أرشيف التصنيف: رؤية مقارنية

نقد النقد.. قراءة في دراسة “التصعيد الجمالي وشعرية العتمة” للناقد: صالح السيد بقلم: صلاح نجم/مصر

نقد النقد.. قراءة في دراسة “التصعيد الجمالي وشعرية العتمة” للناقد: صالح السيد بقلم: صلاح نجم

أرسل إلي الصديق الناقد صالح السيد صورة من دراسته المعنونة “التصعيد الجمالي وشعرية العتمة” والمنشورة بجريدة الحياة (طبعة لندن) 15 اكتوبر 2014.
إن تأصيل الجمال وفك طلاسمه وهتك كنهه وكشف أسراره، واقتفاء دبيب خطواته الجنينية الكامنة مهمة شاقة كابدة يعانيها الناقد وهو يتتبع النطفة الفنية وهي تتشكل وتتحول إلى علقة، فمضغة، فجنين جمالي في رحم الإبداع.
يرصد صالح السيد بحرفيته المتمرسة تحولات الشعرية في نموها وحركتها نحو الجمال في قصائد ديوان “من جهة معتمة” للشاعر إبراهيم زولي.
وكعادة صالح السيد، فهو لايلج من أرحام الإبداع رحما قبل أن يؤصل له ولمرجعيته تأصيلا نظريا يمهد المتن الفني لمشرط الدرس الدقيق ويهيىء تربته لاستنبات منهجه النقدي فيها.
يؤمن صالح السيد إنه لا جدوى من رسالة فنية عاجزة لاتملك قدرة، لذا فهو يؤكد على أهمية عنصرى التأثير الفني الإبداعي: الإدهاش الفكري، والإنخطاف الوجداني.
وفي إطار منضبط، يفسر لنا صالح السيد كيفيات: تحول القيم الجمالية الراسخة، صيرورة المغامرة الشعرية وهي تستثمر طاقة التخيل، خطوات التصعيد الجمالي، تحولات القوى الكامنة المبثوثة في العادي التقليدي الواقعي وملامستها للإنساني، في عبارة؛ كيف يخرج من رحم الإبداع مايضفي على القيم الفنية والجمالية الراسخة شروقا جديدا، في دقته المعهودة، يعالج في العنوان وشائج العلاقة التبادلية (من جهة)، (معتمة) في مقابل (المكان)، (الطقس أو الحالة) على الترتيب، وما منحته تلك العلاقة من ارتباط جمالي للنص، كيف تمنح العتمة للنص – بما تكتنزه من سيميائية مركزة – اتساعها الدلالي القابل لتأويلات لانهائية. كيف تنهض شعرية العتمة على لغة مخترقة تقوم شعريتها على بنى من علاقات جمالية وصياغية ودلالية قادرة على تنظيم رؤيا تتشكل من علاقات متشابكة بين النص والمتلقي تتجلى في ثنائيات يعلنها صالح ويؤكد قدرتها على صنع بنية بؤرة توترها.
عبر ثمان قيصائد في ديوان “من جهة معتمة” للشاعر إبراهيم زولى، يقدم لنا صالح السيد نقدا متميزا كما عودنا.

التأثير والتأثر بين الموضوعات والنماذج الأدبية (رؤية مقارنية) بقلم/ د. يسري عبد الغني عبد الله (باحث وخبير في التراث الثقافي)

التأثير والتأثر
بين الموضوعات والنماذج الأدبية
(رؤية مقارنية)
بقلم/ د. يسري عبد الغني عبد الله (باحث وخبير في التراث الثقافي)
____________________

أولاً: الموضوعات الأدبية:-
يتحدث الباحثون في الآداب المقارنية عن الموضوعات الأدبية، ويتابعون انتقالها من بلد إلى آخر، ويلاحظون ما يطرأ عليها من تحويرات أو تعديلات، ويوجهون جل اهتمامهم إلى دراسة الموضوعات والنماذج والشخصيات التي ولدت آثاراً أدبية.
والموضوع يمثل اللبنة الأساسية أو المادة المحورية التي تتنوع أشكالها على يد الكتاب والشعراء، وتتحد في إطار ما يسمى بالموقف الأدبي، وقد ينقل الموضوع من كاتب إلى آخر.
كما أن الكتاب يتأثر بعضهم ببعض، وقد يتقاربون في معالجتهم لهذه الموضوعات.
