انطباعات نقدية حول (صراع الإنسان مع الزمن) من خلال قصة (القاطع) للأستاذة مهدية أماني بقلم الاستاذ/ صالح هشام


انطباعات نقدية حول (صراع الإنسان مع الزمن) من خلال قصة (القاطع) للأستاذة مهدية أماني
بقلم الاستاذ/ صالح هشام
سأنحرف عن صميم النص بالنسبة لفكرة (صراع الانسان مع الزمن) أملا في توسيع هامش الاستفادة أكثر ما دامت الأستاذة مهدية هيأت لنا طبقا شهيا كما عودتنا في نصوصها لكن طبق هذه المرة ذو نكهة خاصة لانها كانت اكثر جرأة في طرح فكرة قضت مضاجع كبار الفلاسفة والمفكرين على مر الازمنة والعصور، وهيأت لنا (الفرشة) المناسبة للحديث عن هذه الفكرة بعض الشيء ولو خارج النص المعتمد.
منذ القديم والإنسان يعيش هذا القلق الأبدي الذي تظهر تجلياته في ذلك الصراع الأبدي مع الزمن ، حيث استعمل جميع الطرق ونهج مختلف سبل الحيل والوسائل للسيطرة عليه وإن كانت دوما المعركة غير متكافئة . وقد عبر عن ذلك الصراع في مختلف أنماط تفكيره ومعتقداته على مر الأزمنة والعصور وفي مختلف الأمكنة . ورغم أني هنا بصدد الحديث عن فكرة الصراع التي كانت تيمة جد مهمة وفكرة محورية في نص الأستاذة مهدية أماني، (القاطع) هذا النص الذي تقرأه للوهلة الأولى فيتبادر لك انك تقرأ نصا عاديا ولكن سرعان ما تستحوذ عليك الأفكار القيمة التي يطرحها النص حول هذه الفكرة (الصراع) التي تناولتها بأسلويها العذب الجميل ، انطلاقا من الحياة اليومية التي يعيشها الإنسان، وإن كانت أكثر وضوحا، فهي لم تعالج هذه الفكرة من خلال الرؤية الفلسفية للظاهرة. وإنما انطلاقا من الحياة العادية والتي تتسم في صراعها بالرتابة والروتين وقد كان الإيقاع السردي سريعا جدا، موظفة في ذلك لغة تتميز بالجملة القصيرة التي تتلاءم وسرعة الإيقاع.
تناولت الأستاذة فكرة صراع الإنسان مع الزمن، من أقرب نقطة ألا وهي البيت والحياة العادية اليومية التي تعيشها سيدة الزمن بامتياز وهي المرأة لأنها الأكثر احتكاكا بهذا العدو الذي لا يرحم فإما أن نسيطر عليه أو يتسلل من بين أيدينا كالماء يتسلل من بين الشقوق في أرض عطشى، و لم تعالج الظاهرة من حيث التفكير الأسطوري والخرافي كالبحث عن الخلود مثلا كما سنرى في الأساطير والخرافات والمعتقدات القديمة، وإنما تناولتها في حياة المرأة المناضلة والمكافحة في أي مكان وفي أي زمان، صراع (المرأة مع الزمن)، هذا الزمن الذي نعيش تحت ضغوطاته ومشاكله والتي تمتصها هي جازاها الله خيرا بالنيابة عنا، في أي ركن من أركان المنزل، والمطبخ والسطح، والمدرسة، فهي تصارع الزمن نيابة عن الإبن والزوج والمجتمع المحيط بها وتصارعه بكل اقتدار وكفاءة.
