تصدير:
وُجدنا غريبين معا
وكانت سماء الرّبيع تؤلّف نجما.. ونجما
وكنت أؤلّف فقرة حبّ
لعينيك.. غنّيتها (محمود درويش: أجمل حبّ
مدخل إلى قراءة الأثر:
القصّ فنّ عربيّ حمل على عاتقه منذ انبجاسه مطيّة تواصل إنسانيّ هموم الإنسان ومشاغله.. فهو إمّا ناقل لأخبار تتوارثها الأجيال حكما واعتبارا أو مقدّما نوادر ومقامات تجود بالإمتاع والمؤانسة، أو مصوّرا الواقع كاشفا الحجب عمّا توارى منه خلف التّعتيم والإبهام شحذا للعقول للتّفكير فيه وتدبّر سبل معالجة مشاكله، أو راسما المتخيّل ظفرا بتحقّقه ولو على القراطيس…
وبتطوّر مشاغل الفكر الإنسانيّ تطوّرت شواغل فنّ القصّ فخرج من حدود سرد الوقائع إلى سرد المشاعر والأحاسيس هواجس أو حزنا أو فرحا أو تأرجحا بين كلّ هذا سردا حكائيّا نظفر فيه بمقوّمات الحكاية من عقدة وصراع وانفراج وزمكانية وحبكة وشخصيّات حيث يستنفرها القاصّ لنسج حكايا الرّوح والفكر..
ونحن نظفر بالمجموعة القصصيّة “الرّيح تكنس أوراق الخريف” التي ترنو إلى رفرفة في عالم القراءة مفارقة حدود قلم كاتبها المبدع المائز
السّوري منذر غزالي تتدافع في الفكر الأسئلة: ماذا احتوت هذه المجموعة؟ وبأيّ سرديّة اصطبغت؟ وبم باحت؟ وعمّ انطوت؟ وبم توشّحت من قريحة كاتبها المائزة التي ألفناها؟..
أسئلة لجوجة سأحاول إرواء الظّمإ فيها إلى إجابات عساها تكون شافية كاشفة عن درر الأثر صادحة ببعض الأصوات الهامسة فيه..
القراءة النقدية:
في بناء هذه القراءة ارتأيت أن أنطلق من تقديم الأثرالقصصيّ هذا مادّيّا عبر مرحلة الوصف ، فتقفّي خطى خصائص تشكّله نصّا جمعا كرمّانة تزخر بحبّاتها عبر مرحلة التّحليل، ثمّ مغازلته واستعطافه ليبوح بأسراره عبر مرحلة التّأول ..1
-وصف الأثر:
“الرّيح تكنس أوراق الخريف” مجموعة قصصيّة تتألّف من ثماني قصص قصيرة وردت تباعا كالآتي:
-اعتياد
-موعد
-مناسبة خاصّة
-غمزة
-شاب الهوى
-الرّيح تكنس أوراق الخريف (ومنها نهلت المجموعة القصصيّة عنوانها)
-والشّيطان ثالثنا
-المرأة التي علّمتني
يليها نصّان وسمهما الكاتب منذر غزالي بالمتتالية القصصيّة ممهّدا لهما بتوضيح للتّسمية كاتبا”: هي – بتواضعٍ تام – مجرّد تجربةٌ في السرد، وجدتها الأنسب لطرح قضية وجودية، كقضية الحياة والموت، في “جسرٍ خشبيٍّ صغير”، أو مسألة وجدانية، كخيبة الأحلام، في “نهايات”. رأيت أنّ طرحها في سردٍ تقليديّ من مقدّمة، وحبكة تتصاعد إلى الذروة، وصولا إلى الخاتمة، لا تفي بالغرض.
والمتتالية القصصية، كأسلوب، هي التجسيد السردي، في الكتابة، للمتوالية السيمفونية، في الموسيقا.
