أرشيف التصنيف: قراءة نقدية

د. رحمن غركان: قصائد الموضوع والبحث عن الحضور.. قراءة في المجموعة الشعرية (أيها المحتمي بالأرق) لشلال عنوز/ العراق.

   مما يميّز الموضوع في القصيدة الكبيرة، أنها تقترحه انطلاقاً منها، وتتخيّله مثولاً بين يدي أساليبها، ولهذا يتعذّر الفصل بين الشكل، بوصفه كيفية إبداع المعنى الشعري وبين المضمون كونه باعثاً على القول، أو مؤثراً في إبداعه، أو ما يقوله من معنى له حضور ما قبل الشكل، فهو ملحوظ، من لدن المتلقين قبل القصيدة. وقد قام الشعر العربي القديم والشعر التقليدي الذي جرى على نهجه إلى اليوم، على الموضوع قبل الشكل، وعلى الغرض قبل الفن، وعلى الفكرة الموضوعية قبل كيفية قولها، حتى لكأنّ الشاعر يترجم الموضوع إلى كلام شعري مستجيباً لمتطلبات الشكل، أو ينقل معاني الغرض المقصود قبل الكتابة إلى صياغات اجتهد ناظمها في تطبيق مكونات الإنتاج الشعري لأجل قولها في صورةٍ من قالب القصيدة. ومن ثمة فقد عمل العلماء في علوم كثيرة وحقول معرفية أكثر على ترجمة متبنياتهم وأفكارهم ورؤاهم وطروحاتهم إلى ممكنات الخلق الشعري في صورتها العقلية الصناعية الظاهرة، وظهرت على إثر ذلك منظومات في النحو والصرف والعروض والفقه والجغرافيا وعلوم كثيرة مما عرف تحت مصطلح (الشعر التعليمي).

415418784_1104192781009544_1442922007034957718_n استمر في القراءة د. رحمن غركان: قصائد الموضوع والبحث عن الحضور.. قراءة في المجموعة الشعرية (أيها المحتمي بالأرق) لشلال عنوز/ العراق.

ريم محمد: الروح وتجلياتها.. ما نعلمه وما لا نعلمه.. قراءة في قصة (سحر الزوجة) للكاتب: أنمار رحمة الله.

   قراءة من منظور سحري لقصة اجتماعية شكلاً غرائبية مضموناً بمعالجة نفسية تراكمية (اللجوء للعقاقير السحرية/ كبدائل لتغيير الواقع الذي لانقوَ على تغييره حقيقة بل ولا نجرؤ).
  بدايةً هذه القصة مأخوذة من المجموعة القصصية “أبناء البغايا الطيبون” للكاتب المبدع وهي مجموعة قصصية بمعالجات نفسية اجتماعية وغرائبية لمجموعة من الأحداث المجتمعية المتصلة واللصيقة بحياتنا القريبة والبعيدة كأفراد ننتمي لمجتمعات تعاني ما تعانيه من أحداث يومية اعتيادية ولها دلالاتهاِ وإسقاطاتها…
بعد مطالعة هذه القصة للمرة الأولى لفت نظري كالعادة مستويين، فكما هي عادة الأستاذ أنمار يتعمد أن يطرح مستويين في قصصه..
*مستوى أول واضح،اجتماعي، حقيقي ومفهموم (الزواج دون مشاعر/ التقليدي).
*مستوى ثان يطرح به عدة مشكلات بعضها يمر مروراً، وبعضها يجب التوقف عنده (اللجوء للسحر والتماتم في حل المشكلات/ قيمة الحياة الزوجية ورفاهيتها كمدلول نفسي واجتماعي لكل أسرة على اعتبار الأسرة هي الخلية الأولى في المجتمع ونجاحها بالضرورة هو نجاح لكل أبنائه.
  فلنبدأ من المدلول أو كلمة المفتاح ( السحر/ الشعوذة/ …).
*فالسحر ارتبط ارتباطاً وثيقاً بموروثاتنا كشعوب على اختلاف ثقافاتنا ودياناتنا.
  كثر هي الموضوعات في الأدب العالمي على امتداده التي أبرزت موضوع السحر والشعوذة كعقدة يعتمد عليها في أطروحات أدبية وفنية وأحياناً سينيمائية ومسرحية وأيضاً سيمفونية.
*في الأدب لدينا الأسطورة الأقرب للخيال والمعبأة في موروثات الشعب الفرنسي قديماً والمؤثرة والمتطورة كحبكة معتمدة في أغلب القصص المنسوجة من الخيال (تريستان وإيزولت/ قصة الحب الجنونية التي انتهت بموت البطلين اللذين لم يقويا على تحمل جريرة حب آثم استمر بفعل عقار مسحور ).
*مسرحية روميو وجولييت (ذلك العقار المسحور الذي أوهم روميو بموت جولييت لتنتهي حياتها وحياته فيما بعد بالخنجر ذاته).
*قصة عروس البحر الشهيرة والتي كانت الصفقة أن تضحي بصوتها في سبيل الحصول على ذلك العقار وانتهت أيضاً بموتها.
*قصة بحيرة البجع/ كرمز ومدلول من مدلولات السحر الأسود الشرير لتحطيم حياة البطلة التي تتحول إلى بجعة نهاراً وفتاة ليلاً.
*ومؤخراً في الفيلم السينيمائي الشهير الموجه للأطفال (القوة) والذي نحت بطلته /ميريدا/ أيضاً ناحية السحر لتكسر رأي أمها بزفافها فتتحمل العواقب وهي تحول أمها لدبة ضخمة.
والأمثلة أكثر من أن أحيط بها جميعا.
   المهم أنني سأشيد بذكاء الطرح للأستاذ أنمار (العقدة / السحر) .. من أبهى الطرق التي توصل الفكرة، وهذه مقدرة وخبرة كبيرة من الكاتب لابد أن نثني عليها.
  البداية زفاف تقليدي رداً على علاقات حب فاشلة من طرف واحد والنتيجة أسرة متفككة ورب أسرة حزين ونادم .
الحل هو اللجوء للسحر بتناول عقار “لن يكون مجانياً كأغلب القصص من هذا النوع ” على النادم أن يضحي بنصف عمره بدايةً، ثم وعند تغيير رأيه سيضحي بالنصف الآخر (النتيجة الموت/ رؤية عبقرية ركّزتها النهاية الصادمة)
  بكل بساطة الإنسان الطبيعي السوي سيلجأ لحل مشاكله للواقع (فراق/ طلاق/ تسويات)
لم هنا لجأ البطل للسحر؟
  ببساطة لأنه لا يقوَ على تحمل تبعات قراراته فكما لم يتحملها بداية لن يتحملها نهاية.
  لذا فاسم القصة (سحر الزوجة/ هذا السحر الذي أحاطته به منذ ليلة الزفاف/ وهي القوة الناعمة لاستقرار الحياة الزوجية)..
لكن لم سترتدي الاسود؟
الزوج حاضر معهم يراقب كبرهم ويحتفي بهم، ولكنه ضمن (إطار/ صورة/ متوفي).
  وهنا لو بدأنا القصة من نهايتها لأتضح لنا أن روح الزوج الميت هي السارد الحقيقي، فالموت هو بداية القصة والجائزة التي حصل عليها هي بقاؤه ضمن جدران منزله وبين عائلته حتى ولو كان غير مرئي!
المعالجة السحرية الشيقة:
 
  ابتدأت بالندم على حياة مفقودة بزواج تقليدي/ البحث عن حلول/ اللجوء للسحر والشعوذة/ ومن ثم الندم/ قرار العودة إلى ماسبق/ الموت…).
(هذه دلالة على محبة الواقع على الرغم من رفضه وكرهه كأمر حاصل في البداية).
الأسلوب:
  المتتبع لقصص الأستاذ أنمار وطريقته يجد واقعية سحرية أو متخيلة شكلاً، مع ربط تقني أسلوبي بأحداث واقعية تستفز مخيلة القارئ ببساطتها، ثم تنحو به إلى مستويات أكثر حساسية وأهمية “مشاكل الزواج وتبعاته شكلاً / اللجوء للسحر كحلول”.
اللغة:
 
  يعتمد كاتبنا أسلوباً سردياً مشوقاً، كل جملة تدفعك للاستمرار أكثر والغوص لتكتشف المزيد بلغة بليغة محببة قريبة من أغلب مستويات القراء، حتى تصل للخاتمة المدهشة، والتي تجمع كل مايريده في حركة أو لون أو شكل وهنا (كانت بمدلول اللون الأسود/ الموت).
  السؤال الذي يطرح نفسه هنا وبعد قراءة هذه القصة قراءة متأنية:
*ترى هل نجح سحر الزوجة في إبقاء ذكرى زوج ميت داخل جدران البيت؟
*وهل نجحت روح الزوج (رب الأسرة) في البقاء وبرضى كامل ومحبة بين أفراد أسرته وقريبًا منهم ولصيقًا ومؤثرًا وفاعلا؟
 
  والمتأمل الفاحص للمتن قد يجد إشكالية فيما يخص إنكار وجود الساحر وصومعته عندما سأل عنه بطل النص، ولحل هذه الإشكالية يمكننا الاتكاء على فرضية مهمة، وهى ما نجزم يقيناً أن الكاتب المبدع تعمدها، ألا وهي السرد الروحي كما قلنا في البداية، بمعنى أن سارد النص ما هو إلا روح، روح تروي لنا أحداثاً وقعت لها عبر حياتها الأرضية ملازمة للجسد، وذلك باستعراض ثلاث مشاهد، مشاهد تبدو في ظاهرها متراتبة زمنياً، ونستعرضها فيما يلي تلخصياً غير منقوص..
*المشهد الأول: عدم الرضا واللجوء للساحر وسحره ( مكان وزمان).
*المشهد الثاني: الامتعاض من النتائج والبحث عن الساحر( زمان/ لا مكان).
*المشهد الثالث: الالتقاء بالساحر وإصلاح النتائج السيئة ( مكان وزمان).
والسؤال الملح الذي ينبغي البحث له عن إجابة هو.. أين وكيف اختفى الساحر (مكانًا وزمانًا) في المشهد الثاني ثم عاود الظهور في المشهد الثالث كمثيله في المشهد الأول؟
وللإجابة عنه نشير كما قلنا سابقاً للروح، ففيها الحل الأمثل والأنجع..
  الروح هي روح السارد، والروح عندما تغادر الجسد لا يحدها مكان ولا زمان، ومن هذه الميزة ننطلق لنبرر اختفاء الساحر من المشهد الثاني بل وإنكار وجوده أصلاً، فللروح حرية التجول عبر الأزمنة والأمكنة قديمها وحديثها، ونتيجة للارتباك الظاهر في نفسيتها (سرداً) أخطأت الزمان المنشود إلى فترة زمنية سابقة، فترة زمنية تسبق وجود الساحر في هذا المكان المحدد، لذا لم يتعرف عليه أحد، بل وأنكروا وجوده أصلا بينهم وفي هذه البقعة المحددة مكانياً.
  قصة مخاتلة ابتدأت منذ النهاية بتبرير الموت وبطريقة سحرية حالمة خيالية تطرق القلوب قبل النفوس لتعيد ترتيب أحداث قصة ممكنة الحصول في أي بيت (زواج تقليدي/ ندم/ بحث عن حلول) مقابل فقد لأحد الأركان الأساسية (زوج أو زوجة).
 
