وجوديات الجسد وظلاله قراءة في السرديات القصيرة جدًا (قبضة من ضباب) لمحمد الميالي بقلم: حيدر السلامي


وجوديات الجسد وظلاله

  في قصصه القصيرة جداً والمعنونة (قبضة من ضباب) يضعنا محمد الميالي بين يدي محكمة وجودية ممتدة عابثة بكل الخيوط والخطوط التي تشكل الخرائط الزمكانية فيحيلها إلى اللامحدود واللامعهود دفعة واحدة كاملة، أول ما يسأل فيها عن الجسد، هل سبق ماهيته وجودا؟!
ثم ينعطف إلى الأظلة المستوحاة من تلك الكتلة الجسمانية صغرت أم كبرت في نسق سردي لا مباشرة فيه إلا بمقدار ما يفتح الشهية لتلقي زخم أكبر من المعاني المبتكرة والصور المتسوّرة بالذات المتلقية بما يشبه الهذيان ولكنه هذيان واعٍ ومقصود وغير متوقع في آن معاً.
يهذي ليحاكي ويحاكي ليتخيل ما يجب أن يكون عليه الواقع فيسقط التاريخ بكل تفاصيله على الواقع تارة، ويرمي بشباكه ليستشرف مستقبلاً يعاد فيه رسم الملامح بشيء أكثر توهجاً من آنية الحدث.
وفي انحناءات نصوصه يستحضر الشخوص كلاً أو جزءاً بوصفها كتلاً ألقت بظلالها على مسار الإنسانية بتراكمية عجيبة تكاد تمحو الفاصلة فيما بيننا وبينها، بل تتجوهر الكينونات وتزول الأنويات بما يشي بوحدة وجودية تامة.

ميالي


إن السردية العالية الرمز تكاد تسيطر على ذهنية الميالي وهي بدورها تقود قلمه ليسبر الأغوار البعيدة للنفس البشرية المسكونة بالخير والشر والمسحورة بظلالية شفيفة مشرقة.
وحين يسقط الأمس التاريخي على حاضر الورقة لا نكاد نجده حتى يحملنا على جناح بعوضة قرمزي يختلط فيه الوشم مع الدم فيبهرنا بمرأى لا نهاية لخلابته الأسطورية وكأن الميالي بمحاولته تلك يريد لنا أن نعيش الوهم حقيقة. يريدنا أن نثقب الظل فنرى الحجر شجراً والأفعى نهراً والتفاحة قمراً والنار شمساً، إنه يريد أن يحول مآتمنا إلى أعراس.
لم يكذبِ الدكتور حمد حاجي الذي قدم لقبضة من ضباب إذ وصف القاص بـ(الأديب الفانتاستيكي) أو لعله نقل ذلك الوصف عن بعض أصدقائه. فهو كذلك فعلاً.. متورط بالفانتازيا وغارق فيها إلى أذنيه.
وإذا كان حاجي قد تمثل بـ(ولًهٌ) و(التمثال) فإني أجد ضالتي في (تحوير) و(تطهير) و(عناق) بل (قبضة من ضباب) لم تسلم هي الأخرى من هذا الفخ.
كما أن حاجي لم يغفل عن تأثيرات السيناريو وتقنيات المسرح في ضبابيات القاص ولم يذهب بعيداً في المقاربة بينه وبين الاسباني (خوان خوسيه مياس) فكلاهما طرقا بل ولجا من بوابة الظل إلى ماورائياته التخييلية وإن تحول الأخير إلى الضباب لدى الميالي في بعض الأحيان.
لقد استحقت قبضة من ضباب أن تكون باكورة أعماله السردية واستأهلت أن تعد إضفاءً مخملياً على الضرب السردي المعروف بين كتابه ونقاده اختصاراً بـ(الققج) وأتمنى أن تتبعها أخريات تثري المشهد الثقافي وتغذي الذائقة العربية والعراقية بمزيدٍ من التخييل العجائبي لأنه الوحيد القادر على الهروب بها إلى أمام.

أضف تعليق