وهي – كما عملت عليها – مجموعة من القصص القصيرة جداً. تتوالى، وتتكامل، لتعطي المعنى الكامل للحالة، أو للفكرة؛ دون أن يرتبط إحداها بحدثٍ واحد. لكن لا بدّ أن ترتبط بالفكرة العامة، أو الغرض
الشامل المراد منها.
وتتميّز هذه الومضات، من جهة، بلغةٍ شعرية بسيطة، تكون هي عنصر الإمتاع. حيث لا يوجد حبكة
تشدّ القارئ، أو ذروة ترفع من نبض النصّ، وتزيد التوتر لدى القارئ. ومن جهةٍ ثانية: تعتمد الرمز دون إبهام، أو غموض.
هل وفّقت إلى ما أريده؟ هل كان اختيار هذا الأسلوب الجديد – حسب علمي– يفي بالمراد من حيث الغرض، ومن حيث الإمتاع؟ أرجو ذلك. والراي الصحيح يبقى لدى القارئ، فهو من سيتلقى التأثير الجمالي والشعوري.
ربما يقول أحدٌ، أنّ هذه بدعة لا قيمة لها ولا حاجة، وربما ينفي آخر انتماءها إلى جنس القصة.. ربما يقال أكثر من ذلك، وربما لا يلتفت للموضوع أحد…. كلّ ما سيقال هو موضع احترام.
هي مجرّد تجربة جديدة، قد تلقى القبول، أو الاستحسان، وقد يؤمن بها مبدعون آخرون، فيشتغلون
عليها، ويطوّرونها. وقد….
والإبداع، كلّ إبداع، أولاً وآخراً، يبدأ من تجربة.
“منذر”
ثمّ يردان (أي النّصّين) كالآتي تباعا:
-متتالية قصصيّة 1
-متتالية قصصيّة 2
وقد عمد الكاتب إلى تذييل كلّ نصّ من نصوص مجموعته هذه بزمكانيّة جود قريحته به واندساسه في حضن القرطاس ليشدّ الرّحال إلينا نحن جمع القرّاء.
فمن أيّ المواضيع اغترفت نصوص هذه المجموعة القصصيّة شهدها؟ وما هي أهمّ الشّخصيّات التي فيها حضرت؟ وفي أيّ الفترات الزّمنيّة والفضاءات المكانيّة وُلدت؟وكيف ارتأى كاتبها بثّها في مجموعته ليتشكّل بها شكل الوليد الذي ارتضاه ويُرضيه..؟
2-خصائص الوجود القصصيّ في”الرّيح تكنس أوراق الخريف:
أتحمّس وقد لامستُ زبد بحر ذي المجموعة القصصية وموجُ مُتونها يهدر مغريا بالاغتراف من لُجينه، فأخطو نحو سطحها أروم أن أُثلج صدر فضول القراءة فيّ،متفحّصة موادّها الحكائيّة (المواضيع) وشخوصها وترتيب القصص فيها…
أ- مناهل الحكايا: إذ يلج فكري تفاصيل “الرّيح تكنس أوراق الخريف” تنفتح أمامي بوّابات زواياها فأُلفي الكاتب قد اغترف مادّتها الحكائيّة من بئر الحبّ الذي لا ينضب تجلّيا ومذاقات وامتدادات وإغراقا لزائريه..
فالأقصوصة الأولى (اعتياد) تروي، عبرلحظة نسيان الحال الواقعة تحت كلكلها الشّخصيّة”هو”، شذرات من عذب حكايا يوم يرفل في حبّ الحياة والجارة الطّالبة،منتهية بفرار اللّحظة تلك وهجوم جحافل الواقع المنشب أنيابه في الجسد والفؤاد معا..