___________________________________________
النص:
  كان زواجي تقليدياً من امرأة لم ألتقِ بها سابقاً، شاءت الأقدار أن نرتبط في علاقة معقدة. أصحو بعد ليلة العرس لأجد امرأة غريبة نائمة إلى جواري.!. إنه أمرٌ غريب فعلاً.. وصل الحال إلى ما هو عليه، نتيجة فشلي المتكرر في علاقات حب من طرف واحد. لهذا قررتُ الانتقام من فشلي في أن أخوض علاقة عشق ملتهبة، كالتي نسمع عنها في الأغاني ونراها في الأفلام، وأطلق النار على حياتي بطلقة زواج تقليدي رتيب.. ومرّت السنون.. وأنجبنا أطفالاً، ومع كل يوم يمرُّ أكتشف أنني كنت مخطئاً. فلولا التسرّع في قرار الانتقام من فشلي في علاقات الحب السابقة، لكنتُ الآن متزوجاً من امرأة تفهمني وأفهمها، تحبني وأحبها. أو قد أكون بلا زواج إلى الآن، وهذا أهون من عيشي مع امرأة كان ارتباطي بها كلاسيكياً على طريقة جدي وجدتها.. لهذا لم أتوان في أن أدلف إلى بيت منعزل خارج المدينة، قيل أنّ فيه ساحراً عجيباً يفعل المعاجز. ذهبت إليه ذات يوم وشرحت له حالتي فسألني:
– هل تريدُ تغيير حالك..؟
أجبته فوراً:
  – نعم.. أريد زوال كل شيء يمتُّ إلى زواجي بشيء.. ومن غيرك يستطيع هذا، فأنت تعرف جيداً كيف تفرِّق بينَ المرء وزوجه..
ابتسم الساحر قائلاً:
  – طلبك سهل.. لكنني سأقول لك ماذا سيحدث وماذا عليك أن تخسر بالمقابل.
  وافقت على كلامه وقد ملأني الفضول لمعرفة ما سيحدث وما هي شروطه فأجابني:
– بداية ستختفي زوجتك ويرجع بها الزمن لتمارس حياتها بعيداً عنك، وسيختفي أطفالك أيضاً لأنهم ظهروا للعالم بعد زواجكما..
سرح بالي قليلاً وأنا أنظر إلى وجهه المتيبس والغترة المتدلية على جبينه وهي تخفي إحدى عينيه، ثم قلت له:
  – نعم.. أوافق على هذا.. هل هذا ما سأخسره؟
أجاب الساحر:
  – لا بالطبع.. ستخسر نصف عمرك..
  – نصف عمري؟!
أخذ الساحر شهيقاً خفيفاً ثم قال:
  – الزوجة يا هذا أليست هي شريكة عمرك؟! لهذا عليك أن تعطي نصف عمرك لها لكي تطلقك طلاقاً سحرياً لا يضرها ولا يضرّك.. عليك أن توافق على التنازل عن نصف عمرك المتبقي لها..
فكّرتُ طويلاً بكلامه ولكنني قلت في نفسي وماذا يعني؟.. حتى لو تنازلتُ لها عن نصف عمري المتبقي فسيبقى لي كم سنة ألهو بها وأمرح وحيداً بلا إزعاج وبلا عراك ومنغصات يومية.. فأخبرته أنني موافق على هذا. ثم باشر الساحر في تحضير طقسه الغريب. فجأة تحركت الستائر وتدفّق الدّخان من مبخرة وضعها أمامه، واستولى عليّ النعاس وهو يتكلم بكلمات لم أفهمها. ثم ناولني قدحاً فيه شراب مرٌّ، أمرني أن أجرعه دفعة واحدة، لكنني لم استسغهُ وكدت أقذفه من فمي لولا إصراره عليّ بشربه.. على أية حال أوصاني الساحر أن لا أذهب للمنزل إلا بعد ليلة، وبالفعل ذهبت إلى أحد الفنادق القريبة وقضيت ليلتي وأنا أفكر في ما سيحدث، وهل كان كلام الساحر حقيقة أم خيالاً مزيفاً، لعله مشعوذ غبي أخذ مني أجرة عالية وخدعني؟!. ولم أستطع النوم حتى الصباح فضولاً واشتياقاً لمعانقة حياتي الجديدة. وحين أطلت الشمس على وجه المدينة ذهبت مسرعاً للمنزل.. قرعت الباب ولكن لم يفتحه لي أحد.. أخرجت مفاتيح الباب ودلفت وأنا أنظر إلى المنزل بحذر كمن يترقب هجوماً. كانت الغرف تغطُّ في عتمتها والهدوء يخيّم على المكان كله.. دخلت إلى غرفة الأطفال فوجدتها على حالها، فتحت دولابهم فتفاجأت انه بلا ملابس!. هرولت إلى غرفتي فكانت هي الأخرى بلا ملابس زوجتي.. ملابسي كانت وحدها معلقة في الدولاب!!. فقلت في نفسي يبدو أن هذا الساحر قد سحرني ولم أعد أرى الأشياء لكنها قد تكون موجودة!. لعل زوجتي الآن في المطبخ تعدّ الفطور للأطفال النائمين على الأسرّة، وأنا مسحور الآن ولم أرهم!!. أخرجت من إحدى زوايا الدولاب علبة كان فيها صور للعائلة، صُعقت حين لم أعثر على صورة واحدة لزوجتي وأطفالي!. لقد كانت الصور الموجودة في العلبة هي فقط صوري القديمة قبل الزواج، وبعض الصور الحديثة مع الأصدقاء، ولم أعثر على صورة واحدة لعائلتي.. بداية تملكني قلق فادح، ثم استولى عليّ الهدوء شيئاً فشيئاً حين تذكرت أنها كانت رغبتي، وأن هذا العالم الجديد الذي أعيشه الآن كان حلمي، ولم يتبق سوى أن أمارس حياتي عازباً من جديد، وأفتش عن فتاة أحلامي التي سأحبها وأعيش معها قصة حب ملتهبة، متذكراً أن نصف عمري قد ضاع الآن ولا أدري قد يكون المتبقي منه ليس سوى سنوات أو شهور وربما أسابيع.. ثم زاد قلقي حين استولت عليّ فكرة أنني قد أموت قريباً ولا أعرف كم من السنوات التي منحتها لزوجتي السابقة، وهذا ما دفعني للعودة إلى منزل الساحر البعيد لسؤاله أو معرفة أي شيء يدلني على حساب ما منحته لها من عمر. والغريب أنني حين عدتُ إلى منزل الساحر لم أجد منزلاً أصلاً، وحين سألت في المكان عن منزله أجابني أغلب من صادفتهم أنني متوهم فلا منزل هنا لشخص بهذه المواصفات!!. ماذا يحدث؟!. هل أنا في غيبوبة أم حلم؟!. ألم يكن هذا الساحر اللعين في هذه البقعة أم تراه قد سحرني بهذا أيضاً؟!. ولكي أتأكد أنني لم أكن مسحوراً وأن كل شيء حقيقي، ذهبت لكي أتطقّس على حال زوجتي، فأنا أعرف مكان أهلها بالطبع لهذا ذهبت إلى زيارتهم. فخطر في بالي ماذا لو لم يعرفني أحد منهم؟!. وبالفعل لم يعرفني أخوها الذي تحايلت عليه في السؤال عن منزل آخر مزيف في المنطقة، فأجابني أن لا عائلة هنا بهذا الإسم فشكرته وكاد قلبي يتوقف من تلك الصدمة العجيبة.. لقد كان أخوها يعرفني جيداً بحكم أنني نسيبهم منذ سنوات، ولكن كأنني شخص غريب لم يكترث الأخ لحالي فغادرت على مهل والحيرة تدبّ كنمل متوحش في عقلي.. لم أستطع النومِ لأكثر من ليلة وأنا أفكر في ما حدث، وهذا التفكير سلب مني الفوز بمشاريعي المؤجلة من مرح وحياة مليئة بالعشق والعلاقات والأسفار. ثم عادت بي الذكريات لما قالته لي ذات يوم زوجتي، أن ابن خالتها كان مغرماً بها، وكانت تعيّرني دائماً بهذا حين يحتدم العراك بيننا لتندب حظها. ولا أدري كيف هرولت في اليوم الثاني إلى منزل ابن خالتها الذي لا يبعد عن منطقتنا كثيراً، صباحاً حيث الناس والتلاميذ والحافلات يملؤون الشوارع، فتوقف شعر رأسي حين رأيتها تخرج من باب منزله برفقته ومعهم أطفال كانوا كما هو واضح أطفالهم!!. لم يكونوا أطفالي انا وهي بل هم آخرون يشبهون ابن خالتها الذي كان يسير معها!!. لقد لعنني هذا الساحر الخبيث ومضى؟!. أرجعها إلى صباها وأعاد لها حياتها ثم أكملها في مسار مختلف، وأنا بقيت عالقاً في عالمي هذا ولم يرجعني أيضاً كما يحدث في قصص آلة الزمن؟!. عالقاً مع ذكريات طويلة عريضة عن عائلة كانت موجودة واختفت. وأي اختفاء؟!. هي لم تمت وأطفالي عالقون الآن في دوامة زمنية لا أستطيع الوصول إليها، ولا أعرف أين هم الآن في الماضي أم في الحاضر!!. أسابيع وأسابيع تمضي وأنا جالس كحيوان مريض في غرفتي، أنظر إلى الجدران وأخرج كل ساعة إلى الصالة والمطبخ والحوش، أطالع المكان وتتراءى لي صورهم وهم يطوفون هنا وهناك. وللحظة لم أتذكر بتاتاً سوى اللحظات الدافئة معهم.. حتى قررت أن أذهب إلى منزل ابن خالتها وأصارحهم بكل شيء، لعلها تتذكرني فمن المستحيل أن لا يحدث هذا، وأنبهها عن أطفالنا الذين اختفوا في عالم غامض. وقد كانت فكرة غبية، لأنني حين وقفت لحظتها على الباب وخرج لي زوجها المفترض، قلتُ له أين زوجتي، فوضع كفه على صدري وقال عن أي زوجةٍ تتحدث؟!. ربما أخطأت العنوان.. لكنني صرت أنادي باسمها، فخرجت ونظرت لي نظرات كلها استغراب، صحيح أن لحيتي كانت كثة وملابسي فاحت منها رائحة لكنني كنت واثقاً ثقة الغبي أنها ستتعرف عليّ. وقد صدمتني بعبارتها التي نادت بها زوجها قائلة (هل أتصل بالشرطة؟) فأجابها وهو يدفعني لأسقط بعدها على الرصيف ( لا داعي لهذا.. يبدو أنه رجل مختل ولن يقترب إلى هنا مرة أخرى).. بعد هذا الموقف مرت الأيام كأنها مناشير على قلبي المتخشّب.. لم أعد أريد شيئاً في الحياة سوى عودة كل شيء إلى حاله، لقد اشتقت إلى رؤية أبنائي ورؤيتها في منزلها القديم. وكنت أشعر أن عمري بدأ يتناقص بسرعة مهولة، حتى صرت شائخاً في مدة بسيطة، وما هذا النقصان إلا ضريبة دفعتها لكي أتخلص من زواجي الذي صرت ألملم بقاياه المتناثرة كالأوراق الممزقة في شوارع الذكريات.. ولم انتبه إلى قدميّ اللتين ساقتاني بلا شعور إلى مكان الساحر المنعزل خارج المدينة، وبالفعل لم أصدق عينيّ وفركتهما كثيراً حين لمحت منزله الذي كان في المكان ذاته!!. هرولت إليه كما يهرول التائه العطشان في صحراء صوب غدير ماء، وطرقت بابه بقوة ففتحها لي وكان كما هو.. سألته أين اختفيت فضحك وقال لي:
– ها.. هل نعيد كل شيء إلى مكانه؟!
سقطت على ركبتيّ وأجبته ودموعي تفرّ من عينيّ كطفل يتيم
– نعم.. أرجوك.. أرجوك
لكن الساحر قال لي:
– إعلمْ .. أن ضريبة عودتك إلى عالمك السابق ستحتم عليك أن تدفع عمرك المتبقي لزوجتك، ولأطفالك كي يعودوا إلى هذه الحياة.
وافقت على هذا من دون تفكير وقلت له وأنا أمسك بكفه راجياً:
– اوافق.. سأمنحهم ما تبقى من عمري لكن أرجعهم.. أرجعهم حتى لو عشت يوماً واحداً معهم، على الأقل سأعيش معهم كذكرى والد متوفي لمدة أطول من عيشي معهم وأنا على قيد الحياة..
وبدأ الساحر يجري الطقس ذاته، وبالفعل أنهى كل شيء ثم أعطاني القدح ذاته فتذكرت طعمه المرَّ في البداية، لكنني استغربت حين كان الشراب حلواً؟!. شربته كله دفعة واحدة بلذة لم أألف مثلها في حياتي، ثم نبهني أن لا أذهب للمنزل إلا صباح اليوم التالي. وبالفعل لم أذهب حتى صباح اليوم التالي ولم أبت في فندق ليلتها، بل جلست على الرصيف المقابل لمنزلي وأنا أنتظر طلوع الشمس، ولم أرتح حتى رأيت باب منزلي يُفتح وقد خرج منه أطفالي، يحملون الحقائب ذاهبين إلى المدرسة، ودّعتهم زوجتي بصوتها المألوف عندي جداً.. لقد عدتُ إلى المنزل وعشتُ حياة طويلة معهم. مع اطفالي الذين كبروا يوماً بعد يوم، وزوجتي التي لم تخلع ثوبها الأسود منذ عودتي..

مختار أمين في قراءة: “الرمز من خلال المعنى في القصة القصيرة جدا” في قصة (شراعة) للكاتب” عماد أبو زيد/مصر.

