … سواء…
ما جعل الزمان والمكان يتعاليان على الإطارات المادية النسبية، ويصبان في اللانهائي لصالح مفهوم كوني للوطن والأرض، الشيء الذي طبع اللحظة بطابع القدسية والجمال والوهج الروحي النوراني الجليل.
سعاد العتابي، أنموذج راقي لشعراء وشاعرات المهجر، نلمس في شعرها توقا روحانيا إلى معانقة الجوهر يتجلى فيه البعد الفلسفي الزِنِّي الذي ينظر إلى الكائنات في تناجيها ووحدتها رغم ما يبدو بينها من تعارض ظاهري..
وبين هذا يتربع الوطن جنةً تنطق بالحياة،
الحياة أملا وحلما يتجاوزان المعطى المأساوي..
فالأبقى هي الريح و النخلة و …
لذلك ربطت حياة الوطن بالطبيعة،
فكم نعيش غرباء في أرضنا، في وطن لا نحس بالانتماء إليه.
اختارت الشاعرة من اللغة وإيحاءاتها لتولِّد منها ما تثير الحس الجمالي اللامتناهي، فلم تكن الألفاظ مجرد أحجار في البناء الموضوعي للقصيدة، بل كانت تومئ إلى معاني مستجدة عكست نفس الشاعرة المتلهفة والعطشى للارتواء من الأرض، للوطن، فأضافت بذلك دلالات مستحدثة تضيف أبعادا متجددة بها تحيا وتتجدد وبدونها تفنى وتذبل..
لننظر إلى هذه الصورة بالغة البهاء:
و قافلة حنيني تروي الغدير
المار على واحة الأمنيات
الغدير هو المتعطش لقافلة الحنين، المار في واحة الأمنيات ينتظر مواكب الحنين ليرتوي، ليترقرق من جديد، لتبعث فيه الحياة من خلال الأمنيات التي تهزم الواقع الجديب.
وظفت الشاعرة لغة شفافة شاعرية موحية تعكس تجربتها الشعورية التي يجب اسنحضارها لفهم الحالة الذهنية للقصيدة واستعادة الجو الشعوري لمعايشة لحظة ميلاد القصيدة، فالقصيدة بناء شعوري متدفق متنام يحيل على دلالات وليست مجرد تراكم دلالي، فكانت صورا شعرية تشاهد وتسمع لحنا وموسيقى..
يحق للعراق العظيم ان يفخر بشاعرة سامقة روحا و تطلعا الى الجوهر ، ارتقت بالوطن الى مراتب القدسية فغدا نورا، حياة، وجعلت من شعرها مصنعا حقيقيا للحياة من قلب الموت، من قلب الغربة، في توق روحاني يشع بجمال قدسي وروحي جليل..
قصيدة لهفة العيون
عيون الروح، بواباتها للامتلاء بحب الوطن أرضا وطبيعة.. عيون متعطشة إلى هذا الحبيب الذي ملأ الأمنيات والأحلام الممتدة الى الصباح، فكان حلما في واضحة النهار، حلما من ضياء تحرر من عتمة الليل .
ترنيمة عشق
ملحمة عشقية للوطن التحم فيها الترنم بالحزن الشفيف..
غنائية بكائية، تماهى فيها الوطن بالطبيعة بالجوهر، وكانت الشاعرة ذلك الوجدان النابض الذي حقق هذه الوحدة النورانية التي سمت بمفهوم الوطن فأخرجته من مجرد رقعة أرض و مجموعة بشر إلى الوطن الحي المرفرف على أجنحة الفراش، العبق على بتلات الورود، المترقرق في الغدير، والسامق كما النخلة في شموخ..
الحي في خلود حنيناً ولهفةً لا حدود لهما..
بالنسبة للوطن،
جدلية الموت والحياة
تستسلم لصالح حياة تولد من رحم الموت تنشد الخلود في ترنيمة قصيدة تصدح بخلود الوطن..
تقديري الكبير لشاعرة العراق القديرة سعاد العتابي
الامتداد اللافت لشعراء العراق العظام…