والأقاصيص التّالية لها تزخر بحكايا الحبّ بألوانه الكرنفاليّة، فهوفي “موعد” يرتدي قتامة جلباب الحبّ المخادع المتأسّس على المظهر الخارجيّ دون تمحيص في جوهر الحبيبة وتبيّن لحقيقة خطوها في الوجود فيتهاوى صرح الحلم على هشيم خمائل عفّة وجد وهيام تاهت فيها شخصيّة العاشق.. وفي “مناسبة خاصّة ترتسم لنا قصّة عشق زوجين تجمح فيها عاطفة الزّوجة جيّاشة فترسم للمناسبة الخاصّة بهما بمنأى عن الأولاد طقوسها الرّومنسيّة لكن بشاعة يوم الزّوج تكاد تنسف عرش الحبّ هذا لولا هبّة الخافق الولهان من جديد فيُمسح الدّمع وتُستأنف تلك الطّقوس المرهفة من جديد..
ويواصل الكاتب منذر غزالي رسم فسيفساء الحبّ في مجموعته القصصيّة هذه بحكاية الحبّ والخجل والوجل في قصّة”غمزة”، وحكاية متاهة اللّقاء بعد فقد الحبيبين جسر الهوى في قصّة “شاب الهوى”، وكذا الأمر في قصّة “الرّيح تكنس أوراق الخريف” حيث تُنتسج حكاية صدمة الحبّ في عالم الرّغبات الجسديّة، وفي قصّة الشّيطان ثالثنا حيث يعشّش الحبّ الأوّل في الخافق خفية لينطّ في وجه العاشق بكلّ آلام النّوى ورائحة الكراهية الكريهة للصّديق الخائن المندسّ بين الحبيبين حتّى بعد موته، ثم تأتي “المرأة التي علّمتني” قصّة جامعة لحكايا الحبّ حيث العشق الأوّل وفشله والحبّ العذريّ ونقاؤه وحبّ الصّديقين وشفافيّته وحبّ الوطن ورقيّه..وهي القصّة التي سأخصّها ببعض قراءة لأنّها وردت بمثابة القصّة الجمّاعة لمشارب المجموعة كاملة ..
تليها المتتاليتان القصصيّتان كشهد تجارب العمر وزبدة أرجحة الحياة للرّوح في دروبها فيتحرّر الحبّ فيها من الذّات المفردة ويرفرف ذاتا جمعا تكابد وجع الحرب و”غُمّيضى” القدر وهو يومئ بهطل لذيذ اندساس في حضن الحبيبة حلما وحياة ووطنا كما يتجلّى من خلال قول الكاتب في المتتالية الأولى:”
جسرٌ خشبيٌّ صغير، وطفلةٌ صغيرةٌ تحلم بثوبها الأبيض، ترخي شعرها على كتفيها، تتباهى بغرتها الناعمة، تبتسم بعينيها الزرقاوين لخطيبها الذي يرفع ذيل ثوبها الطويل.
” ستكبرين يوماً يا صغيرتي، وسيحبُّك فارسٌ وسيم، وسيرفع ذيل ثوبك الأبيض…على الجسرِالخشبيِّ الصغير”
ثمّ وهو (القدر) يعلن عن وجوده المدمي أرواحا عشقت الحياة والوطن واعدا إيّاها ببصيص أمل رغم عتمة أفق يرزح تحت كلكل الألم حيث نُلفي الكاتب يقول في المتتالية الأولى:
جسرٌ خشبيٌّ صغير، وشلالٌ ينحدر من السماء، أبيض كأنّه الموت، صاخبٌ كأنه الحياة، وطائرٌ وحيدٌ ينثر ألحانه حول الطفلة الصغيرة.
“لا أحد يسمعك أيها الطائر الوحيد، فالشلال المتدفق، صوته يطغى على كل شيء، والطفلة الصغيرة لا تراك حتى تملأ أذنيها بأنغامك المتناثرة… شغلها صوت الهدير الذي يملأ المكان.”
كما يردّد في المتتالية الثّانية:
“أرى حوريَّةَ البحرِ تنزلقُ فوق سطحِ الماء .