 مفهوم الرمزية في الأدب

أبسط معنى للرمزية هي المثل البلدي في الحكاية، عندما نحكي حكاية لشخص وهو بعيد عن مناخها وبيئتها نضرب له مثلا (بلدي) من بيئته ليستدل به على المستور عليه من طبيعة الحكاية كي يفهم به ما خفي عليه..
إذن دور الرمزية عكس ما البعض يفهمه على إنه الغموض والتعتيم والتفلسف أحيانا، ولكن دور الرمزية هو الشرح والإيضاح، أي تبسيط ما غلق أو ما عُتم، ولهذا لم تؤلف المدرسة الرمزية في الأدب كحلية أو زينة نسائية زائدة من جملة إكسسوارات امرأة تعد كل ما لديها لتتزين في حفل عرس، ولكنها بمثابة الدليل الراشد الفصيح، هي كعصا موسى “هي عصا أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي، وليَ فيها مآرب أخرى” عصا موسى التي ممكن أن تنقلب إلى معجزة خارج المألوف والطبيعي لتستخرج منا الابهار والادهاش، وليس على إطلاقهما ولكن للمعنى المراد لمجراياتهما، هكذا تفعل الرمزية في الأدب..
المتعارف والمستعمل الشائع للرمزية هو استخدام الرمزية في اللغة الفنية -اللغة الأدبية- وغالبا ما تكون على حدود تفسير وإيضاح العبارة أو الجملة، ومن النادر القليل أن تستخدم الرمزية في موضوع النص، أي في معنى النص ذاته، ولكنه من الضروري وضمن آليات القصة القصيرة جدا، لابد لهذا الجنس الأدبي على الخصوص أن يكتب بالأسلوب الرمزي، وتعد الرمزية من جماليات لغته الأدبية وخاصة الرمزية في الموضوع..
وفي نص شراعة للكاتب عماد أبو زيد، تتجلى الرمزية في الموضوع بشكل احترافي صفات وعلامات المهنيين المتمرسين في كتابة هذا اللون من الأدب..
 
النص:
شراعة:
ماذا حدث أيها الباب؟
في باكورة كل يوم أضع عينيّ تحت قدميك الراسختين.. أبحث عن رسالة تركها البوسطجي في أمانتك، سامحني إن لم أعد أبتسم كما كنت، وأنا أحني رأسي لك والفرحة تملؤني.. أخطف الرسالة من فوق بلاطاتك، لكن نور شراعتك يربت عليَّ.
 
تحليل النص:
في الموضوع:
  إذا تطرقنا للكشف عن الرمزية في الموضوع لابد لنا أن نبحث عن الفكرة التي أراد الكاتب أن يغزلها في موضوع قصته، فالفكرة هي محور الرمز والكشف عن مدى عبقريته..
هل الفكرة التي أراد الكاتب أن يدسها في نص قصة قصيرة جدا، يقصد بها الشراعة تلك الفتحة البسيطة من (عقب) الباب تسوق بصيص ضئيل من النور ليسري داخل غرفة مظلمة منعزلة عن عالم الفضاء من حولها لتبعث الأمل للشخص المعزول بداخلها ينتظر أن يتذكره واحدا من الناس خارجها أو شخص بيعنه ينتظر أخباره على نار الشوق؟ هل أراد بفكرته أن يحدثنا على نوع ما من الوحدة والانعزال، وصاغ هذه التقنية ليقربنا مسافة من الإحساس بحبيس في زنزانة سجن؟ هل أجاد في أن يصوّر لنا أن كل مخلوق له سجن خاص به خلف بابه المغلق، ويرجو مدد الأمل من رسالة تلقى من شراعة الباب؟
  كل هذه الأفكار وأكثر منها ساقها إلينا نص القصة القصيرة جدا شراعة برمزيته المتقنة بسلاسة، وخفة روح قلم موهوب معتاد على هذا النوع من القص ويعتاد على أسلوبه القص ذاته…
 النص الأدبي الذي لا يبرح مخيلتك لوقت طويل ويجعلك تفكر، ويسوق إليك الأحداث والأفكار من تحت ساتر سطوره هو نص عبقري لكاتب مبدع كـ عماد أبو زيد
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

همس الأسطورة.. وصخب الواقع في الرجل الذي أكله الملح.. قراءة بقلم صلاح نجم.

  على سبيل التمهيد محمود الجمل واحد من أبرز كتاب القصة القصيرة في جيله من كتابها السوايسة، اختطفته الصحافة، والعمل العام سنوات طوال، لكنه فاجأنا بعودته القوية بنشر أولى قصصه بعد الغياب بملحق أهرام الجمعة، بعنوان: “ليلة زفاف أسماء”، ثم ثنى بمجموعته القصصية التي بين أيدينا، والموسومة بـ : ” الرجل الذي أكله الملح” ولكأنه يؤكد تمام الحضور، ويجدد لقرائه عهد إبداع لا أظنه أبدا قد قُطع. إضاءة ببليوجرافية.
  يبلغ عدد قصص مجموعة “الرجل الذي أكله الملح” إحدى وعشرون قصة، اثنتي عشرة منها بالقسم الأول المعنون.. (الرجل الذي أكله الملح)، وتسع منها بالقسم الثاني بعنوان.. “ليلة زفاف أسماء”، وتتفاوت عناوين تلك القصص ما بين القصر والطول، إذ بلغ عدد القصص التي تحمل عنوانا في صورة اسم مفرد من (كلمة واحدة) ست قصص تقع جميعا في القسم الأول، وهي بحسب ترتيب الورود (الخيول ـ الخطوات ـ المفقود ـ الخلاء ـ العزلة ـ سونانور)، انفردت ثلاث منها بتقسيم رقمي داخلي هي: (الخيول/ قسمين)، (الخلاء، العزلة/ ثلاثة أقسام )، بينما بلغ عدد القصص التي تحمل عنوانا من (كلمتين) اثنتي عشرة قصة، جاء معظمها قائما على الإضافة، خمس منها في القسم الأول وهى بحسب ترتيب الورود: (مدينة منهكة ـ وردة لماجده ـ الحمارالوحشي ـ إذا أقبلت ـ صنابير النار)، جميعها خالية من التقسيم الرقمي الداخلي، وسبع منها في القسم الثاني هي: (شفاه أسماء ـ مفتون أسماء ـ صوت أسماء ـ عيون أسماء ـ قطط أسماء ـ فرح أسماء ـ وهم أسماء)، خلت أيضا من التقسيم الرقمي الداخلي، كما بلغ عدد القصص ذات العنوان على شكل جملة، والمكون من (ثلاث كلمات) قصتان تقعان بالجزء الثاني وهي على الترتيب (صديقتي تدخن ميريت ـ ليلة زفاف أسماء)، وكلتيهما خلتا من ذلك التقسيم، وأخيرا قصة واحدة على شكل جملة ذات عنوان طويل (أربع كلمات)، هي تلك المعنونة بـ: “الرجل الذي أكله الملح”، درة التاج، والذي اصطفته المجموعة اسما لها، وواجهتها الإعلامية.
 
 
    وقد نلمح فيما سبق، ميل الكاتب إلى العناوين القصيرة ذات الأسم المفرد من (كلمة) أو القائمة على الإضافة والمكونة من (كلمتين)، باعتقاد أنها الأقرب إلى ذائقة قارئه ـ لما تتصف به الأسماء القصيرة عادة من تكثيف، وإشعاع دلالـي ـ، اعتمد عليها، وأوكل إليها ـ رغم افتقار العناوين من النمط ذو الكلمة الواحدة إلى ما يخصصها بالوصف، أو بالإضافة ـ مهمة تلخيص المضمون، واستقطار الرؤية المهيمنة بالمتن. وإذ يتبدى الاستخدام المفرط للعنوان القصير في ثمانية عشرة قصة، يتبدى أيضا، ذلك التنوع في صنوف عناوينها ما بين؛ التشخيصي كما فى عناوين كل القصص (المنسوبة إلى أسماء)، والغامض، كما في قصص؛ (الخيول والخطوات والمفقود والخلاء والعزلة)، والمراوغ المخيب لتوقعات القارىء، كما في (إذا أقبلت)، والتجريدي الذي يأبى المباشرة، ويرفض كشف ستر المضمون، كما في (الحمارالوحشي، وصنابير النار)، والغرائبي، ذو المسحة الأسطورىة، كما في (سونانور)، بينما نلحظ في المقابل استخداما شحيحا للعناوين الطويلة؛ (ثلاث كلمات) في قصتين، أو (أربع كلمات) في قصة واحدة فقط، ولعلنا نلتفت إلى هذا الإستخدام المحدود للتقسيم الرقمي الداخلي لثلاث مرات فقط في ثلاث قصص متوسطة الطول ذات عنوان (كلمة واحدة)، ربما بدافع الرغبة في تسريع الإنتقال من مشهد سردي لآخر، تأثرا بأسوب المشهد السينمائي، وأخيرا، فإن كان التنوع قد طال العنوان طولا وقصرا وتصنيفا، فإنه قد طال أيضا المتن ذاته، طولا وقصرا، فجاءت (وردة لماجدة) أقصرالقصص طولا (صفحة واحدة)، (وصنابير النار، والرجل الذي أكله الملح)، أطولها (تسع صفحات) لكل منهما، ثم ذلك الميل لدى الكاتب نحو القصص متوسطة الطول من ثلاث إلى خمس صفحات كما في اثنتي عشرة قصة، ولعله من المناسب هنا، الإشارة إلى أن ذكر الزمان صراحة بالعنوان لم يرد سوى مرة واحدة في (ليلة زفاف أسماء) آخر قصص المجموعة.
  همس الأسطورة، وصخب الواقع تتعدد أشكال الاقتراب من الواقع في السرد المعاصر، والذي قد يأتي مباشرا، أو رمزا عبرالتشخيص الفني غير المباشرأحيانا، أوأسطرته، أو ملامسته أسطوريا أحيانا أخرى، ولإن كان محمود الجمل، من هؤلاء الذين استبد بهم الرمزي، وأغواهم الأسطوري، وأدهشه منطق الغرائبي وعالمه، إلا أنه لا يغفل، ولا يقبل إلا أن يحملها جميعا ما استطاع من صخب الواقع، وقبحه، وخشونته، وقد تبدى هذا الشغف جليا في عدد ليس بالقليل من قصص مجموعته “الرجل الذي أكله الملح” نذكر منها قصة “سونانور”، وفيها، يجيء مشهد لحظة خروج سونانور أشبه بطقس سحري لإستحضار امرأة خرافية التكوين والجمال، يحضر جسدها الممشوق كالرمح، ككيوبيد شبقي آت من عالم الغيب البعيد، و بلغة شعرية عميقة الدلالة يصف لنا الراوي/ البطل لقاءه العجائبي الخيالي الفريد بجنيتة البكر، يقول: “خلف الزهر الجبلي نغيب معا، تخفت كل الأصوات الليلية، تختلط الأعضاء المنفرطة “ص28، إنه لقاء أنثى مستحيلة، وبشرى لم يتبق منه سوى الحُلم، وجسد وحشى، وواقع بمرارة الصبار. ورغم طغيان حالة التجريد على مادة القص وسيطرة المسحة الأسطورية على جوها العام، إلا أننا، ومن وراء ستارالرمز الكثيف، قد نلمح أحيانا ـ ولو عن بعد ـ ظلا باهتا لواقع مُجهض، أو دبيبا جنينىا لحلم مبتسر، أو همسا لعاشق ينتظر، فالمجرد والأسطوري عند الجمل لايخلو من ظلال ولو باهتة لواقع ما، فإن بدا ظاهره مستغرقا في الغرائبي، فإنه الغرائبي الذي يخفي وراء ستائره عاصفة من الدهشة التى تفتح لدى القارىء بابا عريضا من التساؤلات والتأويلات التي لاتنتهي. وبعد، فإن كانت الأسطورة، بهمسها الشفيف قد مارست سلطانها، وبلغت ذروتها في “سينانور”، حيث البداية الطقسية: “حبهان.. مستكة.. عين العفريت.. روح الخروب .. تمتزج الحبات الملتمعة وسط النار، يرتفع دخان، يتكاثف، تختلط رائحة البخور المتصاعد برائحتى، تخرج (سونانور) جسدا كالرمح”ص 27، والنهاية الشعرية: “يبقى في الساحة الرملية.. جسد وحشي مختلط الأعضاء.. وشجيرة صبار شوكية، وبيضة كبيرة لأنثى الرخ.. “ص 28، واللغة ذات الإيقاع بجملها القصيرة وتكويناتها البلاغية: ” ليس بها من دمى المسفوح بمنقار الرخ سوى أثر بالشفتين وبالنهد الأيسر وبإبهام الكفين “ص 27، والمتن المتسامى المفارق للواقع، فقد تغير الأمر فى قصة “إذا أقبلت”، تلك التي علا فيها صخب الواقع على همسها وتهويماتها، إذ تتخفف الحكاية الغرائبية من بعض ثياب التجريد الثقيلة، وتتحول إلى أداة تشخيص فني تشف رمزيته عن بعض أمراض واقع متخيل ـ وإن كان قابلا للحدوث والتكرار ـ فيجىء النص لامزا بالإشارات، متخما بالتلميحات والدلالات، والكثير من الطقوس والممارسات التى تشي بوقوع أفراد مجتمع ما بكل فئاته وطوائفه، أسيرا لشعائرتغييب العقل، وتضليل الوعى، ويعترف لنا ذلك الأفاق، “نموذج المُضلل” القصصى، محدثا نفسه فى مونولوج كاشف لخبايا اللعبة: “أغوص في نفسي، تأتي النسوة للخلوة، بحروف بنية، بلغة منسية، أسطر، أكتب، أرسم، الأسد الهصور، الطير الكاسر، يأتى الطفل، مجدورا، ممصوصا، ينزف من يومه “ص 44، فكل النساء يأتين بإرادتهن الحرة إلى خلوته، بما فيهم زوجة الحاكم المتعطشة للمال والجاه والنفوذ، فلايتردد في دغدغة شبق تطلعها الجامح، وشهوة الهيمنة لديها بأكاذيبه، يقول لها: “(ها قد دانت لك الدلتا بضواحيها.. إلا الزاوية الصفراء فأهلها مجانين، أصبحت سيدة القلعة، صاحبة النبتة الخضراء، راعية القوم، ناثرة القمح، صرت عظيمة .. ثرية.. أميرة)”ص 43، كلهن يقدمن طواعية كل مايعتقدن ـ وهما ـ قدرته على تحقيق الأحلام، وكلما كثرت النساء الحسان: “تنتفخ أعضاؤه، يطلب أنثى، الخطوات كثيرة، الأصابع طلاؤها يلمع ” ص 44، ويصبح الجسد ذاته هو المطلب والثمن، وتبدأ المراوده: “يدس شفتيه فى الأذن الأخرى ويهمس، خففى عنك ثيابك، الجو حار وأنا اليوم مفرهد “ص 43، وهنا، تختلط الرغبة بالحلم، ويصبح فعل الأنجاب ـ باعتباره وسيلة الإستمرار والتواصل ـ فعلا مشروعا، حتى وإن أثمت وسائله، بعد أن استحال سرابا بسبب ضعفت أصلاب الرجال، لكن، ولأن الحصاد دائما من جنس العمل، تأتي الثمرة عطنة و شائهة؛ اجيال ممسوخة، ومجتمع منحل و متحلل، زائف عقيم لا غد له ولا مستقبل، وتباغتنا طلقة المفارقة الغرائبية مدوية، تلك التى يطلقها الرواى على لسان القابلة فى أبلغ ختام للمهزلة: “صوت صراخ.. الداية تجري، تصرخ في الجمع: امرأة الحاكم ولدت قردا”ص 45. هكذا، لايستنكف محمود الجمل عن توظيف كافة التقنيات الممكنة التي تمكنه من تخييل الواقع، فيستحيل واقعا مرموزا له مذاق الغرابة وإن ظل محتفظا برائحة المرجع وجوهره، فهو عندما ينتهج شعرية القص، وينفي عن فضاء غالب قصصه زمانا بعينه، ومكانا بذاته، أو عندما يراوح في متونه، أو يماهي بين حواره، ووصفه، ورؤية راويه، ومونولوج شخصياته، فإنما لكى يدشن لنفسه بصمة تجريب خاصة متفردة.
 
