قراءة نقدية في نص (ملك الجياع) للأديب: مختار أمين.. بقلم الناقدة: منجية بن صالح


قراءة نقدية في نص (ملك الجياع) للأديب: مختار أمين.. بقلم الناقدة: منجية بن صالح

(النـصّ)
ملك الجياع
كنت نائما.. قالت لي زوجتي رقم ألف: ـ اغسل فمك قبلا.
بقرت بطنها على الفور..
أخرجت زوجاتي الصغار منها، هممّت اغسل كل واحدة بعناية، وامسح من على أجسادهن ما علق من وسخ بطنها..
جمعتهن على فراشي العظيم، ينظرن إليّ ثم يضحكن في خجل طفولي..
جامعتهن مرة واحدة في ليلة واحدة.. عدن شابات يافعات، كل منهن لا تفارق مرآتها الكبيرة.. تتغزل خلسة بجمال أنوثتها وتضحك..
في الصباح ملأن قصري بالأطفال، أمرت ببقر بطونهم جميعا..
نهضت مفزوعا جائعا..

القــراءة النقدية

لاشك أن لعالم الرؤية سحر آخر، يأسر العقل ويغير كيمياء المشاعر، يشاهد الإنسان تفاعله فيه بنور قلب اختزل عالم الحقيقة و الخيال، فكان لواقع الرؤية سلطان على النفس وهي التي بطبعها تعاني من أسر التراب لمقوماتها الإنسانية، نراها تتوق للانعتاق من قيد الواقع وطغيانه، ومن أسر الفكر وجبروته، وهي التي ساهمت في إنشائه، مفارقات يعيشها الإنسان بين اليقظة والمنام، بين حقيقة الوجود و خيال الصورة، بين عالم الغيب المغيب فينا، وعالم الشهادة الذي تجرفنا أمواجه إلى أعماق بحره المتفاعل بنا ومعنا، نشرب من مائه الآسن حد الثمالة، نستهلك نفاياته حد الموت، هو سحر واقع يأسرنا ظلامه، وتعجز النفس على التخلص منه، و التحرر من جسد كبلته القيود، يصبو إلى روح تشرق على ترابه عله يرى بنورها ما وصل إليه حاله حتى يتخلص من مآله… ويبقى لرأى القلب سحر مُحَرِّر، و لرُآى النفس سحر مُدمر …
يكتبنا القلم قصة واقع وواقع قصة تمتح من خيال الذاكرة بنيانها، ومن معاني الواقع صورها، ومن مأساة الإنسان وجودا آسرا، يحاول التخلص منه ليغرق في لجته ليكون الأدب صحوة يقظة، ورأى واقع هو جزء من مشهد حياة يتكرر، علنا نتحرر من قيود كبلتنا، ومن حيرة طغت على الفكر فكانت آسرة للعقل، ساحرة لقلب خلق للحب، فغيبته الشهوة و كبلته الأنا الطاغية بعد أن وقع في شراكها.
كانت هذه مقدمة من وحي قصة للدكتور مختار آمين بعنوان: ملك الجياع، جعلتني في حيرة أمام تدفق المعنى وعمقه، واختزال الصورة للرمز، وكثافة اللغة، وغرابة الفكرة التي تنقلك إلى لاواقع حدث يتسم بالغرائبية، رغم انتشاره كفكر مهيمن على الواقع السياسي والإجتماعي والديني، له تمظهرات عدة مع تبريراتها المخاتلة.
يختزل الكاتب الفكرة في كلمة تكون هي نقطة البداية التي تنتهي عندها النهاية، وبينهما تتشكل دائرة تتفاعل فيها الأحداث مع حركة الشخوص والمشاعر والرموز، فقلما نجد أديبا يكتب قصة تكون دائرية المعالم، تتفاعل فيها الأحداث دون أن تخرج عنها، لتكون الفكرة هي المهيمنة على قطبها الطائفة حوله وكأنها خارج الزمان والمكان، لتقول لنا أنا قصة كل الأيام، وأنا النقطة التي اختزلت مجريات أحداث كل العصور، وأنا صورة لمأساة البشرية جمعاء.
لهذه المنهجية في الكتابة دلالة واضحة على أن الكاتب واقع تحت تأثير الفكرة، نراه يحاصرها عبر اللغة والسرد القصصي، تختزلها الكلمات و تمتص جراحها المعاني، و يرسمها الخيال صورا صادمة، تحاكي صدمة إنسان الواقع من أحداث تملأ فراغ الأيام بطغيان الأنا السياسي والديني والاجتماعي على الفرد والمجموعة البشرية.