تدعوني نحوها… جسدُها اللدنُ، صدرُها الممتلئ العاري، شعرُها الذي حدَّثتني عنه حكايةُ جدَّتي.
أقتربُ قليلاً من الماءِ، أمدُّ يدي، تمدُّ يدَها تتناولني…
تهبُّ عاصفةٌ مفاجئة، ترتفعُ موجةٌ عالية… قيل أن تلمسِ أصابعي أطرافَ أصابعِها.
(6)
أرى عمراً بستان عوسج.
أرى حريقاً.
أرى برعماً صغيراً وسط الحريق…لا يحترق.”
ألا نراها مجموعة قصصيّة كملحمة العشق في الحضارة الفينيقيّة لا مدار تنشدّ إلى جاذبيّته غير مدار الحبّ بكلّ ألوانه الكرنفاليّة التي تحتفي بالحياة فلا لون لسواد الموت والعجز فيها، على أنغامها يزهر الجمر لوزا في بيض ليالي الشّتاء ومنه يُلقمنا الكاتب المبدع منذر غزالي شهد الحرف والكلمة…
ب- الشّخصيّات عُمُد القصّ: من عساه يستضيف الكاتب في حكايا الحبّ غير الرّجل والمرأة؟.. الرّجل مُراوح بين الحضور بضمير الغائب في القصص السّبعة الأولى، وضميرالمتكلّم فيالقصّةالأخيرة (المرأة التي علّمتني) والمتتاليتين، والمرأة منبجسة منذ لحظة انبناء الحكاية مشاركة فيها كما في القصص: موعد/ غمزة/ المرأة التي علّمتني/ اعتياد/ مناسبة خاصّة/ الرّيح تكنس أوراق الخريف.. ومنسلّة من رحم الذّاكرة على جناح الاسترجاع أثناء الحكاية كما الحال في القصّتين”شاب الهوى” و”.. والشّيطان ثالثنا”.. أو صورة شعريّة للحظة مقتنصة من تأمّلات الفكرة في هيئة طفلة أو حوريّة البحر في المتتاليتين.
فالمرأة والرّجل قطبا حكايا الحبّ في هذه المجموعة القصصيّة التي تذكّرنا بالأثر العربيّ القيّم “طوق الحمامة في الألفة والألّاف” لابن حزم الأندلسي، انتسج بهما الأديب قصصه ونسج حولهما شرنقة فيها يتشكّلان كائنا جديدا مرفرفا كالفراش في خمائل المقاصد حاملا على رقّة الجناح عظيم الدّلالات…
ج- التّرتيب، خيط الحرير في منسج المجموعة القصصيّة: ارتأى الأديب منذر غزالي أن ينضّد نصوصه القصصيّة في مجموعتها “الرّيح تكنس أوراق الخريف” تنضيدا تصاعديّا حسب ثلاثة معاييروهي:
*معيار الامتداد: فنحن إذ نلج قراءة المجموعة القصصيّة ذي نلاحظ خطّا تصاعديّا لعدد صفحات القصص (دون احتساب المتتاليتين لاختلاف الجنس الأدبيّ) وذلك كما يلي:
-القصّة الأولى (اعتياد) مداها صفحة واحدة
-القصّة الثّانية (موعد) مداها ثلاث صفحات
-القصّتان الثّالثة والرّابعة (مناسبة خاصّة/ غمزة) مداهما أربع صفحات لكلّ واحدة منهما
-القصّتان الخامسة والسّادسة(شاب الهوى/ الرّيح تكنس أوراق الخريف) تماثلتا امتدادا بثماني صفحات
-القصّة السّابعة (.. والشّيطان ثالثنا) امتدّت على ثلاث عشرة صفحة
-القصّة الثّامنة (المرأة التي علّمتني) هي الأكثرامتدادا ببلوغ عدد صفحاتها الأربع عشرة صفحة..