حكايات الذات.
    تحظى حكايات الذات في قصص الجمل باهتمامه الخاص، إذ تشغل المساحة الأكبر في صفحات مجموعته، وتعد قصتي “الرجل الذي أكله الملح” ، “وصنابير النار”، نموذجان بارزان لحكايات الذات، أو القص السيري الذاتي عنده، فقد احتوت القصتان ـ الكاشفتان عن وعى الكاتب بأمانة الشهادة التاريخية ومسئوليتها ـ أشارات دالة عن شخصيات معروفة؛ مسماة، أو مجهولة الإسم، أو متعينة بحكم وظيفتها، أومكانتها، أو دورها ونفوذها العام، حتى وإن تعمد الكاتب اخفاء كل أو بعض أسمائها، كما تضمنت القصتان أماكن معلومة، ووقائع محددة، يميط الكاتب اللثام عن الخفى من تفاصيلها، ويُنطق المسكوت عنه منها فى تاريخ هؤلاء، يكشف عن فسادهم، وحقيقة علاقته وإياهم، والتي يوجزها في القصة الأولى بقوله: “كنت معروفا تماما لديهم، وكثيرا ما ارتطمت بهم، كنت أهاجمهم وأفضح تصرفاتهم، بعضهم كان يعمل سمسارا للأراضي رغم موقعه السياسي، والآخر كان المستشار القانوني لأحد اللصوص الكبار”ص 47، وهو، إن كان قد (تحوّط) بأن اكتفى عند الحديث عن خصومه بذكر مراكزهم في الهيئة الإجتماعية، فقد ذكر صراحة أسماء من تربطه بهم قرابة او صداقة بقوله: “عندما حضر أخيرا أحمد حزين ومعه عدلى حسين، اندفع الجميع نحو الاول لتعزيته إذ كانوا يعلمون طبيعة علاقتنا معا، لم يتحمل أحمد حزين عبارات الرثاء وغلبته دموعه فجلس بجوار جثتي …. ” ص 54 ومن الطريف حقا أن قصة ” الرجل الذي قتله الملح ” ـ رغم كونها تسجيلية بامتياز ـ تقدم نموذجا للسرد الذي يجمع بين اللا معقول والسيري الذاتي، معا في تمازج فريد، والقصة، تسجيل لوقائع محددة، وأماكن بعينها، وشخصيات معروفة، وأحداثا ترددت على ألسنة معاصريها ردحا من الزمن، وتكشف بعضا من المستور، وجانبا من صراعات النفوذ والمصالح آنذاك، وهي بالقطع ليست قصة بوليسية تسعى وراء فك اللغز، وتكتمل بكشف الجاني، والتفاصيل التي تقدمها ليست أبدا من قبيل التشويق أو الإثارة الفنية، ذلك إن واقعة قتل أو الشروع في قتل بطل قصتنا ليس الأول، ولن يكون الأخير، وأن سلسلة تصفية الساعين لكشف مالا ينبغي كشفه ستظل مستمرة مابقيت الحياة، وما كان اختفاء جثة البطل ـ باعتباره أيقونة مجابهة الفساد ـ في المشهد الأخير، إلا معادلا فنيا لهذا الإستمرار، وكدرة التاج، تحتل هذه القصة ترتيبها المتميز في بؤرة نواة المجموعة ومنتصفها، ويتعين عنوانها ـ دون غيرها ـ من أربع كلمات تحمل جينات المتن وتشف عنه، ولعله من نافلة القول أن نُذّكر بأن الحكاية وإن بدت استرجاعا حرفيا لأحداث واقعية فى مرحلة ما من حياة صاحب السيرة وشخصه، فإن السارد ـ لا بد ـ قد أعاد ترتيب هذه الواقائع، ونفخ فيها من روحه الفنية، وصبغ حقائقها بلمسة اللامعقول التي أشرنا إليها، والتي تجلت فى إنفراد بطل القصة (القتيل) دون غيره برواية واقعة إغتياله، بل وقدرة جثته من رصد أدق تفاصيل الحركة، وانفعالات الأشخاص ـ خصوما وأصدقاء ـ من حولها، علاوة على قدرتها الخارقة العجيبة على الإختفاء المباغت المريب، الأمر الذي يجعل من القصة نموذجا متفردا للقص السيري الذاتي في ثوبه الغرائبي. وأما قصة “صنابير النار ” فتعد استرجاعا تسجيليا فنيا لإثنتىن وسبعين ساعة، ربما كانت الأكثر إثارة فى حياة الذات المروية، صاحبة السيرة، على لسان راويها ـ البطل ـ الذى هو نفسه ذلك الصحافى الذي يروى سردا تفاصيل القبض عليه لجرأته المتجاوزة، حين انتوى نشر وقائع تزوير انتخابية بالعدد الجديد من الجريدة التى يصدرها، يقول: “لم أكن أدرى أن ما كنت أنوي نشره عن وقائع تزوير الإنتخابات البرلمانية الأخيرة سوف يكون سببا فى القبض على وحملى في عربة مسرعة نحو مبنى مديرية الأمن” ص 57، هكذا، تبدأ معاناة الذات، وتتشكل حكايتها الأسوأ، مع تجربة الإحتجاز المريرة، والتي تتابعت حلقاتها مضطردة خانقة منذ تلك اللحظة البائسة التى أفاق فيها صاحبنا ليجد نفسه داخل زنزانة رطبة، وعلى موعد مع مصير مجهول، وضابط تحقيق متأفف ناقم على ضيف آخر الليل الثقيل الذي حرمه من الانصراف والعودة إلى منزله، ذلك الذى يصفه السارد فى بلاغة منقطعة النظير، بقوله: “الوقت يمضى وصديقى الضابط المسكين يبحث لي عن حفرة يزجني فيها” ص 57، ورغم توجسات اللحظة ومخاوفها، لا يتردد السارد في أن يخرجنا من عبثية المشهد، فيقطع التدفقات المقبضة لتفاصيل المأزق، ويستبدالها بخواطر أخرى يستجلبها من خلف جدران محبسه، فيلجأ إلى الاسترجاع للتخفيف من كأبة الأحداث؛ فيذكرنا بزوجته وأولاده : ” كنت مشغولا بأمر زوجتى “ص 52، وصديقه المهندس مُرسل الفاكسات، والذى تم استدعاؤه ليلا واستجوابه وصرفه فقام بإخباره، مما كان سببا في أن يتهيأ لأمرالقبض عليه، ويستعيد بعضا من هواجس الاسترابة وتوقع الخطر التي همس بها قبل سويعات لصديقه الطبيب، قائلا: “أشكو من الأرق وحالة من الخوف المجهول تنتابني ليلا.. أرى أشباحا غريبة التكوين، دميمة الملامح تحلق فوق رأسي” ص58، ثم يمرج بنا عائدا من جديد للغوص في تلافيف حكايته، فيذكر بعضا ممن آزروه في محنته، وممن تنكروا له، ويصف بعضا مما رآه وعاناه بمكان احتجازه التي كادت تفتك به “كانت رائحة الطفح في دورة المياه العفنة موجود ة داخل غرفة الحجز تدعوني للهروب”ص 60، ويسمى بعضا من أصدقائه، كمصطفى عبد السلام، وعدلي لواش، وشقيقه عبد اللطيف، الذين كانوا بانتظاره لحظة إخلاء سبيله، كما يورد تواريخ بعض الوقائع يوما وساعة يقول: “كانت الساعة قد بلغت السادسة من صباح يوم الإثنين 28 من مارس، أخرجونا من غرفة الحجز نحو حوش السجن” ص 61، ويسجل تاريخ إخلاء سبيله: “كانت شمس عصر الثلاثاء 19 مارس قد قاربت على الرحيل وكانت رغبة مفاجئة في التجرد من ملابسي قبل أن أحكي لزوجتي وأطفالي ماتم “ص 64، ولعله من قبيل المفارقة اللافته أن تأتي نهاية حكاية “صنابير النار” على غرار ذات النهاية في قصة ” الرجل الذى أكله الملح ” وهو مايؤكد ماسبق الإشارة إليه من أن إختفاء جثة البطل في الحالتين ماهو إلا تأكيد لبقائه كأيقونة وفكرة لن تموت.
 