وهناك موضوعات تسمى الموضوعات التقليدية التي غاب أصلها الأدبي مع مرور الزمان، أو في غياهب الزمن، فلم نعلم عن انتقالها من بلد إلى بلد شيئاً كثيراً، وذلك مثل: أسطورة (جبل الحبيبين)، وأسطورة (خاتم سليمان)، وأسطورة (طاقية الإخفاء)، وأسطورة (الشحاذة الطيبة الجميلة التي تتزوج ملكاً).. فكل واحدة من هذه الأساطير كانت موضوعاً لكاتب أو أكثر من كاتب في الأدب العالمي حيث خلع عليها من فنه الكثير، فحملت خصائص فنه وإبداعه.
وللموضوع مواقف عامة ومواقف خاصة، تقوم على التفصيلات التي يبتدعها كل كاتب من عندياته، وتعد تحديثاً أو تجديداً لموضوعه الذي يتناوله.
ويمكن أن تقوم المقارنة الأدبية بين عدة كتاب تناولوا هذا الموقف أو ذاك من هذه المواقف، ومن الممكن أن يكون أحدهم قد أثر في الآخر، بطريقة أو بأخرى، وذلك أمر مشروع، لا ضرر ولا ضرار فيه.
وفي وسع أمثال هذه الدراسات المقارنية ـ وهي نادرة في الواقع ـ إذا تناولت مثلاً موضوع الغيرة أو الانتقام أو التضحية في سبيل الواجب، في وسعها أن تلقي ضوءاً قوياً كاشفاً على عبقرية مختلف الكتاب وفنهم، كما تلقي نفس الضوء على تطور العواطف في جمهورها.
كما أن بعض الدراسات المقارنية في الأدب تتناول الصور المختلفة لمعالجة الأدباء لشيء من الأشياء، أو عادة من العادات، أو سلوك من السلوكيات، أو معتقد من المعتقدات، أو قيمة من القيم، أو عرف من الأعراف ،وذلك خلال العصور المختلفة في مختلف الآداب، مثل: الانتقام، أو الأخذ بالثأر، أو لعبة الشطرنج، أو عادة التدخين أو تعاطي المخدرات، أو غير ذلك من النواحي الإيجابية أو السلبية.
ومثال ذلك: مسرحية (فاوست ) للشاعر الألماني / جوته، تتناول قضية عامة هي التردد بين العقل والقلب .
في أول المسرحية نرى فاوست شقياً كل الشقاء بعقله، ويهم بالانتحار، ثم يتولد فيه الأمل، ويأخذ في نشدان السعادة، عندما يبدأ في التفكير في التقدم والمستقبل، ويظل على هذا طوال الجزء الأول من المسرحية.
وينتهي هذا الجزء بنجاة (مرجريت) منه، ومن روح الشر المسيطرة عليه، وتفضل البقاء في السجن والبعد عن حبيبها، وفي الجزء الثاني من المسرحية يظل فاوست منغمساً في تجارب الحياة المادية، إلى أن يتعرف على (هيلين) رمز الجمال الخالص، فيهتدي عن طريقها إلى الخير والعفة والفضيلة.
وهذه القصة نفسها هي التي تمثل محور الموقف العام في مسرحية توفيق الحكيم (شهر زاد)، فقضية العقل والقلب ذات أثر واضح فيها، بما يبين ويوضح لنا التأثر الأدبي للكاتب المصري/ توفيق الحكيم، بالشاعر الألماني/ جوته.
ونفس الأمر نجده عند الشاعر الإنجليزي/ بيرون في مسرحيته التي عنوانها (منفرد)، حيث تأثر كذلك في بعض الوجوه بموقف جوته في مسرحيته (فاوست).
ومسرحية (منفرد)، لبيرون نشرت عام 1887 م ، وفيها يظهر الساحر (منفرد) فريسة لليأس والندم بسبب حب آثم فيه قضى على محبوبته، ويدعو لنجدته برقاه السحرية أرواح الأرض والسماء ، التي تعجز عن أن تهدي إليه نعمة النسيان، ويحاول الانتحار، ولكنه ينقذ ، ورغم ذلك يأبى الخضوع للأرواح الشريرة، ثم يظهر شبح المحبوبة، وتأبى أن تغفر له ما فعله بها، وتتنبأ بموته في الغد.