فنراها أمامنا تصّعّد نحو ذروة طول النّفس القصصي كلّما أوغلنا تقفّيا لمتونها..
*معيار تاريخ الميلاد: مكانيّا جعل الكاتب النّصّين مولودي ألمانيا بلد المهجر (اعتياد وموعد) في مستهلّ مجموعته القصصيّة هذه، لتدفق بعدهما القصص الأخرى ذات المنشإ السّوريّ وكأنّنا به يخبرنا بأنّ كلّ نبض في حاضره المغترب هو من خفق وطنه يتشكّل وبهواء عشقه موطنه ينمو وبرطب هويّته المتغلغلة فيه مثقل.. أمّا زمانيّا فقد وزّع الأديب نصوص مجموعته بجعل مواليد السّنتين الأوليين للحرب في سوريا (2011 و2012) تندسّ بين جناحي مواليد السّنوات التّالية (2015/2016 و2013 /2014) فارّة المتتاليتان من هذا الحضن مذكّرتين بأصل نشأة هذا الواقع الجديد المؤلم (2011 حيث كان المقصد نوال الحرّيّات وفرض ما سُمّي بالرّبيع العربيّ)، فتذييل كاتبنا المبدع لنصوصه بتأريخ ولاداتها زمكانيّا ليس اعتباطيّا بل هو منهج وظيفيّ سعى من خلاله إلى رسم درب السّير على الجمر وتجرّع العلقم المرّ في الدّاخل تقتيلا وتشريدا وفي الخارج لوعة وحنينا..
*معيار المتون: إنّ الجائل في رحاب “الرّيح تكنس أوراق الخريف” المجموعة يلاحظ أنّ الأديب منذر غزالي قد خصّ السّبع قصص الأولى بالسّرد المثقل إخبارا بحكايا الحبّ بينما أثقل القصّة الأخيرة بالتّأمّلات الفكريّة الفلسفيّة الوجوديّة من خلال بنائه حوارات بين شخصيّة الرّاوي والمرأة الأجنبيّة تجاذبا فيها صنوفا من مشارب الحياة تجاذبا فكريّا تأمّليّا، ليتيسّر له إيراد متتاليتيه القصصيّتين اللّتين عرّفهما بأنّهما فنّ التّأمّل في الوجود يتشكّل نصوصا قصيرة جدّا تتالى..
وكأنّنا بهذا الأديب المبدع وهو ينضّد مجموعته القصصيّة هذه يبني أطروحة فلسفيّة وجوديّة هي ثمرة تجارب حياة وتأمّل فكر ووعي قريحة..
مقتطفات من قصّة”المرأة التي علّمتني”
______________________
**—فقلت لها بزفرة توجّع: “على كلّ حال، لا فرق بين الموت والحياة. وأحياناً يكون قرار الاستمرار في هكذا حياة هو الانتحار”.
اتّسعت ابتسامتها، وحرّكت رأسها باستغراب، وردّت: “هذه فلسفة!”. صمتت ثانية أو ثانيتين، ثمّ أردفت: “لكنّها فلسفةٌ عدميّة!”. مشت قليلاً، ودعَتني، بإشارةٍ من يدها، كي أمشي معها، ففعلت. أكملتْ ردّها على كلامي: “الحياة والموت نقيضان، والنقيضان لا يتساويان… الحياة حياة، والموت موت، ولا يمكن أن يتساويا يوماً”. كانت لغتها الفصيحة، وكلماتها المتمهّلة، ولكنتها الجميلة، تضفي على ما تقول عمقاً مميّزا جعلني أنشدّ للردّ عليها: عندما تكون الحياة سيّئةن فهي أسوأ من الموت”.
“عندما تكون الحياة سيّئة، فهي، ببساطة، حياة سيّئة!. أمّا الموت، صمتت برهة، غامت أثناءها نظرتها، وأكملت بنبرةٍ خفيضة: لا يوجد موتٌ جيّد وموتٌ سيّء… الموت هو الموت!”.