شخصيات الجمل.
   يرصد محمود الجمل في قصص القسم الأول عددا من الشخصيات المتباينة، يقيم عليها بناءه القصصي باعتبارها المركز الذي تنطلق منه وتدور به ومن حوله الأحداث، إلا أنه قد يلاحظ ثمة قصور في تبيان ما يكفي من الملامح الخارجية والداخلية لبعض هذه الشخصيات، مما أفقدها قدرا من كفاءتها الدرامية، ومع هذا فقد تميزت شخصيات هذا القسم من المجموعة على ما سواه من حيث التنوع، إذ يمكننا أن نمسك بتلابيب بعض نماذج هذه الشخصيات من مثل ذلك البدوي، الذي لا نعرف عنه سوى عمامته وصلعته، الخائف السلبي المكتفى بمراقبة الأمور عن بعد، الصامت الذي لا يخرجه مشهد العنف القريب ولا مقتل الطفل البريء عن صمته، بل ويفر هلعا مهرولا خلف راحلته الهاربة كما في قصة (الخيول)، وشخصية المطارد المهدد فى جميع حالاته، والمراقب فى جميع خطواته، دون أن نستبين ملمحا من شخصيىته أو نذرا عن من يطاردونه، كما في (الخطوات)، ويبدو أن الكاتب ـ وهذا حقه ـ قد اتكأ على كفاءة سرده، وبلاغة لغته، والمتاح من تفاصيل المكان والزمان، في مد القارىء بما يعينه على تصور ما خفي من ملامح شخصياته، وحثه على تخمين طبائعها، فيم تفكر، ومم تخاف، ودفعه للتعرف بنفسه على حقيقة أزمتها، وكأن الجمل حين أخفى، فإنما فعل لكى يُظهر . وتتمة لما سبق، نجد أنه من الضرورى الإلتفات إلى شخصيتين نرى أنهما قد حظيا بقدر أوفر من العناية فى تبيان الملامح، وهما شخصية (زوجة المدمن في قصة المفقود)، وشخصية (المثقف فى قصة صنابير النار)، والقصتان تكشفان عن مهارة الكاتب في إلتقاط جانبا غائبا من هموم المرأة المهمشة، وتسليط الضوء على واحدة من قضاياها المنسية، وثانيا عن رغبته فى كشف ملمحا خفيا من أزمة المثقف فى مواجهة السلطة. وسأكتفي بالحديث عن شخصية المرأة فى قصة (المفقود) ــ خاصة وقد سبق ملامسة أزمة المثقف في سياق الحديث عن حكايات الذات ــ، حيث تتجلى ملامح شخصية زوجة المدمن بوضوح فيما تتعرض له من العنف الجسدي الغاشم “أتتها الركلة فى منتصف بطنها، رقدت في الركن، خرج هو، أخذ يستحلب فص الأفيون” ص 19، غير أن إذعان الزوجة واستسلامها اليائس لطغيان القسوة لم يكن منتهى ماتعانيه، فاعتبارات الهامشية والفقر وقلة الحيلة قد طحنت عظامها، وأورثتها حالة من الخوف الدائم على نفسها، وعلى طفلها، وفرضت عليها عبء حمايته من عنف أب ـ يُفترض أنه مناط الحماية ـ أفقده الإدمان مؤهلات الأبوة الحقيقية، فاستحال مصدرا للتهديد” يقبل الطفل، يضمه إلى صدره، يضغط عليه.. الطفل يصرخ.. تقترب أمه تجذبه من بين يدي أبيه، تعدو به نحو المنزل “ص20، وفى مونولج للزوجة يضج بالشكوى، حال انتظارها لدورها بالقرب من القناة لملو قربتها، فنلمح في نجواها جانبا من أزمتها، ونتسمع تضجرها من غياب الزوج بالأيام، وخوفها من الظلمة، وشُح ما بالثدى، وحرارة الغرفة، والخوف من الليل والهيش المتكاثر أمام باب بيتها تقول: “أقعد في مكمنى، انتظر الصبح، أحيانا لا يجيء، وعندما أصرخ يصرخ طفلي” ص 20، وتستمر المعاناة، وتحت إلحاح العوز وتضورات الجوع، تخرج وطفلها لتسول طعام العشاء، ويجيء الوصف المتخيل من منظور الطفل، يقول: “تأتي أمي فيسقط علىّ بصرها، تربط يدي إذا كانت مجروحة، وتجرحها إذا لم تكن كذلك، وتحملني ونذهب سويا، نتسول طعام العشاء” ص 31، ويباغتنا مشهد الختام في قصة المفقود بتفاصيل النهاية الفاجعة في حياة الزوجة البائسة، والتى يوجزها الراوى فى جملة أخيرة، وختام مأساوى عنيف: “يحمل عصاته الغليظة، يرفعها عالية ويهوى بها، يسقط بعد أن دقت العصا رأس الطفل “ص 22 . ليس غريبا أن تقوم كل قصص القسم الثاني من المجموعة على فكرة البطل الواحد، لكن المفارقة المُلفتة هي أن يتكرر هذا البطل الأوحد ذاته دون تبديل، وأن تستمر “أسماء” الشخصية الوحيدة المركزية، بعد الراوى المشارك لتسع قصص متتابعة ومتكاملة، بل وبطلة العنوان لثمانية منها . يضم القسم الثاني من المجموعة، القصص إبتداء من قصة “صديقتي تدخن ميريت”، وماتلاها من القصص المنسوبة إلى أسماء، ” شفاه أسماء”، “مفتون أسماء”، “صوت أسماء”، “قطط أسماء”، “فرح أسماء”، “وهم أسماء”، “ليلة زفاف أسماء”، وقد لايخفى على القارىء منذ اللحظة الأولى، أنها جميعا ماهى إلا حكاية واحدة متصلة، تتم فصولها فى فضاء واحد، وإن جاءت متخفية في عناوين متعددة ومنفصلة، إنها حكاية أسماء، الفتاة الخمسينية، على لسان عاشقها المتيم، وقصص أسماء هذه وإن بدت عاطفية، إلا أنها تلامس ـ ولو عن بعد ـ موضوعات شديدة الأهمية في حياة المرأة المعاصرة الناضجة، في علاقتها بميحيطها الإجتماعي، الضيق؛ كتعاطيها الخاص مع مفهوم الحب والزواج في سن متأخر، والواسع؛ كما في تفاعلات علاقات العمل والحياة المتشابكة والمعقدة التى تمارسها طوعا او تنصاع لها كرها. إن أسماء الأنثى الناجحة في كل شيء، إلا في الحب، قد جعلت من الإفراط في التدخين ـ الذي ارتأت فيه “الوسيلة الوحيدة لمقاومة الإحباط والضيق ومشكلات العمل” ص 100ـ ومن عشق القطط، عالمها البديل، ووجدت في حياتها البسيطة، وتفاصيلها الصغيرة، ما يغنيها عن فارس محتمل، وما ينسيها أحلام شاخت وفات أوانها، لقد اختزلت أسماء حياتها في سيجارة تشعلها، أو قطة تداعبها، وبقناعة شخصية، وذات واعية، أدركت أسماء حقيقة واقعها، وطبيعة مشكلاته، وخبرت طرائق التكيف معه، والتغلب عليه بطريقتها. يقدم لنا السارد ـ العاشق ـ أسماء في كل حالاتها، يتفنن في وصف قسماتها الخارجية؛ شفاهها، وصوتها، وعيونها، تلك التى يوجزها بقوله: “تفاصيل معتادة.. جبين أخاذ.. حواجب ثقيلة.. عينان عميقتان.. جسد يضج بالعذرية.. صوت عميق ..” ص 95، ويسهب في ذكر كل ما يخصها؛ سجائرها (الميريت)، وكيف ” تقبض على طرف اللفافة بقوة تبرز عروق عنقها، تدخن تدخينا عميقا، لايكاد الدخان يخرج من داخل صدرها “ص 73، ويصر على أن يدهشنا بتصنيفه الأيديولوجي الفريد للمدخنات تبعا لأنواع سجائرهن، (فالميريت) للبورجوازيات، و(الكنت) للفنانات، و(الإل أم) للمثقفات، و(الكليوباترا) لليساريات، ولا ينسى طقوس تدخينهن ومواعيده، كما يفرد قصصا كاملة؛ لقطط أسماء، ووهمها، وليلة زفافها، ويكشف لنا عن صفاتها الداخلية، وتكوينها النفسي، وكونها تدرك صعوبة أن تجد رجلا يشاركها حياتها، إذ ليس لديها وقت لطهي طعام، ولا لترتيب منزل، ولا لتربية أطفال، ولأنها تعشق الحرية، فقد أوصدت قلبها منذ زمن وأعلنت بأنها غير راغبة في الرجال. تؤمن أسماء بأن الدخان المشبع بالنيكوتين قادر على مطاردة كل الأشباح، وتراه الوحيد القادر على أن يؤنس وحدتها، وعلى ترويضها، تقول عن السيجارة التي صارت رفيقتها المختارة بأنها “أول وآخر المتع في عالم يعج بالثعالب” ص 79، في اشارة بليغة لإيمانها الشديد بقدرة السيحارة على حمايتها من ألاعيب الرجال، ولأن أسماء “تحمل في داخلها قلب راهبة” ص 79، فقد ” قررت الاستمتاع بعذريتها، مع الإفراط في التدخين “ص 86، وأن يكون لها “رأسا خاليا مؤقتا من بعض الهموم، وجسدا يحوي قلبا تزيد دقاته أحيانا احتجاجا “ص 86، وصدرا مفعم ” بالأسى المختلط بالرجاء” ص81. إن شخصية أسماء يمكن اختصارها فيما قالته هي عن نفسها حين قالت لعاشقها الصب، حينما زارها بمنزلها: “لك أن تعلم أنه ليس لي في هذا العالم سوى ثلاثة أشياء، هي فقط التي تشغلني، أمي وقططي وعلبة سجاتري “ص 90 ، لكن أسماء الزاهدة في عالم الرجال، ما لبثت أن تحولت وتبدلت، فلئن كانت قد قالت ذات مرة: “من الصعب وأنا أخطو عامى الخمسين أن أقوم بتكسير كل تماثيلي الخزفية وأن أبدأ من جديد” ص 91 ، فقد فاجئتنا بحق حين أعلنت موافقتها على كسر تماثيلها جميعا، وحين قررت، كما يقول الراوي البطل عنها: “أن تعطيني مفاتيح حصونها وأن تستسلم مختارة وأن تمنحني شرف معانقة كل التفاضيل العذراء “ص 94..
 
