الناقدة منيرة الحاج يوسف: “تقنية الاسترجاع ورصد التفاصيل المتصلة بأثر الحدث” قراءة في القصة القصيرة جدًا (عوز) للقاص محمد المسلاتي.


   تقوم هذه القصة على تقنية الاسترجاع إلا أن السارد برع براعة لافتة في رصد التفاصيل المتصلة بأثر الحدث في مختلف الحواس مما يجعل القارئ مندهشا بين ما ينتظره وما تفشيه السطور فانفتاح القصة بالقرينة الزمانية في طفولتي يهيء للمتعة والعذوبة فهذه المرحلة العمرية هي مرحلة اللهو واللا مسؤولية والراحة بكل مقاييسها لكن بعد تحديد الزمن يصدمنا كم العذاب الذي ترشفه هذا الطفل حتى صار طعم الدمع ملتصقا بحاسة الذوق التي تحولت إلى وسيلة فنية ينمو الحدث بواسطتها ويطرد فطعم الملح أمارة على تغيب الطفل عن مسؤولياته (الوقوف في السوق والتسول).
  يتنامى العذاب مع بقية الحواس فالأصوات التي تلتقطها إذن الطفل( الصراخ، الطنين، نشيج الأم) أقسى من أن يتحملها طفل يفترض أن ينعم بالهدوء والهدهدة ثم إن حاسة البصر هي الأخرى ضحية المرئيات التي كانت تشاهدها عينه (الأب العاجز القابع…، زجاجات الدواء الفارغة، الأشقاء الأربعة وهم يصرخون، الذباب… الأم الصارخة الغاضبة المنتحبة، وأعين الناس الباكية).
  تكثيف عالي المستوى يشحن القصة بقدر كبير من الوجع فتتحول إلى لوحة ناطقة تشي بمأساة طفل كل ما يحيط به يسرق طفولته ويحوله شيخا أنهكته الحياة بتفشي الفقر والمرض والجهل وهو وضع الطفولة المحرومة في كل البلاد العربية والتي سبق وأن تناولها الأدباء والشعراء مثل حنا مينة في ثلاثيته (بقايا صور، المستنقع، والقطاف) وشكري المبخوت في روايته (الخبز الحافي) ونازك الملائكة في قصيدتها ( النائمة في الشارع) وغيرهم.
  إن الخاتمة التي اختارها القاص لا تختلف عن الفاتحة فالملح الأجاج هو الذي يمتد على هذه القصة فهو عود على بدء مما يضاعف الطعم اللاذع لهذه الطفولة التي تغيب فيها الحقوق الإنسانية في أبسط متطلباتها
 
(النص)
عَوَز.
قصّة قصيرة جدًا .. بقلم: محمد المسلاتي- ليبيا.
  في طفولتي؛ كلما تسربت قطرات من دموعي إلى شفتي لذعني مذاقها المالح..
وحين تعرفتُ إلى البحر لأول مرة، أذهب إليه خلسةً.. تعاقبني أميّ بالضرب بعد تذوقها مسام جلدي، وهي تقول لي:
– ها أنت كالعادة؛ لم تقف في مكانك بالسوق لتحصل لنا على مايجود به العابرون.
تشير إلى أبي العاجز القابع في زاوية الحجرة.. حوله انكفأت زجاجات دواء فارغة.. مع صراخ أشقائي الأربعة، وذباب لا يكف عن الطنين.
يختفي صوتها عبر نشيج حزنها.. تفرّ من عينيها الذابلتين حبات نديّة صغيرة كالبللور.. تبللني.. عندها تراءى لي عيون أُناس لا أعرفهم يبكون وجعًا في أعماق أمواج يَمٍّ تهدر مياهه بكل هذا الملح.

أضف تعليق