كان الشلال إلى يميننا، صوته الهادر يغطّي على المكان، ورذاذه المنعش البارد يصل إلينا، وكانت الشمس ترتفع فوق طرف الوادي، في النقطة البعيدة من الأفق، وكانت أشعّتها تنعكس على ذرى الأشجار، وعلى مجرى الماء، فتشتعل بتوهٍّج برتقاليّ، وتترك على امتداد الوادي تموٍّجات من البريق والظلّ، وكنا وحيدَين، نمشي متجاورَين على سكّة القطار. نظرتُ إليها: كانت تتأمّل المنظر البديع بكلّ جوارحها، ووجها الأبيض الصافي، يمتزج بلون الأشعّة، فيبدو كأنّما يشوبه الشحوب، حذاؤها الخفيف يعطي لخطواتها خفّة واتّزانا. كل شيءٍ فيها يوحي بالدّعة والراحة. فكُّرت وأنا لا أزال أنظر إليها: “من أين لكأن تعرفي معنى المأساة!”.
قالت فجأة، وهي لا تزال منغمسة في تأمّلها: “ما دمنا نحيا، فعلينا أن نقاوم الموت!”.
رددتُ على كلامها بسرعة: “نحن نحيا، فقط، لأننا لسنا أمواتاً!”؛ وكنت ألعب بالألفاظ!. رحت، عن قصدٍ، أضخّم شعوري بالحزن، وأعبّر عن الألم العميق الذي أكابده، دون أن يفهمه أحدٌ غيري، وأؤكّد أنّه لا يعرف معنى الحزن إلّا من يجرّبه، ولا يقدّر حجم المأساة إلّا من يعانيها، وكانت تستمع إليّ بصمت، دون أن تبدي ملامحها أيّ شعور، أو ردّة فعل,فازدادت كلماتي حرارةً ورحت أغلّفها بالحكمة، كي أثير تعاطفها مع مأساتي…”ما
نفع الحياة, إذا كان كل شيءٍ فيها مزيّفا..؟”
**—قالت بعد أن أنهيت كلامي (في الواقع لم يبق لديّ كلامٌ آخر أقوله ):”تسأل عن الحقيقة؟، هذا سؤال كبير!. هل تتوقّع أن يأتيك أحدٌ بعلبةٍ مغلّفة، ويقول لك:افتحها وستجد الحقيقة في داخلها؟!… الحقيقة تحيط بنا، تكمن في كلّ شيء. انظر حولك: هذا الوادي السحيق، وهذه السماء العالية، وهذه الشمس، وهذا الشلال والصخور والأشجار… أليست هذه كلها حقائق؟”.
“أنا أسأل عن الحقيقة الإنسانيّة، وأنتِ تحدّثينني عن الطبيعة!…حتى الطبيعة، الطبيعة ذاتهاغامضة”.
“وقفت، ونظرت في عينيّ, وأكملت: “أن نجهل الحقيقة الحقيقة شيء وأن ننكرها شيءٌ آخر؛ حياتنا حقيقة، أنا حقيقة، وأنت حقيقة، شبابك هذا الذي تريدأن تنهيه، حقيقة، هذه – على الأقل – حقائق تدركها، وتملكها؛ ومع ذلك، تريد أن تتخلص منها… وتسأل عن الحقيقة؟!”.
**—“السعادة، ليست فقط، أن نحصل على ما نريد. السعادة الحقيقية، هي الشعور المرافق للإنجاز… ماذا فعلتَ أنتَ لتحافظ على حبّك؟…لا بدّ من المعاناة، من الجهد، كي تبقى علاقتنا بالحياة قائمة. أما المتعة السهلة الدائمة، فلا معنى لها، أشبه بالغيبوبة”
هذه مقتطفات من قصّة تختم القصص في المجموعة القصصيّة” الرّيح تكنس أوراق الخريف”، وتجعل من ذاتها نواة لرواية فلسفيّة وجوديّة تبحث في أبعاد الوجود الإنسانيّ المختلفة… هذه المقتطفات الحواريّة وردت في القصّة بعد حدث محاولة الرّاوي الانتحار لحظة يأس من صدق هبات الحياة والحبّ حالت شخصيّة المرأة الأجنبيّة”روز” دون تحقّقه ووهبت الرّاوي فرصة تأمّل أرحب للوجود..