الفضاء السردي.
    يتسع الفضاء السردي بقصص الجمل ليشمل في حده الأدنى، (أماكن غير محددة) لااسم لها ولا موقع، بلاهوية أو تاريخ، فقط وصف عام خارجي للمكان عبر إشارات شحيحة لتفاصيله، وقليل من الملامح التى تشف عن طبيعته؛ (فهو مكان صحراوي ساكن لا حركة فيه، محاط بالجبال وبتل عال، وبه عين ماء وجذوع أشجار كما في “الخيول”، وهو مكان مترب بلا أوصاف، لا تميزه سوى شجرة كما في “الخطوات”، وهو شارع ضيق مظلم، وبيت حجري متهالك ينمو الهيش أمام بابه، وعلى مقربة من قناه للمياه كما في “المفقود”، وهو أرض موحلة، وأقبية معتمة، وروائح عفنة تتصاعد من جثث الكلاب التي دهستها العربات المسرعة، يمتزج فيه التراب ببول الدواب وبالقرب من طريق رملي رفيع يقطع أحد المستنقعات، وأصوات غربان فوق الأشجار المنتشرة على أحد أطرافه كما فى “مدينة منهكة”، وهو شارع، وجدران، وأنقاض، كما في “ورده لماجده”، وهو رمل وملح، ووادي ضيق، وساحة رملية، كما في “سينانور”، وهو مكان يُسمع فيه عواء الذئاب، ونعيق الغربان، وجدران حجرية قديمة، أرضه ترابية ومحاط بالأشجار كما في “الخلاء”،وهو شارع طويل ممتد مرصوف بالبلاط، في وسطه عمود خشبى مغروس، وثمة درج خشبى واهن وابواب تفتح بعد أبواب كما في “العزلة”)، وهي ـ كما نرى ـ أماكن يغلب علي معظمها، الصمت، والظلمة، والوحشة، والانعزال عن ما حولها، بدائية الملامح متطرفة، مقطوعة الصلات مع محيطها، تضم شخوصا سلبية، خائفة، مراقبة، ومطاردة، فقيرة، منبوذة، في أغلبها. و(أزمنة غير محددة)، غير متعينة، لا ذكر لها على خط الزمن الحقيقى، ولايمكن نسبتها إلى عهد أو مرحلة أو حقبة تاريخية بعينها، كما في جميع قصص الجزء الأول ـ باستثناء القصتين الأخيرتين منه ـ إذ، لايرد بقصص هذا الجزء ما يشير إلى زمان معلوم، أو ذكر لسنوات، أو تواريخ للأحداث، وإنما اكتفى الكاتب بإشارات زمنية عابرة، كذكر لحظات انحسار ضوء الشمس عند الغروب، وانغمار المكان بضوء القمر الباهت كما فى “الخيول”، أو التلفظ بعبارات على لسان الراوى تشير ضمنيا إلى الوقت مثل “الليل يكبس على” و”عيون كثيرة تبرق في العتمة” وهى عبارات لا تكشف أبعد من طبيعة اللحظة الراهنة كما في “الخطوات” ص 16 ، ومثل “يتركني، يغيب يومين وقد يختفي ثلاثة” و”أخاف من الخروج في الليل” و”أنتظر الصبح أحيانا لا يجىء”ص20، وباستثناء جملة “سوق القرية يعقد كل ثلاثاء ” التى تنص على يوم بعينه ص 21 كما في “المفقود”، وعبارات مثل ” عندما تتساقط الأمطار بشارعنا “، التي تشير إلى زمن الشتاء، و”ويستمرون هم في البحث عني طوال الليل ” و”يبحث أهلي في الصباح بين الأنقاض” ص25 كما في “وردة لماجده”، ونلحظ هذا النهج أيضا في ملفوظات شاعرية مثل “حاملا القلب الأحمر، يرفعه نحو حزم الضوء الشمسية”ص 27، و”يغمرني الضوء القمري الجاف” و” تخفت كل الأصوات الليلية “ص28 كما في “سيانور”، ومثل”تأتيني ليلا فأظل ساهرا حتى يعلو صوت الفجر”ص30، و”أغفو فلا تأتي قبل بروز الخيط الأبيض من الخيط الأسود، تأتيني فاحتلم، يوجب هذا الغسل، والبرد يحاصر عظامي”، في اشارة لزمن الشتاء، والتناص مع الموروث الدينى في “بروز الخيط الأبيض ….” في اشارة إلى بزوغ فجر رمضاني ص 30، ” في أيام المطر، آخذها، نقطع الحواري، نخب في المياه العطنة، أظللها بالشمسية” ص30 كما في “الحمار الوحشي”، ومثل ” لا أثر للقمر في السماء، الأشياء تغطيها العتمة “، “الليلة من ليالي الشتاء الباردة “، “عواء الذئاب لم ينقطع منذ أن دخل المساء “ص 33 ، ” وعاد الليل لا تخدش عتمته أية حركة ” ص33 كما فى “الخلاء”، ومثل “يمتد الشارع في الظلمة منفردا”ص37، ” من أين تجىء روائح هذا الليل، وتلبسني “ص39، “قبل وثوب الشمس ، سأرش وجه الشارع بالماء الرطب “ص 39،” صرنا ضيفين بذاكرة الليل “ص 39 ، “أنت الآن معي.. والشارع يمنح للظلمة أيقاعه..” ص39 كما فى “العزلة”، والإستشهادات المذكورة جميعا تكشف طبيعة الزمن المسيطر في معظم قصص القسم الأول حيث لا نلمح زمنا إلا في شمس تنحسر، أوغروب يأت، أوأضوء قمرية باهتة، قمر يغيب، ومساء وليل وفجر، شتاء وبرد ومطر، ظلمة وعتمة، وحده الأقصى، حيث ( الأماكن المحددة ) المعلومة والمعروفة بل والمشهورة، سواء وردت لفظا فى سياق السرد كمثل: (“الدلتا طوع بنانك، عن يمينك وعن شمالك “ص 41، ” فرع رشيد بملحه وأسماكه، وهوائه المجفف لعرق النفوس ” ص41، ” تل القلزم بأشباحه، حى الأربعين بأرواحه، والغريب بمريديه” ص 42، “ابني بها قلعتك، ثم اخرجي..” ص 42، “ها قد دانت لك الدلتا بضواحبها”ص 42 ) كما في “إذا أقبلت”، أو وردت باعتبارها أحد مكونات الفضاء الذي تدور فيه الأحداث، وتتحرك داخله أو بقربه الشخصيات، مثل: (منطقة ركس، وفندق البوريفاج، ومرسى صيادي الفلايك، ومحافظة السويس، وأراضي الخور، وكازينو الطائر الأزرق، وعمارات: ظاظا، وكمبورس، وفندق سان ستيفانو، و مبنى المحافظة الجديد، ومديرية الأمن، ومجمع المحاكم، حى السحاب، مدينة الصباح ) فى “الرجل الذى أكله الملح” ، وأيضا، تلك المتعينة والمعروفة، مثل (زنزانة رطبة، مبنى مديرية الأمن، القسم القريب من الخليج، غرفة الحجز، شارع جرجا، منزلنا القديم، دورة المياه العفنة الموجودة داخل غرفة الحجز، مدخل غرفة الحجز، وغرفة صغيرة أخرى جانبية، مبنى الحزب الوطني، مديرية الأمن) كما في “صنابير النار”.. و(الأزمنة المحددة)، التي تعلن عن نفسها فى توقيتات صريحة، وتواريخ تحيلنا مباشرة إلى مرجعها الواقعى مثل: (“كان قرار العودة من المهجر” ص 49 ، “واضح أن فكرة كون حرب أكتوبر هى آخر الحروب قد استبدت برأس من يحكم “ص 49، ” كانت شعبيته معقولة حتى 1980″ ص49)، كما في “الرجل الذى أكله الملح”، ومثل: (“كانت الساعة قد بلغت السادسة من صباح يوم الإثنين 18 من مارس “ص 61، ” كانت بعض المفاوضات قد جرت ظهيرة يوم يوم الإثنين “ص 62 ، ” عندما قاربت الساعة الثانية عشرة ظهرا جاء أحد الصولات وجمعنى معه فى كلابش واحد “ص 63 ، ” كانت شمس عصر الثلاثاء 19 من مارس قد قاربت على الرحيل “ص 64)، كما في “صنابير النار”، ومثل : (“لازلت ومنذ قرابة أربعين عاما مضت يثير شغفر رؤية امرأة مدخنة “ص 70 )، كما فى “صديقتى تدخن ميريت “، ومثل: (“اعترفت لى أنها على مشارف عامها الثامن بعد الأربعين “ص 86 )، كما فى ” عيون أسماء “ومثل: (“تجتهد فى أن يكون لنا منزلنا الخاص خلال مدة لا تزيد عن ستة شهور”) ص 97، كما فى ” فرح أسماء “، ومثل: (“لم أتوقف منذ قرابة ثلاث سنوات منذ رأيتها لأول مرة “ص 99، ” صمدت أمام كل المغريات طوال أكثر من عقدين “ص 99، ” لأنني عبر أكثر من عامين لم أرها إلا مرتين فقط “ص 100، ” كنت أفتش عن سر اهتمامى بهذه المرأة الخمسينية “ص 100، ” ظللت بلا زواج طوال أكثر من عقدين “ص 102)، كما فى “وهم أسماء”. لكن، ولأن لكل قص ـ بالضرورة ـ مكانا وزمانا، باعتبارهما المُعبران عن ذلك الفضاء الذي تلتقى عنده الشخصيات والأحداث جميعا، ولأن الزمان والمكان المعنيان هنا ليس بالقطع ذلك المكان الفراغي ولا الزمان هو الميقات الطبيعي السرمدي، إذ الأهم هنا هو المكان والزمان الفنيان، السيكولوجيان اللذان يعبران عن رؤية الكاتب، وهو ما يمكن ملاحظته في قصص الرمز والغرائبيات عند الجمل، وقد حاولت جاهدا التقاط كل الإشارات الواردة بالمتون، والتي تكشف طبيعة ذلك الفراغ الزماني والمكاني المتعمد، الذي لا نستبين فيه مكانا متعينا، ولا زمانا محددا، فقط مكان ما وزمان ما، إن اصطناع الجمل مثل هذا العالم الذى يبدو منقطع الصلة بما حوله، مفارقا لمحيطه، إنما هو لضرورات فنية قصوى تسعى إلى نكأ مراكز الإثارة والترقب، وإشاعة وتأكيد الجو الغرائبي، وتهيئة القارىء الذي استمرأت قريحته المنمط والمعتاد، على تقيل فكرة التخييل المقصودة، بينما ـ وعلى الجانب الآخر ـ شغلت الأمكنة المتعينة، والأزمنة المحددة، كل فضاءات قصص السيرة الذاتية ـ القائمة بطبيعتها على الحقائقى والوقائعى والتسجيلي ـ وكل حكايات الواقع بالمجموعة. خاتمة تلك، كانت محاولة قراءة في مجموعة “الرجل الذى أكلة الملح” للكاتب الصحفى، القاص محمود الجمل، هى، مغامرة تجوال حر في مدائن خيالاته القريبة والبعيدة، وهي، تجربة ارتحال فى تجاويف حكاياته الغرائبية الموشاة بلغتة الشعرية البليغة اللافتة، هى، نبش في تفاصيل قصصه ـ الملغزة فى واقعيتها كما فى رمزيتها ـ فإن عُدت قرائتى مجرد مغامرة تجوال، أو تجربة ارتحال، أو نبش فى تفاصيل، فإن قصص الجمل لاشك مؤهلة لقراءات مغامرة أبعد مدى وأوسع، وجديرة بدراسات أدق وأعمق. وما هذه القراءة إلا محاولة أولى فى سبيل إلتماس عالم الجمل السحرى، بدأتها باطلالة ببليوجرافة سريعة تهدف إلى التعريف، والتعرف على طبيعة العناوين في قصصه، وأنماطها، واستعراض عدد من الملاحظات حولها، ثم محاولة الولوج فى ثنايا السرد الغرائبي عنده، ومستوياته الممثلة فى قصصه، والإقتراب الحثيث من بعض شخصياته اللافتة، ملامحها، وطبيعتها، وزمان ومكان حركتها، وتتبع ما تبدى من رغبة الكاتب الجامحة التى تطمح أن يكون شاهد عيان على بعض من وقائع عصره، كما أوردناها في حكايات الذات، ثم محاولة التعرف على بعض ملامح الفضاء السردي في مجموعته.

قراءة بقلم: الناقد ياسين شامل في قصة “رجلان” للكاتبة منتهى عمران/ العراق.

  إن القصة القصيرة تتأبى على وضع تعريف دقيق لها، وإن وجد فهو لا يفي حقها، وهي نص إبداعي يخاطب إحساس المتلقي، وقد تكون القصة من أكثر الفنون التي تتماشى مع روح العصر، لامتلاكها مواصفات تمكّن القارئ من قراءتها، من خلال نشرها في مجلة أو جريدة أو في كتاب، وكذلك في وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا لا يعني سهولة كتابتها، فهي عصية على من لا يدرك مكوناتها وخصائصها.
  وفي هذه القراءة، على رأي فؤاد قنديل: “ولا يغيب عن الأذهان أن الرأي القاطع في الإبداع لا وجود له.” ولعنا نقدم قراءة في هذه القصة، ويعد جهداً متواضعاً ورأياً شخصياً قد يتفق معه الآخرون أو يعارضونه.
  والقصة القصيرة الناجحة هي التي تمتلك الأسلوب الفني الذي يضم عناصرها لتأتي في شكل جمالي مبهر، وكل قاص له أسلوبه في بناء القصة، والبداية مهمة لجذب القارئ في متابعة القصة حتى نهايتها.
  تستخدم الكاتبة منتهى عمران في قصتها “رجلان” المنشورة في كتاب “هن صانعات الحياة” وحدة مكانية أصغر، مترابطة مع زمن الحدث، وهذه الوحدة المكانية ليست ثابتة بل متحركة، وهي القطار، والقطار يمكن أن يوفر واقعاً اجتماعياً مصغراً لوقت من حياة تختلف شخصياته، وقد استخدم القطار في الروايات وكذلك في القصة القصيرة من قبل كتاب القصة العالمين، وفي القصة المصرية لمحمود تيمور قصة “في القطار” ضمن مجموعته “ما تراه العيون”. وكذلك استخدمه الأستاذ محمود عبد الوهاب في قصته الشهيرة “القطار الصاعد إلى بغداد”، واستخدم الأستاذ محمد خضير القطارات في قصصه، لذا نجد فيها أجواء (محطات القطارات شبه الخالية، والقطارات الليلية).
  فإذا كانت اللغة بما تمتلك من قدرة في بناء القصة، وهي أداة الكتابة، وإن الحوار من الاساليب المهمة في استخدام اللغة، فقد طغت لغة الحوار على بقية مكونات القصة من خلال شخصيتين، لطرح فكرتين متناقضتين هما: “التأني والاستعجال”، والحوار عنصر مهم في بناء القصة، تم من خلاله الاقتصاد والتكثيف في لغة القص، لإيصال الفكرة التي بنت الكاتبة عليها رؤيتها، وقد كان واضحاً اسهامه في خلق الحدث.
  والحوار، هو نمط تواصل من خلاله تقوم شخصيتا القصة بطرح الآراء، والكشف عنها وندرك ما بينهما من تناقض. وهذا الحوار يدخل ضمن الدرجة الأولى كما صنفه “ميخائيل باختين” فهو يدور بين شخصيتين ويمتاز بالوضوح، وقد طغت علية الصفة المسرحية.
  وقد استخدم الحوار روائيين أفذاذ في روايات مشهورة، على سبيل المثال الكاتبة البريطانية “دوريس ليسينغ”، والكاتبة الفرنسية “مارغريت دورا”، والكاتب الياباني “هاروكي موراكامي” وغيرهم، وقد ابدع كل منهم في استخدام الحوار، وكان له تأثير فعال في إحساس المتلقي، وأعطى لرواياتهم جماليتها.
  وقد بدأت قصة “رجلان” بحدث ابتداء ووصف مختصر، وانتهت بحدث كسر أفق توقع المتلقي، بعد أن توقف القطار، وعدم عودة الرجل العجول إلى مكانه، وما بينهما كان الحوار فعالاً. وبهذا الحوار القصير والمختصر، تمكنت الكاتبة من ضبط اشتراطات القص، وقدمت لنا قصة قصيرة جميلة بلغتها المقتصدة وعباراتها التي لها دلالاتها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النص:
رجلان:
  رمى جسده على الكرسي الذي يحمل رقم بطاقته بجانب رجل نحيل وطويل له شعر أسود لامع جمعه كذيل الحصان إلى الخلف متأهبا في جلسته كأنه يستعد للنزول رغم أن الرحلة في أولها. كان نَفَسَه المتسارع يقطّع جملته الأولى:
_كان عليّ عدم الاستعجال وانتظار قطار الرحلة القادمة كدت اسقط وأنا أحاول الصعود.
رد عليه الرجل النحيل
_كونك عجولا هذا ليس عيبا فربما لا سلامة في التأني فركوبك في القطار السريع هو نجاة من قدر ما يتربصك.
_ ممم.. وكم مرة نجوت؟
_ لا أتذكر عددا محددا ولكنها مرات كثيرة.
المرة الوحيدة التي لم استعجل فيها خسرت ساقي.
نظر الرجل اللاهث إلى ساقيه مستغربا
_ إنها ساق صناعية
_ أنا آسف
_ لاعليك إنها تؤدي الغرض، لا تعرقل استعجالي على الأقل.
_ هل وجهتك إلى العاصمة؟
_ نعم
_ وأنا كذلك.. ولكن لم تقل
قاطعه الرجل العجول
_ تريد أن تعرف كيف وأين حدث بتر ساقي؟ إذن أنت عجول أيضا ولكن بفضولك، وهذه هي العجلة الوحيدة التي يكاد يتفق عليها بنو البشر.
_ عذرا لا أقصد احراجك.
_ لا .. لا احراج في ذلك أنا نبهتك لها وإلا لم تكن لتعرف ذلك أبدا.
صمت الرجل العجول وهو يتأمل سحر الطبيعة التي اطلت عليهما من النافذة.
فخرج الرجل اللاهث عن صمته قائلا:
_ .. ولكن لم تجبني عن سبب بتر ساقك.
انتبه الرجل العجول كأنه كان في غفوة
_ هاا.. أشعر أني بحاجة للذهاب إلى الحمام عند عودتي سأجيب عن سؤالك.
توقف القطار في محطته الأولى ونزل بعض الركاب وصعد آخرون وتحرك مرة أخرى ولم يعد الرجل العجول إلى مكانه.