لقد ألفنا أسلوب الأستاذة مهدية ، ذلك الأسلوب الهاديء الذي ينساب سهلا ممتنعا متمنعا قصيا عصيا عن اللغة المباشرة التي ترمي النص برمته في الابتدال الذي يجعل القاريء ينفر من متابعة القراءة ،فهي لاتفرض إنتاجاتها الأدبية على القاريء يقول (كارسيا ماركيز):”لايصح أن نجبر القاريء على قراءة عبارة مرتين”. وأقول لا نجبره على قراءة اي عبارة ولا يكون الإجبار إلا بسحر الكلمة وجمالها . واظن ان كاتبتنا من الذين يجبرون القاريء بسحر الكلمة فهي كالراعي تعرف العزف على الشبابة لحنا شجيا جميلا يجعل ، متلقيها يقبل على الإصغاء والانتباه وبالتالي المبالغة في القراءة عندذاك تجلبه للتذوق وتستدعيه للمشاركة في إعادة تشكيل النص أو إعادة صناعته فتحوله من قاريء عاد إلى متفاعل وصانع لبناء النص، فإنك وأنت تكتب كما قال كبريال كارسيا ماركيز ‏‎frown‎‏ رمز تعبيري تستطيع ان تقبض على الأرنب لكنك لا تستطيع أن تقبض على القاريء) طبعا لا يقبض على القاريء إلا متمرس يعرف العدو وراءه كالأم خبيرة بميولات طفلها. و قادر على أن يلاعبه لعبة (الغميضة) حتى يتمكن منه، وربما يتفق معي جميع الإخوان القراء والنقاد على أن أسلوب الأستاذة في الكتابة القصصية قادر على أداء هذه المهمة الصعبة، فهو أسلوب يمكن تمييزه من بين مئات الأساليب، لأسباب عدة نذكر منها، سلاسة اللغة ،وجماليات التراكيب السهلة التي لاتحتاج إلى التحليق في عالم الإبهام والغموض، وإنما تعبر عما تريد قوله بصدق عاطفة المرأة الأديبة، التي تقدر احترامها للقاريء
بالنسبة لهذه الفكرة التي أرقت الانسان على مر العصور، وظلت ترافقه منذ الأزل لاحظت ان الاستاذة مهدية والاستاذ ياسين خضر القيسي قد تناولاها في نصيهما (القاطع) و (الحوذي) بحرفية رائعة.
لقد تم التعبير عن هذه الفكرة في مختلف أنماط التفكير والاعتقادات البشرية ،ففي عالم الأساطير تطالعنا ملحمة البطل الأسطوري، (جلجامش) سليل الوركاء وهو يخرج في رحلة بحث عن عشبة الخلود ،بعدما رأى بأم عينيه موت صديقه الحميم (أنكيدو)، إذ سيخوض الكثير من الأهوال ويغوض في أعماق البحار من أجل هذه العشبة التي ستختطفها منه حية، فيعود إلى الوركاء خالي الوفاض يجر أديال الهزيمة، وسيقتنع في آخر المطاف أن ثلثه البشري سيكون سببا في عدم قدرته على الخلود وبالتالي يستنتج أن الخلود خاصية إلهية وليست إنسانية فيكون قد هزمه الزمن.
ولا نقتصر على فكرة الصراع هذه في أدب الملاحم وإنما عبر عنها أدباء أمثال توفيق الحكيم في كتابه (عودة الروح) وكذلك (أهل الكهف)، التي تأثر فيها بقصة أهل الكهف في القرأن الكريم.
وهناك من اعتبر أن الزمن هو الذي يقضي على الإنسان خصوصا مايسمى بالدهريين (الملحدين) فقد روت أساطير الحميريين وأفاضت كثيرا في بحت ملوكهم عن (ماء الحياة) الذي يهبهم الخلود ويقهر الدهر، ويروى أن الخضر رافق ذي القرنين في رحلة عبور قطعا فيها جل بقاع الأرض، وعندما حلت المنية لتختطف ذي القرنين أنشد الخضر قائلا:
لما رأيت من المنون وعيدا~~~~قوضت رحلك سحره تجديدا
هتكت خطوب الدهر عزك هتكة ~~أمسى حسامك دونهامغمودا
فقد كان هذا الصراع الأبدي بين ملوك الحميريين والدهر ،تتمخض عنه أسئلة تحيرهم ، وهو لما يدوم الدهر ، من خلال تعاقب الليل والنهاردون الإنسان الذي يؤول مصيره إلى الهلاك والفناء وموته أمر حتمي. ويروى أن سام كان يخاف أن يهزمه الزمن ويصير إلى حتمية الموت، فكان يعبر عن ذلك بقوله (الحياة كبيت له بابان، دخلت من هذا وخرجت من ذاك) .
فالدهر كان ولازال هو العدو اللذوذ للإنسان حيث تناثرت الكثير من الخرافات عن لقمان ونسوره السبعة وتشبته بالحياة والخلود وقد أنشد فيه شاعريقال إن اسمه (يتم اللات):
رأيت الفتى ينسى من الدهر حقه ~~حذار لربيب الدهر آكله
ولو عاش ماعاشت للقمان أنسر~~لصرف الليالي بعد ذلك ياكل يقول الطبري في كتابه تاريخ الطبري ،<المعمرون والوصايا >:
{إن أول ما خلق الله القلم فقال:أكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن ، ويقال إن القلم سأل الرب قل : يا رب وما اكتب ؟ قال : أكتب القدر فجرى القلم في تلك الساعة بما كان وبما هو كائن إلى الأبد }.