لاشك أن لهذه التقنية في كتابة القصة عدة مميزات، لا تتوفر لنا دائما منها هذا التماسك على مستوى السرد الذي يجعل من النص وحدة متكاملة العناصر متجانسة لغة ومعنى وصورة، وهذا يعطي للنص حياة ويجعل له روحا تثير مشاعر القارئ وتأثر في عقله و تجعله يفكر في ما وراء القصة، بخلاف النص المتشظي الذي يقتل الفكرة عند ولادتها، ويكون معدوم التأثير في المتلقي.
لقد أبدع الأديب مختار أمين في توليد الفكرة من أرض الواقع وصياغتها باعتماد تقنية القصة الدائرية المعالم إن صح التعبير والتي تتواصل فيها نقطة البداية بالنهاية.
ملك الجياع عنوان اختزل نقطة البداية والنهاية، وكان الملك هو الشخصية الرئيسية المتحكمة في قوت و مصير الرعية، ليقول لنا الكاتب في نهاية القصة نهضت مفزوعا جائعا .. فللجياع ملك و للجوع سلطان، مفارقة تضعنا أمام جدلية جمع الجمع وفرق الفرق، يعيش القارئ رمزيتها ما بين بداية ونهاية… وهكذا ندخل عالم واقع الرؤية ليقول لنا القاص:
كنت نائما.. قالت لي زوجتي رقم ألف: ـ اغسل فمك قبلا.
بقرت بطنها على الفور..
يضعنا الكاتب في برزخ بين الحقيقة والخيال، فيصعب التموقع بين واقع الحدث السردي وهو أمر اغسل فمك قبلا و لن نعرف ما هو المقصود بهذا القبل، ليبقى للإشارة إيحاء بعدم طهارة الفم على المستوى المادي الحسي و المعنوي الفكري وبين الفعل، والذي هو حركة تخرج عن الواقع لتكون رمزا في عالم الرؤية، لكننا نعيشها كحقيقة على أرض الواقع القصصي: بقرت بطنها… لهذا الفعل أكثر من دلالة …
الأولى دينية يقول تعالى (وَإِذَا ٱلْمَوْءُۥدَةُ سُئِلَتْ) (التكوير 8)لقد عرفت الأنثى الوأد من زمن العصر الجاهلي، لتبقى تدفن حية كفكر و كجنس، يتحمل فساد البشرية وانحرافها على مدى التاريخ الإنساني، من الفرد والذي هو الأب والزوج والأخ، ومن المجتمع الذي يسوده نفس هذا الفكر، ومن السياسي الذي يدعو لحرية المرأة ليسهل اقتناصها، وهكذا تجمع الرؤية بين حقيقة الواقع والخيال الغرائبي،
ويبقى سؤال يختزل السارد جوابه، لماذا بقر بطن الزوجة وهي التي دعته لغسل فمه؟ ما علاقة السؤال بفعل الجواب والذي هو خارج عن نطاق السؤال؟
الأنثى هي الرحم الحاضن للجسد والفكر الإنساني، وهي الحاضنة للعائلة الإنسانية، وهي المدرسة التي تحمل شفرة الخطاب التربوي الأول، وهي الأنثى التي من دونها تنتفي المنظومة الزوجية ومعها الحياة البشرية، فلعملية بقر البطن دلالة واضحة على تمرد الإنسان على الأمر، ومحاولة تغيير الخطاب بتغيير ما وقر في الرحم من عناصر مكونة لفكر حمله الأمر، وهذا واضح في تتابع الأحداث في القصة إذ يقول السارد:
أخرجت زوجاتي الصغار منها، هممّت اغسل كل واحدة بعناية، وامسح من على أجسادهن ما علق من وسخ بطنها..
وتفقد الأنا انسانيتها لنراها في قمة التوحش، فليس للجنس الآخر حياة خارجة عن هيمنتها الطاغية المتحكمة، كيف لا وهي الملك المسيطر على قوت الرعية ماديا وفكريا، يهم بتغيير واقع الصغار بتنظيفهن وهن زوجاته وملك يمينه، لكنه لا يفعل و يترك الأمر على حاله، ويبقين على وساختهن حتى يسهل تدجينهن، ويقول السارد:
جمعتهن على فراشي العظيم، ينظرن إليّ ثم يضحكن في خجل طفولي..