التناص في قصيدة “سفر آدم” للشاعر إياد الصالح. قراءة: بشير حمد/ سوريا. 

نصّ القصيدة: سِفر آدم
– الوَحدة-
لماذا التراب
يحنُّ الى لمستي الوادعة؟!
سألتُ بكلّ اللّغاتِ سألتُ ..
ولكنّهُ ما أجاب !
وحيدٌ أنا يا إلهي.. وحيد
وفي صفحةِ الماء صادفتُ وجهاً لهُ ذاتُ حزني
فأينَ تعلّمتُ يا ربّ حزني؟!
وها أنا أصرخُ في جنّةِ الخلدِ مثلَ المجانينِ
يطفو سحابٌ من الطيرِ فوقي
تفرُّ الغزالةُ عن موردِ الماءِ
يأتي الصّدى..
وحيدٌ أنا يا الهي وحيد
أتخلقُ ضوءاً ولا عينَ تُبصر؟
أيُسمعُ صوتٌ بلا أذنَ؟
لا شيء يشعرُ أنّيَ أشعرُ
يا ربّ إني وحيدٌ وحيد
لأنيَ أحتاجُ حضناً وبيتْ
ورأساً لصدري إذا ما بكيت
تسير الجداولُ للنهرِ
والنهرُ للبحرِ
لكنَّ قلبي حمامٌ يطيرُ فلا عشَّ يؤيه
يا ربّ
هذا الفضاءُ كبيرٌ
وقلبي صغير!
– الحلم-
في الحلمِ آنستُ نارا
وروحاً إلهيّة اللّمسِ تشطر قلبي لنصفينِ
حين أفقتُ
دعوتُ احتراقي حنين
ودفئي امرأة !
– الفراغ-
يا ربّ
من دسّ سمّاً بهذا العسل ؟
ليُدعى الملل؟!
أُحاولُ حلماً
فتقتلُ حلمي بتحقيقهِ
حوّاءُ قالت قواميسها
وطعم النبيذِ المكررُّ لا يأخذ القلب للغيمِ
لا شيء عندي يثير العصب
يا ربّ
كيف سيرتاح قلبي
إذا كنتُ لا أستطيع التعب
حفظتُ السعادةَ عن ظهرِ قلبٍ
ولا شيء عندي يثير العصب
تذكّرت وجهاً على صفحة الماءِ
قلتُ لأسألهُ
ذاك الحكيمُ تكوّن من لهبِ الأسئلة.
-الأفعى-
أجب شهوةَ الذئبِ فيكَ
ولا تبنِ سوراً
فإنّ الجدار الذي يحرسُ القلبَ
ذاتُ الجدار الذي يحبسُ القلبَ
إن كان في كل شيءٍ بياضٌ، فماذا ترى؟!!
– الصعود الى الأرض-
أنا لستُ ربّاً لأبقى على العرشِ
لستُ ملاكاً لأَقنعَ بالمسبحة
وهذا الذي صار يُدعى الخطيئةَ
جزءٌ من القلبِ
والقلبُ من طينةِ الأرضِ
والأرضُ منكَ
نعم… لوّثتني الخطيئةُ
لكنّني اليومَ ذاتٌ جديدة
بدا لي عُريي
وسوءةَ هذا الجلوسِ المخدَّرِ في جنّةِ الوقتِ
قلتُ: سأردف زوجي على صهوة الخيلِ
أمضي الى حيث شئتُ
هناك سننجب طفلاً نخاف عليهِ
سنذكر في عتمة الليل والبرد دفء الصباحِ
وأتركها كي أحنَّ اليها
سأجرح نفسي لكي أقرأ الجرحَ
أصنعُ فأساً لرأسِ عدويَّ أو مغفرة!
-جنّة الأرض-
شفاهكِ أم كأسَ خمرٍ لثمتُ؟
عيونكِ أم هدأة اللبوةِ المتعبة؟
لماذا يذوبُ النهارُ بلحمك
لماذا أحاولُ أن أقطف الآن من دوحةِ الحبِ نهدين؟
هذا الدُّوارُ أُسمّيهِ عشقاً
فماذا أسمي العويل الذي يعتريني؟
وتهمي السماء….
الأرضُ نشوى من الحبّ
والأرض حبلى
وما زلتِ حبلى
وتسعةَ أقمارَ مرّت
تفجّر ثدي الجبال ينابيع تشرب منها الحياةُ
شهدتُ التقاء الشفاهِ الصغيرة بالثديِ
أولَ صوتٍ يزلزلُ مملكة الموتِ
أشهد أنكِ أنتِ الحياة!
(القراءة):
  (كلُّ نص هو عبارة لوحة فسيفسائية من الاقتباسات، وكل نص هوتشرُّب وتحويل لنصوص أخرى) جوليا كرستيفا.
مقدمة:
  التناص هو أحد أهم مصطلحات النقد الحديث وإن كان يضرب جذوره عميقاً في التاريخ الأدبي و النقدي فالاقتباس و التضمين و السرقات الأدبية و المعارضات الشعرية والتخميس…كل هذه الموضوعات تعد إرهاصاتٍ أدت إلى ولادة هذا المصطلح الفني.
و إذا بحثنا في مصادر الإبداع نجدها ثلاثة (التجربة، التناص، الخلق) فالتناص هو أحد منابع الإبداع الأدبي و النص في أحد تعاريفه هو إعادة إنتاج لنص أو نصوص سابقة اطلع عليها المبدع فلا إبداع بدون ثقافة وبعد أن يمتص المبدع الكثير من النصوص وتصبح جزءاً من نسيجه الثقافي والفكري يعود لاستخدامها في إنتاج نص أو نصوص جديدة لهذا السبب فإن دراسة التناص تحتاج إلى ثقافةٍ جيدة ولأن المقام لا يتسع لدراسة كل جوانب التناص فإنني سأطرح موضوع التناص من خلال نموذج قصيدة سفر آدم للشاعر السوري المغترب إياد الصالح.
العنوان:
  كثيراً ما يكون العنوان عتبةً يمكن الولوج من خلالها إلى عالم النص، والقصيدة التي بين ايدينا تحمل عنواناً مكوَّنا من كلمتين مركبتين تركيبا إضافياً وهما كلمة (سِفْر) وكلمة (آدم) وهما تحملان دلالة دينية فالشاعر يضعنا منذ البداية في سياق التجربة التي عاشها الإنسان الأول (آدم) منذ وطئت قدماه الأرض بكل مات تحمل هذه السيرة من غموض وامتداد في مجاهل التاريخ.
قراءة استكشافية:
من خلال القراءة الأولى للقصيدة نجد انّ الشاعر إياد الصالح قد بنى قصيدته على ستة مقاطع بعناوين دالّة على جوهر رؤيته لموضوع القصيدة، وهذه المقاطع جاءت بالترتيب 1_الوحدة 2_الحلم 3_الفراغ 4_الأفعى 5_الصعود إلى الأرض 6_جنّة الأرض، ولهذا التقسيم دلالة دينية ففي سفر التكوين 2:2 جاء مايلي (وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل…) فالرب خلق الكون في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع وفي القرآن الكريم في سورة الأعراف الآية 54 يقول تعالى (إنّ.َ ربَّكُم الذي خلق السموات الأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش..)
 المقطع الأول عنوانه الوحدة: إنَّ آدم يشعر بأن امرا ما يربطه بالتراب وعبر عن ذلك بسؤال يبحث عن إجابة
 يقول: لماذا التراب يحنّ إلى لمستي الوادعة.
 وهذه إشارة إلى أصل آدم كمخلوق من تراب ففي التوراة (وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض ونفخ في نفسه نسمة الحياة) وفي القرآن الكريم في سورة السجدة 8و9 (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) ولكن من هو آدم هل مجرد شخص حمل هذه التسمية؟ يقول الشاعر على لسان آدم: سألت بكل اللغات شألت ولكنه ما أجاب. فآدم هو الإنسان هو الإنسان الذي علمه الله الأسماء كلها (وعلم آدم الأسماء كلها…..) وفي تفسير آخر يجيزة السياق فإن آدم هو مطلق الإنسان بغض النظر عن جنسيته ولغته . وبعد ذلك يقول الشاعر عنه بأنه وحيد (وحيد أنا يا إلهي وحيد) وحزيين أيضا ويقول الشاعر بعد ذلك (أتخلق ضوءا ولاشيء يبصر؟ أيسع صوت بل أذن) وسرعان ما نكتشف حزن أدم (لأني أحتاج حضنا وبيت ورأسا لصدري إذا مابكيت) وهذا ينقلنا للمقطع الثاني لأن الشاعر إياد الصالح يمهد لظهور حواء في حياة آدمكما تروي قصة الخلق. المقطع الثاني بعنوان الحلم: كان الحلم وما يزال أحد التقنيات التي عرفتها الأساطير والنصوص الدينية فالحلم يشكل إرهاصا لما سيأتي بعد إنه يشبه النبوءة إنه رحم الأحداث فأحلام جلجامش وحلم العزيز وحلم أدم غير بعيد عما أقول ففي التوراة (فأوقع آرب ألإله آدم سباتا على آدم فنام) وفي نومه خلق الله حواء التي ستكون جزا منه ففي الذكر الحكيم سورة النساء يقول تعالى (أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وقد كانت رؤيا آدم او حلمه كما يلي :
 في الحلم آنست نارا.
 وقد فسرت الرؤيا بظهور حواء التي ستعيش معه فاحتراقه حنين إليها ومصدر شعوره بدفء الحياة.
المقطع الثالث بعنوان الفراغ: إنّ الشاعر إياد الصالح يفسر خروج آدم من الجنة بسبب شعوره بالملل وذلك لأن احلامه تتحقق بتحقيقها وفي هذا قتل للحلم نفسه.
يقول: أحاول حلما
فتقتل حلمي بتحقيقه
ويقول :تذكرت على صفحة الماء
قلت لأسأله.
 وهو نفس الوجه الذي صادفه في المقطع الاول وآدم سيبدا بطرح أسئلة الوجود على نفسه التي اكتشفها وبغير ذلك لن يصبح حكيما.
إنّ شعور آدم بالملل في الجنة والرتابة والسأم له اصداء في الفلسفة الوجودية وردم يريد ان يجرب وهو يحنّ إلى ثنائيات الوجود،
الراحة واتعب
الفرح والحزن
الوجود والعدم
 المقطع الرابع بعنوان الأفعى: إنّ الإنسان عندما لا يكون أمامه إلا البياض لا يرى شيئا يقول:
إنْ كان في كلّ شيء بياض فماذا ترى
إنَّ آدم الذي جرب الملل والسأم بدا في هذا المقطع يبحث عن المعنى والمعنى موجود في الأشاء نفسها وكل شيء يحمل في جوفه نقيضه فالوجود يستدعي نقيضه َالعدم وقد عبر الشاعر عن هذه الفكرة كما يلي:
فإن الجدار الذي يحرس القلب
ذات الجدار الذي يحبس القلب.
والأفعى هي التي سرقت سر الحياة من جلجامش وهي رمز الشيطان في قصة خلق آدم وحواء وخروجهما من الجنة.
المقطع الخامس: الصعود إلي الارض: إنّ عنوان المقطع يوافق الرؤية القرآنية في أعمق تجليتها فلم يكن خروج آدم من الجنة إلا تكريما له لأنه سيحمل الأمانة التي عرضها الله على السماوات والأرض قال تعالى
(إنّا عرضنا الأمانةعلى السماوات والأرض فأبين أنْ يحملنها وحملها الإنسان…)
فالذي كان يُدعى خطيئة صار جزءاً من القلب إنها جزء من وجوده وعليه أن يقبل بثنائيته:
نعم لوثتني الخطيئة
لكنني اليوم ذاتاً جديدة
والذات الجديدة ستكون العيش مع حواء وعمارة الأرض بإنجاب الاولاد يقول إياد الصالح:
قلت سأردف زوجي على صهوة الخيل
أمضي إلي حيث شئت
هناك سننجب طفلاً نخاف عيه
وعلى هذه الأرض :
سأجرح نفسي لكى اقرا الجرح
أصنع فأسا لراس عدوّي او مغفرة
إنها دعوة للإنسان الذي عليه أنْ يشعر بالإخرين فإنْ تكونوا تألمون فإنهم يألمون.
المقطع السادس بعنوان جنة الأرض وهو عبارة غن لوحة تمور بالمعاني فالارض والمرأة شيء واحد هما مصدر العطاء الذي يؤمن للإنسان عناصر وجوده واستمراريته..
يقول الشاعر إياد الصالح:
تهمي السماء (تمطر)
الأرض نشوى (فرحة باستقبال الماء مصدر الحياة
وفي التنزيل (وجعلنا من الماء كلَّ شيء حي)
ستحبل الارض وكل تسعة أقمار (شهور قمرية)
سيولد طفل وفي مشهد كوني رائع يقول الشاعر:
وتسعة أقمار مرَّت
تفجّر ثدي الجبال ينابيع
ولمَ كلُ ذلك يقول الشاعر :
شهدت التقاء الشفاه الصغيرة بالثدي.
أول صوت يزلزل مملكة الموت
إنّ الموت هادم اللذات لا ينتصر عليه إلا مجيء طفل إلى الحياة
خاتمة:
 لقد لجأ الشاعر إلى قصة خلق آدم وحواء وبني قصيدته من خلال حوار عميق معها فرأينا تأثره بهذه القصة كما وردت في الاديان والأساطير وظهر أيضاَ تاثرة بفلسفات عصره زن جاز التعبير.
وإن كان لابدّ من كلمة أخيرة فمن المنصف أن أقول انّ الشاعر إياد الصالح قد مجّد الإنسان وليس آدم أبو البشرية الذي كان مدخلاً للحديث عن الإنسان وكفاحه مع المرأة وقبوله بتحمٍل مسؤوليته على هذه الأرض بكل شرف وأمانة.
 