يظهر إذن أن الصراع مع الزمن ، ظاهرة استحوذت على الإنسان منذ قديم الزمان ، وإن اختلفت الأزمنة والأمكنة ، واختلفت التسميات ، والظروف والملابسات ، فالإنسان دائما في احتياط وصراع أبدي مع الزمن الذي يقطع منه الأنفاس ، وهذا الصراع يتوارث ابنا عن أب عن جد ، ويتواثر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها (،فالوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك) و (الوقت من ذهب) وهلما جرا …
وقد عبر الكتاب والمفكرون عبر مختلف العصور والأزمنة عن هذه الظاهرة، فهذا ( جيل فيرن )، يتوقع أن الإنسان سيتغلب على الزمن ويدور العالم في (ثمانين يوما) في وقت لم تكن تعرف فيه الإنسانية هذا التقدم العلمي الذي نسبيا جعلها تحقق الكثير من الإنجازات، في هذا المجال، ومهدية ليست إلا جزء لا يتجزأ من كل هؤلاء المفكرين والكتاب والشعراء الذين عبروا عن هذا الصراع الذي لن ينتهي ما دام هناك إنسان وما دامت هناك حياة ومادام هناك عدو اسمه الزمن. مزيدا من التألق أساذة مهدية.
  صالح هشام
الرباط~~~ الأحد 28/يونيو 2015

النص المعتمد : بقلم القاصة مهدية أماني .
القاطــــــــــــع..
لا أرى الوقت يمر ، لكن هو يراني، تترصدني ساعاته ودقائقه وثوانيه وكسور وحداته، يتقرب مني ببعده الفيزيائي، يرتب أحداث يومي كما يريد ، يتدخل في زمني النفسي ، يتذمر من تلكّئي وصعوبة استيقاظي فهو يكره الانتظار ويحب توالي الأحداث بدون تقهقر إلى الوراء ، يعتبر نفسه سيلا يجري في اتجاه محدد من قديم الأزمان ولست أنا هذه الهباءة في تقويمه من ستؤخره ، تلكز ميقاتاته خاصرتي فلا عودة للنوم في هذا البيت بعد خروج أفراده ،مَنْ إلى عمله ومَن لمدرستهم ، فأقفز من السرير أرتبه ، أشتم لما ينحصر إبهامي بين اللحيفة وحديده ، يشتم أيضا عدم صبري وتحملي ، يتبع حركاتي الدائرية والمستقيمة والمتسلقة والهابطة ، يتأفف من زيادة الملح في عجينتي يئن من حرق الفرن لمعصمي، لم يرقه أني أجلي الأواني بالماء البارد في حين الساخن متوفر، يتعب من ثني الظهر لتنظيف الأرضية ويكح من رائحة المنظفات المهيجة لجهازه التنفسي الهش، يلهث ورائي على السلم صعودا إلى السطح لنشر الغسيل ..تحترق جلدته الرقيقة من شمس أبريل العمودية ، يتدجرج نزولا على لعبة أطفال فيسبقني ..يدوخ قليلا يذهب ليرى أين وصلت العقارب على دائرة ساعته ..يردد إثنتا عشرة ” يا إلهي”.سيزعجني الأولاد بشغبهم وعدم احترامهم لي ..ينبهني صراخه أنني نسيت الأولاد وأبناء الجارات في المدرسة..ينحشر معي في جلابتي ، ألبسها بالمقلوب فيقهقه مني ويسخر، أضع غطاء رأسي في غير ضبط فتبقى خصلات من الشعر خارجة تتنفس الهواء الطلق.. أنطلق قبله إلى طريق مكتضة، أراوغ فيراوغ معي السيارات المسرعة يضيء الضوء الأحمر لي خوفا من أن تنتهي صلتي الدنيوية به ويفقد من يمارس عليها ساديّته وسيادته..نعود بالأولاد ،أنظفهم أطعمهم ونعيدهم معا في عجلة من أمرنا إلى دروسهم ..أتنفس الصعداء..أتمدد على السرير أبتغي شيئا من راحة ..تك ..تك ..تك ..تك …يبقى واقفا على رأسي ،تتردد تكْتكته في دماغي فتجافيني القيلولة …تْرااااانْ…تحكّم في الغسالة فأوقفها وأنهى دوراتها..إن بقيت الثياب بها يهمس لي ستبدو لمّا تنشر كأنها خرجت من كومة بِيكْيا …فلتبق لن أنهض سأعيد تدويرها مرة ثانية ، يصفني بالمبذرة للماء المسرفة في استهلاك الكهرباء والمِضْياع له “هو”..ألقم الصغير ثديي المترع ..