جامعتهن مرة واحدة في ليلة واحدة.. عدن شابات يافعات، كل منهن لا تفارق مرآتها الكبيرة.. تتغزل خلسة بجمال أنوثتها وتضحك..
في الصباح ملأن قصري بالأطفال، أمرت ببقر بطونهم جميعا..
تخضع القصة إلى منطق الرؤية والتي تبيح الممنوع وتمنع المباح، فيسمح السارد لنفسه بالقفز على الواقع، ليمتطي براق الخيال ويُخَلِّق واقعا خاصا يرضي غروره الذكوري، ونهمه للسلطة بتدجين الآخر الذي لا بد أن يؤنث، وذلك باعادة برمجته فكريا، حتى يسهل اغتصابه ولا يكون ذلك إلا برضاه، إذ يقول الكاتب جمعتهن على قناعات موحدة وجامعتهن هكذا يسبق اغتصاب الفكر اغتصاب الجسد، ليكون الرضا بالواقع الجديد هو سيد الموقف لنراه يقول عدن شابات يافعات، كل منهن لا تفارق مرآتها الكبيرة.. تتغزل خلسة بجمال أنوثتها وتضحك..
وبعد كل علاقة تكون هناك ولادة جديدة يخشى منها الملك التمرد، فلا بد من بقر البطون وإعادة السيناريو من الأول حتى تكون السيطرة مطلقة على جواري هن رعية ملك الجياع إلى الفكر والكرامة الإنسانية…
تتناص القصة مع قصة فرعون مع بني اسرائيل يقول تعالى
(إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِى ٱلْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًۭا يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةًۭ مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْىِۦ نِسَآءَهُمْ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ القصص 3)
ثم يقول تعالى
وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُوا۟ فِى ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةًۭ وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَ‌ٰرِثِينَ القصص(4﴾
لقد كان فرعون يدرك أن أي ذكر يولد يمكن أن يزاحمه في الملك فكان قراره قتل جميع المواليد الذكور،إلا أن ملك الجياع قلب الآية، وقرر بقر بطن الزوجة وتغيير سيمة الخلق في الخليقة بجعلها تنصاع وتخضع للأمر وللواقع وذلك باغتصاب العقل الذي هو الرحم الذي ينشأ فيه الفكر، وجعله تحت سلطته المطلقة وهذا قتل معنوى لمقومات الإنسان الفطرية وإعادة برمجتها على ما يرتضيه هوى النفس من شريعة حياة ويقول السارد في نهاية القصة
نهضت مفزوعا جائعا..
هكذا كانت الخاتمة يقظة بعد نوم، وفزع بعد سكينة، وجوع لا يشبع… ماذا أراد الكاتب أن يقول لنا من خلال هذه النهاية التي تواصلت مع العنوان وكل أحداث القصة والتي اختزلتها ثلاثة كلمات(نهضت مفزوعا جائعا) ؟ لا شك أن أحداث القصة كانت كابوسا لكل إنسان يعتز بانسانيته، والاستفاقة هي استعادة لوعي كان مغيبا في جب الجهل و الخوف من سلطة كرتونية، تستعمل غلظة الخطاب والعصا لإرهاب الشعوب وتدجينها، وما الجوع إلا للفكر والدين والعلم وحده هذا الثالوث قادر على أن يجعل الإنسان على المحجة البيضاء حتى لا يحيد ولا يميد عن حقه في حياة كريمة.
لقد حمَّل الكاتب السرد القصصي من التكثيف والتلغيز والرمزية الشيء الذي جعل من كل هذه المكونات وحدة قصصية متماسكة النسيج مبنى ومعنى، تحيلك على عالم الرؤى، لتخرجك منه وترى نفسك في خضم واقع تعيشه، تقف حياله مشلول الأطراف، تتحمل جوره وتعجز عن مقاومته، تدرك مراميه ولا تستطيع التصدي لها، ظاهرك راض وداخلك يعاني القهر والاغتصاب للقوت والجنس الإنساني بكل مقومات انسانيته.
لقد تعامل الكاتب مع المنطق الزوجي والذي جسده بين الأنثى والذكر، كرمز للحاكم والمحكوم، للفكر والجسد، للقوى العظمى في العالم والقوى المستضعفة، فكل اختلال للميزان وللمنطق الزوجي، يجعل الأرض تضيق بسكانها، فتلفظهم كما يلفظ الرحم الخدج، وكما يلفظ البركان حممه، وكما تلفظ الأرض أثقالها، فلن يكتمل الخلق الإنساني السوي في ظل تدخل الإنسان لتغيير سنن الكون والخلق واغتصاب الإنسان لحق أخيه في الإنسانية.