قراءة تأويليلة بقلم/ الناقد محمد وجيه خويلد في نص (أصابع مريم) للكاتب/ محمد الشطوي

 النص

أصـابع مريم
لم أتخل عن عادة لي قديمة منذ بلغت الْحُلُمَ؛ وهي التسكع بلا هدف في شوارع وحواري قريتنا التي تُكاتِف النيل في أحد فروعه.. كانت القرية بسيطة وفقيرة لم تعرف نور الكهرباء إلا بعد بلوغي العشرين عاما..
هددني أبي بكل ما يملك من أنواع التهديد، ورجتني أمي بكل أساليب الرجاء لكي أقلع عن هذه العادة الغريبة،فالليل غدار، وأبناء الحرام منتشرون، و خطرون..
فقط هي ليال البرد والشتاء التي كانت تحد من جولاتي، وتلزمني غرفتي، وفراشي..
متعة الليل في أسراره، وفي حرصي على إيداعها ضمن مخزون الذكريات.. لم أر فيها غريبا إلا “مريم أم السعد “.
فاجأني طولها الفارع، وأنوثتها التائهة. بل الضائعة في سرابيلها السوداء المرقعة برقع كأنها توقيعات على الجسد الممشوق من كل ثوب بال، ومن كل بيت يَدِّعِي الكرم..
أصادف مريم كثيرا أثناء جولتي وهي تدق أبواب بيوت معينة ليعطوها مما طبخوه اليوم؛ فتأخذ ماتجود به الأيدي وتضعه ” على بعضه ” في وعاء كان يستخدمه الأطفال في قضاء حاجتهم (!!!)، وقليلا ماكنت أتبينها لشدة سواد ملابسها، وشدة صمتها إلا من بعض كلمات تخرج من بين شفتيها كالفحيح، أو المواء!
لم أسترح حتى عرفت سرها من أمي.. (إنها بنت ناس، لم تتزوج ؛لأن أخاها الوحيد قاس عليها،ويستغل أرضها، ودارها لمصلحته، وجعل لها غرفة على رأس أرضه في طرح البحر تأوي إليها وحيدة عقب نهاية جولتها في التسول)…
أَمِنْتُ لها بعدما كنت أخافها، وأحسبها اطمأنت لي؛ توددت إليها مرارا، وكنت أساعدها أحيانا حتى تصل إلى عشتها فتفتحها، وتتعشى مما جمعته على ماتسرب إليها من ضوء القمر، أو النجوم.
فاجأتني ذات ليلة بوضع يدها بين فخذي ..جفلت منها ورجعت للخلف بظهري مصدوما .مشدوها؛ فتعثرتُ ووقعتُ مرتطما بتراب الأرض.. وحين أفقت تحسست موقعي فأمسكت حذاء قديما محشوا بداخله عصفور ميت، قذفتها به، وهي تبتسم وتقترب..
أسرعت، ونهضت متجها إلى البيت أتجشأ أصابع مريم، ورائحتها الطافحة بالمرض والقهر.
نمت ليلتي مكنئبا؛ ممتلئا بالأسى و بتراب يملأحلقي كتراب الآفران المطفأة.