وفي لحظة موت الساحر (منفرد) تظهر أرواح الشر، فيأبى أن يخضع لها، كما أبت (مرجريت) في مسرحية (فاوست) لجوته، أن تخرج من سجنها جزعاً من روح الشر.
ويلعن (منفرد) الشياطين لأن الجرائم لا يصح بحال من الأحوال أن يعاقب عليها بجرائم مثلها، فعذاب الضمير أعظم ألماً من عذاب الجحيم.
ويجدر بالذكر هنا أن توفيق الحكيم له مسرحية من فصل واحد عنوانها (نحو حياة أفضل)، كتبها سنة 1955 م، ونشرها ضمن مجموعته (مسرح المجتمع) سنة 1956 م، وهذه المسرحية نلمح فيها تأثر الحكيم الواضح بفاوست الذي تعاقد مع الشيطان.
ومسرحية (أوديب الملك)، التي كتبها الشاعر اليوناني/ سوفوكليس، الذي عاش في الفترة ما بين عامي 496 و 406 قبل الميلاد، موضوعها سلطان القدر الساحق، الذي قد يحول انتصارات المرء إلى هزائم، وهزائمه إلى انتصارات، ومادة موضوع أوديب أسطورة يونانية شهيرة، وقد تأثر بها توفيق الحكيم في مسرحيته التي نشرها سنة 1949 م، بعنوان (الملك أوديب).
وإذا كان أوديب سوفوكليس يعاني من مشكلة البحث عن الحقيقة، فإن أوديب توفيق الحكيم يعاني من مشكلة الصراع بين الحقيقة والواقع.
ومن المعروف أن للكاتب/ علي أحمد باكثير مسرحية عنوانها (أوديب)، قال: إن هدفه من كتابة هذه المسرحية محاولة تشخيص مشكلة سياسية وطنية هي مشكلة فلسطين.
والذي نراه أن هدف باكثير من هذه المسرحية هو هدف ديني بحت، حيث أنه يهاجم البدع التي أخذت تشيع وتنتشر في البيئات الإسلامية منذ العصر الفاطمي، ويقوم على رعايتها والترويج لها طبقة من المتاجرين باسم الدين، الذين يجمعون الأموال من السذج باسم الدين أو باسم الدفاع عنه.
وفي نفس السياق نجد مسرحية (بجماليون) التي نشرها توفيق الحكيم سنة 1943 م، يتأثر فيها بمسرحية (بجماليون) ، للكاتب الإنجليزي / برنارد شو، وإن كان توفيق الحكيم يحاول أن يطرح على بساط الواقع مسألة التردد بين مثالية الفن وواقع الحياة، عكس برنارد شو الذي طرح مشكلة الطبقية.
على كل حال فإنه يمكن أن يبدو لدارس الأدب المقارن مثل هذه التأثيرات في مجال الرواية أو الأقصوصة أو حتى الشعر كما بدا في المسرحية، ويكشف البحث المقارني عن نواحي التأثير في المواقف التي أوصلها بعض الدارسين المحدثين إلى أكثر من مائتي ألف موقف.
ثانياً: النماذج الأدبية:
يمكن لنا تقسيم هذه النماذج الأدبية إلى طوائف:-
الطائفة الأولى:
وهي النماذج الإنسانية، وتتصل بالأدب المقارني إذا انتقلت من أدب إلى آخر .
والنماذج الإنسانية العامة أنواع، فمنها: نماذج الشعوب أو السلالات البشرية: الفرنسي، أو الإنجليزي، أو الألماني، الإيطالي، أو الأمريكي، أو المصري، أو المغربي، أو الفلسطيني،… إلى أخره.
ونماذج المهن أو الوظائف أو المراكز، مثل الوظائف أو المراكز الدينية: الحبر أو الراهب، الكاهن أو القسيس ، الشيخ..
ومثل المهن: العامل أو الفلاح أو الحرفي، المعلم أو الطبيب أو المحامي أو الصيدلي، أو التاجر أو حفار القبور، الجندي أو الشرطي أو الضابط أو الحارس..
ومثل: الجلاد أو الطاغية أو المخبر السري أو الجاسوس، ومثل: البغي أو اللص أو قاطع الريق أو المرابي ….