عشر دقائق للأيمن ومثلها للأيسر هكذا أمرت الطبيبة ..لم يكملها ..يرفض المص ويصرخ ، يفرغ جوفه علي، حرارته ترتفع..أحشر أصبعي في فمه أتحسس اللوزتين أنظر إلى قاع حلقه ، لا التهاب ، البطن مرنة لا انتفاخ، الحفاظ نظيف لا إسهال …أين المِحْرار..؟ مضاد السخونة لم ينفع أعرف ذلك بالتجربة بعد ربع ساعة من وضع التحميلة..أحَمّمه بسرعة..الماء بنفس حرارة الجسم .خمس دقائق لا ثانية زيادة ..ألُف رأسه القرعاء في قطن وأسكب عليها خلا وماء ورد..وأنتظر عيني على الساعة ويدي على حلمة الأذن..تنخفض الحرارة ، ينفرج همي أزفر خوفي .. يسكت ، يهدأ وينام ..يدخل زوجي متعبا من العمل ، يتذمر ، أتذمر أيضا .. أنا تعبان وأنا أكثر ..ماذا كنت تفعلين طوال اليوم ؟؟ أنا من يتحمل صهد هذه الحياة حتى تهنأوا..نسي أننا اثنان ..الوقت كما قلت يرانا ولا نراه عشر سنين وهو يرافق ارتباطنا ،كان هنيئا معنا في بدايتنا الرومانسية الجميلة، ثم صار يتعرض للسب.. “يلعن أبو اليوم الذي التقيتك فيه ..لا شيء بقي يعجب في هذه “الخرابة” الغداء بارد وشبشبي الأسود لا أجده والماتْش مرّ شوطُه الأول..أين وضع عفاريتك الرّيموت كُنترول ؟؟ أدعه مع الوقت يتهادَران وأنزل ،جرس الباب رنّ ، وجارتي صاحبة الدور المسائي لمرافقة الأولاد في عودتهم من المدرسة تحْت ، تنتظر ، تنقل ثقل المسؤولية وجسمها البدين من رجل إلى رجل وتسْتسرعُني ، أتسلمهم منها شاكرة ، أنفحها ببعض “بطْبوطات “ساخنات للُمْجَة المساء وصحن مربى..أعانقهم ..اِبني الأوسط فرِح ، لقد تعلم حكمة اليوم ..ويلح أن أسمعها …”الوقت كالسيف إن لم تقطعه ..قطعك” ..أهنيه وأحثهم على تغيير ملابسهم ومباشرة الواجبات المدرسية ..يستبد بي التعب وأجَنّ ،أدخل المطبخ وأقفل علي أمسك سكينة وأعيث في نسبية الفضاء والزمان وسرعة الضوء وأبعادهم التي أجهل عددها ومداها تقطيعا .. أهدأ قليلا من هذه المبارزة الدونكيشوطية ، وأحاول أن أربط كلمات الحكمة التي أفاضت كأسي بدلالاتها ، الجملة بحد ذاتها مربكة، السيف يقطع هذا بديهي وكل الرؤوس التي أطارها تعرف ذلك ..فكيف يقطعُ الوقت ؟ إنه يقطع ،لقد اقتنعت ..يرْتَهِنُنا ويقطع .. هو أحدّ وأمْضى ، قطَع نفَسي وقصم ظهري وصدّع علاقتي مع معارفي وأسرتي البعيدة وفصَمني عن أناي..لم أعد أعرف من أنا وكم مِن أنا صرتُ…تعدّدتُ واسْتُنسِخت مني نسخ ..أم ..زوجة..طباخة..منظفة..سمكري.. ممرضة ..مربية.. معلمة…خادمة.. لم أذكر أنني موظفة ، وفي إجازة وضع قربت أن تنتهي ..أين الأنثى أينَني..؟؟ أنظر إلى ثوبي المُهمل وشعري المنفوش ولدوائر الكحل السائل تحت عينيّ أشْبِه البانْدا..لا لوم على زوجي فهذا منظر لن يشجعه على الحياة ولم يعد يعرفني ..أتذكر أن لي وجها ، أضعه تحت صنبور الماء فتنساب برودته منه إلى كل أعصابي المشدودة كوتر قناة ..أعود بابتسامة اقتنصْتها عنوة من الزمن ،الأولاد في أسرتهم ، والحكاية اليوم ..الجزْء الثاني من مُسلسل المرأة الحديدية ..”سُوبَرْ مَهْدو” ، من إنتاجي وإخراجي..وفي ركن من الغرفة ،التي زيّنتْها مصمّمة الدّيكور “حضرتي” ..لا يتخلّى الوقت عن جيئته وذهابه ولا يسْتمتع بالحكاية ويستعجل مرور ناثرِ الرّمل على عيونِهم الصغيرة..ليتفرّغ لي ..فليْلي قد لا يغْفُو..
مهدية أماني

فكرة واحدة بشأن "انطباعات نقدية حول (صراع الإنسان مع الزمن) من خلال قصة (القاطع) للأستاذة مهدية أماني بقلم الاستاذ/ صالح هشام"

أضف تعليق