  الناقدة سهيلة بن حسين في قراءة: “عنوان بعمق ارتداد الصدى وفصول رواية اختزلتها حكاية في القصّة القصيرة جدًا (عوز)”. للقاص محمد المسلاتي.

عَوَز.
قصّة قصيرة جدًا .. بقلم: محمد المسلاتي- ليبيا.
  في طفولتي؛ كلما تسربت قطرات من دموعي إلى شفتي لذعني مذاقها المالح..
وحين تعرفتُ إلى البحر لأول مرة، أذهب إليه خلسةً.. تعاقبني أميّ بالضرب بعد تذوقها مسام جلدي، وهي تقول لي:
  – ها أنت كالعادة؛ لم تقف في مكانك بالسوق لتحصل لنا على مايجود به العابرون.
تشير إلى أبي العاجز القابع في زاوية الحجرة.. حوله انكفأت زجاجات دواء فارغة.. مع صراخ أشقائي الأربعة، وذباب لا يكف عن الطنين.
  يختفي صوتها عبر نشيج حزنها.. تفرّ من عينيها الذابلتين حبات نديّة صغيرة كالبللور.. تبللني.. عندها تراءى لي عيون أُناس لا أعرفهم يبكون وجعًا في أعماق أمواج يَمٍّ تهدر مياهه بكل هذا الملح.

استمر في القراءة   الناقدة سهيلة بن حسين في قراءة: “عنوان بعمق ارتداد الصدى وفصول رواية اختزلتها حكاية في القصّة القصيرة جدًا (عوز)”. للقاص محمد المسلاتي.

الناقدة منيرة الحاج يوسف: “تقنية الاسترجاع ورصد التفاصيل المتصلة بأثر الحدث” قراءة في القصة القصيرة جدًا (عوز) للقاص محمد المسلاتي.

   تقوم هذه القصة على تقنية الاسترجاع إلا أن السارد برع براعة لافتة في رصد التفاصيل المتصلة بأثر الحدث في مختلف الحواس مما يجعل القارئ مندهشا بين ما ينتظره وما تفشيه السطور فانفتاح القصة بالقرينة الزمانية في طفولتي يهيء للمتعة والعذوبة فهذه المرحلة العمرية هي مرحلة اللهو واللا مسؤولية والراحة بكل مقاييسها لكن بعد تحديد الزمن يصدمنا كم العذاب الذي ترشفه هذا الطفل حتى صار طعم الدمع ملتصقا بحاسة الذوق التي تحولت إلى وسيلة فنية ينمو الحدث بواسطتها ويطرد فطعم الملح أمارة على تغيب الطفل عن مسؤولياته (الوقوف في السوق والتسول).
  يتنامى العذاب مع بقية الحواس فالأصوات التي تلتقطها إذن الطفل( الصراخ، الطنين، نشيج الأم) أقسى من أن يتحملها طفل يفترض أن ينعم بالهدوء والهدهدة ثم إن حاسة البصر هي الأخرى ضحية المرئيات التي كانت تشاهدها عينه (الأب العاجز القابع…، زجاجات الدواء الفارغة، الأشقاء الأربعة وهم يصرخون، الذباب… الأم الصارخة الغاضبة المنتحبة، وأعين الناس الباكية).
  تكثيف عالي المستوى يشحن القصة بقدر كبير من الوجع فتتحول إلى لوحة ناطقة تشي بمأساة طفل كل ما يحيط به يسرق طفولته ويحوله شيخا أنهكته الحياة بتفشي الفقر والمرض والجهل وهو وضع الطفولة المحرومة في كل البلاد العربية والتي سبق وأن تناولها الأدباء والشعراء مثل حنا مينة في ثلاثيته (بقايا صور، المستنقع، والقطاف) وشكري المبخوت في روايته (الخبز الحافي) ونازك الملائكة في قصيدتها ( النائمة في الشارع) وغيرهم.
  إن الخاتمة التي اختارها القاص لا تختلف عن الفاتحة فالملح الأجاج هو الذي يمتد على هذه القصة فهو عود على بدء مما يضاعف الطعم اللاذع لهذه الطفولة التي تغيب فيها الحقوق الإنسانية في أبسط متطلباتها
 
(النص)
عَوَز.
قصّة قصيرة جدًا .. بقلم: محمد المسلاتي- ليبيا.
  في طفولتي؛ كلما تسربت قطرات من دموعي إلى شفتي لذعني مذاقها المالح..
وحين تعرفتُ إلى البحر لأول مرة، أذهب إليه خلسةً.. تعاقبني أميّ بالضرب بعد تذوقها مسام جلدي، وهي تقول لي:
– ها أنت كالعادة؛ لم تقف في مكانك بالسوق لتحصل لنا على مايجود به العابرون.
تشير إلى أبي العاجز القابع في زاوية الحجرة.. حوله انكفأت زجاجات دواء فارغة.. مع صراخ أشقائي الأربعة، وذباب لا يكف عن الطنين.
يختفي صوتها عبر نشيج حزنها.. تفرّ من عينيها الذابلتين حبات نديّة صغيرة كالبللور.. تبللني.. عندها تراءى لي عيون أُناس لا أعرفهم يبكون وجعًا في أعماق أمواج يَمٍّ تهدر مياهه بكل هذا الملح.

  الناقد حيدر الأديب: “البناء والترميز ومستويات اللغة في قصة عوز”.. قراءة في القصة القصيرة جدًا (عوز) للقاص محمد المسلاتي.

عَوَز
قصّة قصيرة جدًا.. بقلم: محمد المسلاتي- ليبيا.
  في طفولتي؛ كلما تسربت قطرات من دموعي إلى شفتي لذعني مذاقها المالح..
وحين تعرفتُ إلى البحر لأول مرة، أذهب إليه خلسةً.. تعاقبني أميّ بالضرب بعد تذوقها مسام جلدي، وهي تقول لي:
 – ها أنت كالعادة؛ لم تقف في مكانك بالسوق لتحصل لنا على ما يجود به العابرون.
تشير إلى أبي العاجز القابع في زاوية الحجرة.. حوله انكفأت زجاجات دواء فارغة.. مع صراخ أشقائي الأربعة، وذباب لا يكف عن الطنين.
  يختفي صوتها عبر نشيج حزنها.. تفرّ من عينيها الذابلتين حبات نديّة صغيرة كالبللور.. تبللني.. عندها تراءى لي عيون أُناس لا أعرفهم يبكون وجعًا في أعماق أمواج يَمٍّ تهدر مياهه بكل هذا الملح.
  (القراءة)
  البناء والترميز ومستويات اللغة في قصة عوز.
  يقول موكاروفسكي معرفا التفعيل على أنه (تصحيف قصدي جماليا للمكونات الأدبية) وهذا التفعيل استوفى شرطه في النص وشرطه هو التحفيز على التفسير والتفعيل المنظم للنص هنا هو (الملح) الذي توزع على ثلاث مستويات للغة رغم القصر في القصة القصيرة جدا الذي هو عنصر بنائي لكن الذي عدد مستويات اللغة هو هذا التفعيل المنظم والمتمظهر بــ (بالملح) ومستويات اللغة هنا هي اللغة البصرية التي مسرحت الأحداث “ها أنت كالعادة؛ لم تقف في مكانك بالسوق لتحصل لنا على ما يجود به العابرون.
  تشير إلى أبي العاجز القابع في زاوية الحجرة.. حوله انكفأت زجاجات دواء فارغة.. مع صراخ أشقائي الأربعة، وذباب لا يكف عن الطنين”.
ومستوى اللغة الشعرية “يختفي صوتها عبر نشيج حزنها.. تفرّ من عينيها الذابلتين حبات نديّة صغيرة كالبللور.. تبللني.. عندها تراءى لي عيون أُناس لا أعرفهم يبكون وجعًا في أعماق أمواج يَمٍّ تهدر مياهه بكل هذا الملح”. والمستوى الثالث هو اللغة القابلة للتنبوء والملقمة بمواعيد مستقبلية للأحداث كما في المطلع “في طفولتي؛ كلما تسربت قطرات من دموعي إلى شفتي لذعني مذاقها المالح..
وحين تعرفتُ إلى البحر لأول مرة، أذهب إليه خلسةً.. تعاقبني أميّ بالضرب بعد تذوقها مسام جلدي”
  إن (الملح) هنا هو بطل القصة وما تبقى هو شخصيات وصيغ وحالات ينفذ الملح فيها قوته الإنجازية رجوعا حتى إلى إزاحة العنوان (الملح = العوز) وبهذا فإنه منطبق على ما يطلق عليه منظرو براغ بالمهيمن والذي هو (المكون الذي يحرك ويوجه علاقات جميع المكونات الأخرى) ونلاحظ أن الترميز هنا يعمل طبقا لما صنفته الباحثة رقية حسن فبعد أن قام الكاتب باستعمال شفرات لغوية لترميز المواقف عمد إلى استعمال هذه المواقف لترميز مجموعات ثيمية تظهرها مجموعات المواقف في مستوى التدليل الالتزامي المسحوب على مشاهد العوز في بقاع الأرض.
وهنا تقبع لعبة المضمر والمعلن.
  ومن أسرار قوة هذا النص تنقله الاستعاري على محاور ثلاث (الدمع/ البحر/ الملح). فالاستعارة هي (أداة تنطوي على التفكير بحقل خبروي بواسطة حقل خبروي آخر) ومن هنا تعمل القصة على حقلين إدراكيين هما الحقل الهدف (المبئر) المتروك للمتلقي (تضمينا ولإيحاء وإشارة) والحقل المصدر.
  إن الملح هنا يمثل الخط البياني لسيرورة التدليل وإعادة بناء الحقيقة ضمن الوجهات الشعورية.

سكرة الطين من التيه إلى اليقين.. قراءة نقدية لنَطَفة شعرية للشاعرة آمال القاسم من إعداد: سعيد محتال.

   وأنت تتصفح أشعار ونصوص الشاعرة آمال القاسم احذر أن تتيه بك الكلمات وتصاب بسكرة الحروف فلا تقدر على فهم خفايا السطور.
 تمهل وأعد النظر حتى تتمكن من الإحاطة بما تحمله من معان وكأنك تهتدي بضوء القمر بين شعاب الحروف.
 تلك هي شاعرتنا التي تنسج خيوط نصوصها بخيوط عنكبوتية، فلاتظنن نفسك آمنا بالداخل إلا إذا خرجت بسلام، حينها تكون قد فزت بمتعة القراءة ولذة إدراك معاني الكلام .

استمر في القراءة سكرة الطين من التيه إلى اليقين.. قراءة نقدية لنَطَفة شعرية للشاعرة آمال القاسم من إعداد: سعيد محتال.