وكذلك المنازل الاجتماعية والأخلاقية، مثل: الرجل الفظ أو غير المتحضر، أو الرجل الجينتلمان، أو الرجل المنحرف، كذلك نماذج المشوهين بدنياً أو سلوكياً أو المبتلين، مثل: الأعمى، المجنون، المعتوه، الأحدب، الكسيح، المقامر، السكير، مدمن المخدرات…
والباحث المقارني يدرس هذه الشخصيات في مختلف الآداب، يدرس تصوير الأدباء لهذه النماذج الاجتماعية والإنسانية.
ويتأتى ذلك عن طريق تتبع الباحث المقارني للصفات المشتركة التي رآها الأدباء في هذه الشخصيات، ومدى تأثر بعضهم ببعض، أو رد بعضهم على بعض ..
مثال على ذلك: الفلاح، تناوله عدد كبير من الأدباء، وصوروا حياته وأعماله، وكثيراً ما صوروا آلامه ومعاناته، ويذكر هنا أن الكثير من الأدباء المصريين والعرب تأثروا بالأدب الروسي في تصوير الفلاح المصري.
ويمكن أن ندرس جوانب التأثر والتأثير بين الكتاب الذين تناولوا شخصية المومس أو البغي، حيث اختلفت هذه الصورة في تناول الكتاب، في مختلف الآداب، وعلى مر العصور.
بعض الكتاب اعتبر المرأة المنحرفة أو الساقطة امرأة فاضلة، بل هي في صورة ملاك، يساعد ويعطي دون أي مقابل، وهذا ما لا يفعله من يتشدقون بالتدين أو بالأخلاق الفاضلة، ولعل خير مثال على ذلك مسرحية (غادة الكاميليا) للفرنسي (الكسندر ديماس)، التي عربها المنفلوطي بعنوان (الضحية)، وضمنها كتابه (العبرات)، ومثال آخر من الأدب العربي، شخصية (نور) في رواية نجيب محفوظ (اللص والكلاب)، وشخصية (لولا ) في (السمان والخريف) لمحفوظ أيضاً.
وبعض الكتاب صور الساقطة في صورة ضحية مغلوبة على أمرها، ضحية لا ذنب لها في سقوطها، بل المسئول عن ذلك مسئولية كاملة المجتمع الذي قد يكون دفعها إلى الرذيلة أو الهاوية دفعاً.
وبعض ثالث اعتبرها آفة اجتماعية، لا سبيل إلى إصلاحها، بل هي خطر داهم على المجتمع الذي تعيش فيه.
ومما لا شك فيه أن مسرحية (غادة الكاميليا) كان لها أثر كبير على الكتاب العرب الذين تناولوا شخصية المومس أو البغي الفاضلة.
ونحب أن نذكر هنا أن الكاتب/ نجيب حداد كان من الكتاب الذين قلدوا الرواية الفرنسية موضوعاً وشكلاً، وخاصة في روايته التي أسماها (إيفون مونار أو حواء الجديدة)، التي تدور حول فكرة رد اعتبار العاهر، وتأثر فيها بأفكار كل من: رومان رولان، والكسندر دوماس، وغيرهما في الأدب الفرنسي، ونجيب حداد ليس غريباً عن الرواية الفرنسية، فقد قرأها وترجم بعضاً منها، وبذلك يعد نجيب حداد أول من تطرق لموضوع الدفاع عن البغي في الأدب العربي الحديث.
ومثال آخر على الموضوعات أو النماذج التي يتناولها الأدب المقارن، موضوع الحب المحرم في التراث المسرحي أو القصصى العالمي، وعلى صعيد الأدب العربي، فشخصية (فيدرا) التي يمكن أن نعتبرها امرأة في ملتقى الآداب العالمية، حيث يمكن تتبع قيمة كسر التابو أو التقليد في العلاقات الأسرية بنشوء عاطفة آثمة في داخل الأسرة، وذلك بدءاً من مسرحية (هيبو ليت) للشاعر التراجيدي الإغريقي / يور بيدس، ثم المعالجة الفرنسية لنفس الموضوع في القرن السابع عشر الميلادي بقلم الكاتب المسرحي/ راسين، تحت عنوان (فيدرا)، ومعالجة نفس القيمة مع تغير الأدوار في الرغبة المحرمة في مسرحية (تحت أشجار الدردار) للأمريكي/ يوجين أونيل، ومسرحية (اللص) لتوفيق الحكيم.