قد اتخذ القاص من العلاقة الزوجية نموذجا حيا لتجسيد علاقة مشوهة بين أفراد العائلة الواحدة، كما بين الشعوب والسلطة، طغت عليها الأنانية وحب التملك بيد لها نعومة الزواحف و سمومها ، فكل اختلال للمفاهيم التي فطر الله عليها الخلق، هو اختلال للموازين تنتج عنه فوضى ودمار للإنسان ولمكونات العائلة و المجتمع والوطن و الإنسانية.
ذكرتني القصة بمقولة لسيدنا علي ابن أبي طالب رضي الله عنه و أرضاه ” لو كان الفقر رجلا لقتلته ” وها نحن في زمن أصبح فيه للجوع ملكا، وللفقر انتشارا كنار الهشيم في البرية ، لهذه الظاهرة سبب رئيس، ألا وهو القتل المعنوي للإنسان، وإعادة تشكيل فكره و سلوكه عن طريق وسائل عدة ساهمت في تحييد العقل و الغاء صفاته، لتصبح له مهمة رئيسية وحيدة التلقي والتنفيذ ولقد أثر ذلك سلبا على طاقة استيعاب العقل، الذي أصبح عاجزا عن تلقي العلم وإنتاج الفكر و من هنا يدخل الفقر من أوسع الأبواب …
لقد احترف الإنسان قتل أخيه الإنسان باعتماد إستراتيجية متكاملة الحلقات: الإلغاء التجهيل ثم الموت جوعا وهو آخر حلقة من حلقات مأساة الإنسانية ……و تجوع الشعوب لتطعم حكامها……
لقد أبدع الأديب مختار أمين في تناول موضوع الجوع من خلال المنطق الزوجي، والذي كان المحور الرئيس في القصة، وهي فكرة مبتكرة تبدو على غرابتها سطحية وصادمة، لأقول أن للبحر سطح يخفي جماله في عمقه هكذا كان هذا النص. عندما يستفحل جوع للعقل وللفكر والقيم الإنسانية ولقمة العيش، تعود به الذاكرة إلى رحم الأم، حيث كان ينعم بكل مقومات إنسانيته الفكرية المعنوية والمادية، هناك حيث السعادة التي لا تعرف الشقاء، ورغد العيش الذي لا يعرف الجوع، لكن أين له برحم أم تركته لمصيره في رحم أرض الكون يعيش مأساته ولا من معين؟ هكذا يأخذه الحنين إلى رحم أم هي بالأساس زوجة لنراه في القصة يبقر هذا البطن، الذي يأبى أن يحتويه في محاولة منه احتواءه، عله يشعر ولو للحظات باستراحة المقاتل.
الإبداع الأدبي هو تَخليق لكيان فكري حي، تحكي حياته لغة و صورة، تحركها مشاعر، جماله من جمال اللغة و الصورة و في ابتكار الفكرة، ولهذا الكيان تأثير على المتلقي الذي يكون الأذن الصاغية لنص الخطاب، تتفاعل معه سلبا أو إيجابا، كما أن لهذا الكيان الفكري عمق يجعل الناقد يسبح في أعماقه ليلتقط دُرر معانيه، يتعرف على معادنها حتى يستطيع تصنيفها، هكذا هو الإبداع الأدبي ينطلق بك من نقطة تتشكل دوائر، و لكل منها وسع يحيلك على آخر، ليجعلك أمام عدة أبعاد قرائية لها ثراء أرض لغة الضاد.
لقد أبدع القاص والأديب الدكتور مختار أمين برسم صورة لأزمة وطن وواقع شعوب، انطلاقا من علاقة حميمة تجمع بين زوجة تطالب بحقها بسلامة خطاب إنساني يحترم إنسانيتها، وزوج طاغية يستبيح حرمة الجسد والفكر، كما جعلنا الأديب القدير مختار أمين من خلال هذه العلاقة الرمز، نعيش في ظلمة قصر الأنا الفردي الذي يتماهى مع الأنا الجماعي، فكنا بين فرد هو جمع و بين جمع كان فردا، شرب من يد فرعون كل زمان، ينتظر عصا موسى ليفرق بها بحرا، من الطغيان حتى… يتغير الإنسان…

أضف تعليق