القراءة

سرد قصصي لواقع ريفي .. بأسلوب أدبي سلس مشوق جميل ..
يركز الضوء على بؤرة النص ومحوره (أم مريم) شخصية غير سوية يلقي لنا ببداية الخيط الذي جاء بمثابة نهاية له… ويتركنا غارقين في دهشة بالغة نلهث وراء مغازي الطرح.. هل نكتفي بأنها كانت ضحية واقع اجتماعي فقط؟
لكنه يفجر قضية بالغة الأهميه ويصل بنا الى الذروة في نهاية مختصرة..
..في الحدث الذروة عندما يقول (فاجأتني ذات ليلة بوضع يدها بين فخذي)
فيطرح لنا شعوره هو فقط إزاء فعلتها فيقول:
(أسرعت، ونهضت متجها إلى البيت أتجشأ أصابع مريم ،ورائحتها الطافحة بالمرض والقهر.
نمت ليلتي مكنئبا؛ ممتلئا بالأسى و بتراب يملأ حلقي كتراب الآفران المطفأة.).
هذا ما أراد أن يقوله لنا الراوي على لسان البطل الذي شارك (مريم أم السعد) البطولة..
حديث النفس إذاء ماهو جديد على كل ذي بالغ حُلُم.. وكأنه مازال يعيش أيام ذلك الواقع البعيد.. لكن بلسان اليوم..
والمجنون شخصية تناولها الأدب العالمي.. يرمي من خلاله تمردا على الواقع.. كما جاء في روايات وقصائد الأديب جبران خليل جبران في الكثير من أعماله نذكر على سبيل المثال لا الحصر كتاب عرائس المروج نجد شخصية “يوحنا المجنون: هو راعٍ اكتشف مدى ما ينضوي عليه الواقع من بؤس وظلم وقهر اجتماعي، من جراء سيطرة التحالف الأسود القائم بين الحكام ورجال الدين والأغنياء أصحاب الشرف الموروث؛ كما اكتشف مدى الزيف الذي يخبِّئه بعض رجال الدين تحت أرديتهم السوداء، مستخدمين أقدس ما في الحياة لتعميم شرور الحياة. فيرفض يوحنا هذا الواقع، ويتمرد عليه. ولذلك فإن صفة “الجنون” التي تلحق باسمه تعني قيامه بـ”الكشف” و”الرفض” و”التمرد”.
.و(الأبله) تصنف الأبله بجانب أعمال دوستويفسكي الأخرى كواحدة من أهم الأعمال في العصر الذهبي من الأدب الروسي… وفيها – ناستاسيا فيليبوفنا باراشكوفا – أحد شخصيات الرواية الرئيسية , تجسد هذه المرأة الجمال الاستثنائي… شابة جميلة، مثقفة وذكية، وإنما مجنونة تماما، تظهر في بداية الرواية كمحظية ” توتسكي إيفانوفيتش “، يقع الأمير ميشكين في حبها غير أن لهذا الحب نتائجه المأساوية في نهاية القصة.
فالمجنون هو “المختلف”، لأنه يخالف الناس فيما دأبوا عليه من عادات، ورضخوا من تقاليد وشرائع، ولأنه يدعو إلى الجديد المختلف الذي لم يألفوه. وبهذا المعنى كانت الأمم تعتبر الأنبياء والرسل “مجانين”.
أما الدلالة الثانية فهي الرفض والتمرد. ذلك أن “الاختلاف” يقود “المجنون” إلى رفض الواقع الذي يستكين إليه بقيةُ الناس، والتمرُّد على ما ينضوي عليه هذا الواقع من عبودية وشرائع وتقاليد جائرة وظالمة.
وما كان للـ”مجنون” أن يكون مختلفًا ورافضًا متمردًا لو كان في حالة من الغفلة أو الجهل أو ذهاب العقل. لذلك فالدلالة الثالثة تُظهِرُه في صورة العارف المستبصر. فالجنون هو حَجْبٌ للغفلة، لا للمعرفة.
والدلالة الرابعة هي البلاغة والحكمة. فالمجنون متكلِّم فصيح، قادر على قول ما يعجز الآخرون عن قوله. كما أن أقواله تتصف بالبلاغة الآسرة، والحكمة الساحرة؛ لذلك يسعى الناس إلى التقاط أقواله وحفظها .. لكن عند أستاذنا الشطوي كانت شبه خرساء
وكل ما سبق يفضي إلى الدلالة الخامسة المتعلقة بـالقداسة. فالصفات السابقة، في مجملها، جعلت عامة الناس وخاصَّتهم، من حكام ومتنفِّذين، يهابون “المجنون” ويتبرَّكون به، ويعدُّونه بين الأولياء والقديسين.
تحياتي لأستاذنا القدير أ/ محمد الشطوي .. ولقلمه المبدع .. على أطروحته الواقعية لريفنا الجميل .. راجيا أن يكون صدره رحبا لتلقي ما قد أثاره فينا.