ومن النماذج العامة نموذج (البخيل) الذي دارت حوله مسرحية الشاعر اليوناني/ ميتاندر، وهذه المسرحية لم تصل إلينا، ولكن الشاعر الروماني/ بلوتوس قام بمحاكاتها في مسرحية له، عنوانها: (أولولاريا) أو (وعاء الذهب)، وجرى تصوير هذا النموذج في مسرحيات أخرى في بعض الآداب الأوربية من أشهرها مسرحية (البخيل) للشاعر الإيطالي / كارلوجولدوني، ولا ننسى بالطبع أشهر مسرحية عرفت باسم (البخيل) للكاتب الفرنسي / (موليير)، وكان لهذه المسرحية أثر كبير على الأدباء العرب الذين تناولوا شخصية البخيل.
وعلى دارس الأدب المقارن أن يتناول موضوعاً من هذه الموضوعات من جوانب التأثر والتأثير .
الطائفة الثانية:
الطائفة الثانية من النماذج الأدبية، هي النماذج الأسطورية الخيالية، وهي تعود إلى حكايات قديمة أو موغلة في القدم، تحورت أو تشوهت، أو فقدت معناها الأصلي، ومن هذه النماذج نموذج الشيطان، وله تاريخ طويل وعريض في جميع المعتقدات الدينية، مثل مسرحية (فاوست) لجوته، ومسرحية (منفرد) لبيرون.
وكذلك نموذج الساحرة الشريرة أو الساحرات ، وخير مثال على ذلك الساحرات في مسرحية (ماكبث) لشكسبير، وكذلك نماذج الغول، والعفريت، والشبح، وكلنا مازال يذكر شبح (هاملت) في مسرحية شكسبير.
وهناك شخصيات أسطورية قد تتحول إلى رمز فلسفي أو اجتماعي، ويتناولها الأدباء من وجهات نظرهم الخاصة، أو من وجهة آرائهم المختلفة، في إطار نظرتهم الخاصة، والتي تتفق مع عصورهم أو مع واقعهم المعاش.
ومن هذه الشخصيات انموذج بجماليون، وهو فنان من جزيرة قبرص، هاما عشقاً أو حباً بجمال تمثال صنعه بيده.
وهذا الموضوع نفسه نجده في الأدب الروماني القديم عند (أوفيد) الروماني، والذي عاش بين عامي 43 قبل الميلاد، و17 ميلادية، في قصته (المسخ) .
وعرض لنفس الفكرة كتاب وشعراء من مختلف الآداب، وتأثر بها من الكتاب العرب، توفيق الحكيم في مسرحيته (بجماليون) التي نشرها عام 1943 م، وإن كان الحكيم يطرح فيها مسألة التردد بين مثالية الفن وواقع الحياة.
ويجدر بالذكر هنا أن للكاتب الإنجليزي برنارد شو مسرحية بعنوان (بجماليون)، وفيها يركز على مشكلة اجتماعية هي مشكلة الطبقة في المجتمع الإنجليزي.
ومما لا شك فيه أن الحكيم تأثر بكل المصادر الأدبية التي عالجت شخصية (بجماليون) .
نقول: إن فكرة أننا نقدر ونحترم ونحب من نصنع أو نربي أو نعلم، أكثر مما نقدر ونحترم ونحب من صنعنا أو علمنا أو ربانا، هذه الفكرة نجدها عند توفيق الحكيم في مسرحيته (شمس النهار) التي نشرها سنة 1965 م، وبالطبع هي نفس الفكرة التي نجدها في بجماليون التي كتبها (أوفيد) الروماني، وتأثر بها العديد من الفنانين والأدباء والشعراء .
ومن تلك النماذج الأسطورية (برومثيوس) ، وهو من الأساطير اليونانية القديمة ، تدور حول إله من آلهة النار .
وقد تناوله العديد من الشعراء في شعرهم، وكذلك بعض كتاب المسرح في مسرحياتهم، وبالذات في بلاد اليونان القديمة، ثم انتقل هذا التأثر إلى الكتاب الأوربيين مع عصر النهضة الأوربية.
وكذلك تأثر بهذه الأسطورة بعض الشعراء العرب، مثل الشاعر التونسي / أبي القاسم الشابي، في ديوانه (أغاني الحياة )، كما تأثر به الشاعر / عبد الرحمن شكري، وكذلك عباس محمود العقاد، وغيرهم .
ونعود إلى شخصية أو رمز الشيطان فنقول : إنه نموذج دخل إلى الأدب، وابتعد عن المصدر الديني، وقد اتخذه الشاعر الإنجليزي / جون ميلتون ، الذي عاش بين عامي 1608 م و 1674 م، عماداً لعمله المهم (الفردوس المفقود).
والرومانسيون يعبرون على لسان الشيطان عن آرائهم فيما يعتريهم من قلق وشك وبؤس وحزن وخوف وضيق .
ويبدو واضحاً جلياً أثر هذه الشخصية في الأدب الروسي الرومانسي عند (ليرمنتوف) في قصيدته الغنائية التي عنوانها (الشيطان)، وهو في ذلك متأثر إلى حد كبير بالشاعر الإنجليزي / بيرون.
وقد جعل الأديب الفرنسي / فيكتور هوجو الشيطان ممثلاً للإنسانية كلها ، في حالة ابتعادها عن الله تعالى، وإنه الحاسد لبني آدم لأن في عيونهم الأمل، وفي قلوبهم الحب والصفاء.
عباس محمود العقاد تأثر بهذه الشخصية، فكتب قصيدة عنوانها (ترجمة شيطان)، تحدث فيها عن شيطان ناشئ سئم حياة الشياطين، وتاب عن صناعة الإغواء .
والقصيدة في مجملها تضم الكثير من آراء العقاد وتطلعاته الفلسفية التي ساقها على لسان الشيطان، وهو فيها متأثر إلى حد كبير بالرومانسيين الأوربيين.
ونشير إلى موضوع آخر في مجال دراسة الشخصيات المتميزة أو التي لها معالم أو ملامح معينة، وهذا ميدان يهتم به الأدب المقارن، ومثال على ذلك شخصية جحا الأسطورية التي تعود إلى المصادر الشعبية، وقد أصبحت موضوعاً تتناوله الآداب العالمية بمختلف ألوانها، فجحا هذا نجده في الأدب الشعبي المصري، وكذلك في الأدب الشعبي التركي، وفي الأدب الشعبي القوقازي، والأدب الشعبي الفارسي.. وهو في كل هذه الآداب رمز للإنسان البسيط خفيف الظل، والذي يعبر عن رأيه في شجاعة منتقداً أوضاع السلطة الحاكمة الفاسدة أو المستبدة ، حاملاً ملامح وعادات وتقاليد وأعراف كل أمة ينتمي إليها، أي أنه على الإجمال خير معبر عن الوجدان الشعبي وموقفه من عصور القهر والظلم .
وشخصية (شهرزاد) التي تعود إلى قصص ألف ليلة وليلة أو الليالي، ونقلت إلى الآداب الأوربية وأصبحت رمزاً للاهتداء إلى الحقيقة عن طريق القلب والعاطفة.
وعن الليالي انتقلت فكرة (علاء الدين والمصباح السحري)، ومن الليالي أخذ توفيق الحكيم مسرحيته (شهر زاد) التي نشرها سنة 1934 م، وكذلك أخذ طه حسين (أحلام شهر زاد) التي نشرها لأول مرة بالقاهرة ، سنة 1942 م.
ومن ذلك شخصية (دون جوان) التي ظهرت سنة 1887 م، ولا نستطيع دراسة البلد أو الموطن الذي نشأت فيه هذه الشخصية أو أسطورتها، وما نعلمه أن أقدم مسرحية تناولت هذه الشخصية الأسطورية (ساحر إشبيلية) التي ألفها ترسو دي مولينا (1584 م ـ 1648 م)، وتبعه جمع من كتاب أوربا وشعرائها، منهم: موليير الفرنسي ، وبيرون الإنجليزي، وجولدوني الإيطالي، وهوفمان الألماني .
ويرمز دون جوان إلى الإنسان المستهتر المخادع الذي لا هم له ولا هدف إلا مغازلة النساء ، وتحطيم قلوب العذارى، من أجل أن يفتنهن ثم يهجرهن دون عودة .
ويصور بعض الكتاب دون جوان بصورة التائب الذي يلاحقه عذاب الضمير على ما فعل من خطايا، إلى غير ذلك من الصور التي صورتها أقلام عدد من الكتاب والشعراء لهذه الشخصية وفقاً لوجهات نظرهم، ولرؤيتهم الخاصة .
هكذا استلهم كثير من الكتاب شخصية دون جوان محطم قلوب العذارى، والذي لا نعرف له وطناً، ولا نعرف في أي وقت ظهر، استلهموا فيه أشياء شتى بهذا الاسم وبغيره ، وقد تعرضت لأسطورة دون جوان العديد من الأبحاث التي تمتاز بالغنى والدقة ، منها البحث الذي كتبه / جاندرم دي بيجوت، وهو أطروحته لنيل درجة الدكتوراه في الآداب، والتي كان عنوانها (أسطورة دون جوان من أصولها إلى الرومانسية).
وكليوباترا كان لها حظ موفور في الآداب العالمية التي تناولتها في مختلف البلاد ، وقد برزت في بعض المسرحيات الفرنسية، ومنها مسرحية ( كليوباترا الأسيرة)، التي كتبها الشاعر الفرنسي / جوول (1532 م ـ 1573 م)، وظهر بعدها مسرحية (كليوباترا) للشاعر الإنجليزي / صموئيل دانيال، المتوفى (1594 م)
كما تناول كليوباترا الشاعر الإنجليزي الشهير / شكسبير في مسرحيته (أنطونيو وكليوباترا) التي تأثر بها العديد من الأدباء في مختلف العصور، حيث تناولها بعد شكسبير عديد من الأدباء في فرنسا وانجلترا وغيرهما من البلاد الأوربية .
وفي مصر نجد مسرحية (مصرع كليوباترا) لأحمد شوقي ، وقد دافع فيها دفاعاً مستميتاً عن كليوباترا، وجعل منها ملكة وطنية ، تحب مصر وتعمل على صالحها، وتضحي بحبها من أجل مصر.
ومن الشخصيات التاريخية في الأدبين العربي والفارسي، نجد شخصية ليلى العامرية وحبيبها قيس بن الملوح العامري ، أو مجنون ليلى ، ولقصة حبهما حديث طويل بما نسب إليهما من أحداث تعرفها كتب الغزل العفيف، وكتب التصوف.
والمعروف أن أحمد شوقي له مسرحية عنوانها (مجنون ليلى)، كما أن للشاعر/ صلاح عبد الصبور مسرحية من الشعر الحر هي (ليلى والمجنون).
وقد تناول هذه النماذج والشخصيات بالبحث والدرس يعد من الموضوعات التي يدرسها ويهتم بها الأدب المقارن، وهذا ما نجده كثيراً في الآداب الأوربية المختلفة ، ولكنه لا يزال حديث العهد والنشأة في الأدب ، وفي النقد العربي.
الأسانيد و المراجع
1 – فردوس نور علي، بحوث في الأدب المقارن، كلية الدراسات الإسلامية والعربية، فرع البنات، جامعة الأزهر، القاهرة، 1987 م.
2 – فان تيجم و فرانسوا جبار، الأدب المقارن مترجم إلى العربية، دار الفكر العربي، القاهرة، بدون تاريخ.
3 – فان تيجم وفرانسوا جوبار، الأدب المقارن، ترجمه محمد غلاب، سلسلة الألف كتاب، 1956 م .
4 – محمد غنيمي هلال، الأدب المقارن، القاهرة، 1965 م .
5 – كلود بيشوا واندريه روسو، الأدب المقارن، باريس، 1968 م، ترجم رجاء عبد المنعم جبر بعض فصوله، بعنوان: مذكرات في الأدب المقارن، القاها في محاضرات على طلبة كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، في العان الجامعي 1973 – 1974 م .
6 – طه ندا، الأدب المقارن، القاهرة.
7 – محمد مفيد الشوباشي، رحلة الأدب العربي إلى أوربا، القاهرة.
8 – محمد غنيمي هلال، قضايا معاصرة في الأدب والنقد، القاهرة.
9 – بدوي طبانه، التيارات المعاصرة في النقد الأدبي، القاهرة.
أعداد مختلفة من مجلة (الرسالة) وبالذات الأعداد الصادرة سنة 1934 م، وغيرها من الأسانيد والمراجع التي أشرنا إليها خلال هذا البحث.
_______________

yusri_52@yahoo.com
هاتف: 3176705 2 جوال: 01021057359 أو 01114656533