وكما أسلفت القول تلي هذه القصّة متتاليتان قصصيّتان هما تأمّل فكريّ في الوجود بلغة شاعريّة وسرد قصير جدّا متتال كما وصفهما الكاتب نفسه..
3- البوح بالأسرار (أنا أسأل.. أنا أستنتج.. أنا أؤوّل..)
أيّها الأديب المبدع منذر غزالي… قصصت فسردت ما أردت، ونضّدت مجموعتك كما شئت، وانتقيت لآخرها تسمية ارتأيتها، وجعلت عنوان القصّة الوسطى للنّصّ عنونة.. فما عساك بكلّ هذا تقول…؟!
أنا أصغي إلى تمتمات في أثرك البذخ هذا.. أقترب.. أدنو.. همساتك تعلو قليلا.. أنحني.. أنبش تراب العتمة عن تبر المقاصد.. تتجلّى لي كلمات.. أندسّ في ثرى الجمل والفقرات فالنّصوص.. ترتفع بي أناشيدك الصّادحة بها مجموعتك عاليا نحو ثريّا الكشف…
وأنتم تراقبون.. تنتظرون.. بفضول عاشق الحرف تلجّون برغبات حارقة في مشاركتي كنز الكشف.. أعساكم بما ظفرتُ ترضون..؟ كلّا.. عبر خطاي الوهنة في هذا الأثر سوف تمرّون عميقا، وبخطو يسير إلى مكامن الدّرر وبنفيس الكشف دوني سوف تظفرون..
وأنا أسائل الأديب عبر منبر نصّه عن مقاصده باح لي عبر مصدح الحرف بأنّ الحبّ فعل مقاومة، وأنّ الوفاء رغم النّوى فعل مواطنة، وأنّ الخيانة تضرب الخاصرة ولا تدمّر غير صاحبها، وأنّ الوجل في الحبّ جبن يذلّ الوطن وأنّ الفكر للعاقل سكن، وأنّنا نعشق بصدق وننسى كذبا ونفي سرّا ونتواصل عبر نجمات الحكايات المنسوجة بحرير الأمنيات السّامية لنثبت أنّنا على قيد الوجود بكلّ أبعاده..
خلسة عنكم همس لي الحرف الزّاجل بيني وبين أديبنا المبدع بوصيّة الوطن للرّوح العاشقة مقتطعة من “القصيدة المتوحّشة”:
“أحبّيني.. وقوليها
لأرفض أن تحبّيني بلا صوت
وأرفض أن أواري الحبّ
في قبر من الصّمت
أحبّيني… بعيدا عن بلاد القهر والكبت”
وأشرع أمامنا جميعا (كفاني ضنّا بهباته عنكم) نوافذ الأمل بغد أفضل وهو يرتّل ترانيم متتاليتيه القصصيّتين ويختمهما من درعا الأبيّة صادحا:
“أرى عمراً بستان عوسج.
أرى حريقاً .
أرى برعماً صغيراً وسط الحريق…لا يحترق.”
هو غد كالرّيح يكنس أوراق خريف الوجل والوجع والنّوى والدّمار والخيبة حاملا في جرابه بذور ربيع لا يتشوّه في الرّحم ولا يُقتل في المهد صبيّا ولا يُكبّل وقد بلغ من العمر عتيّا ولا تأفل شمس فجره إذ ليس في قاموسه مفردة”عشيّة… هو ترنيمة الحياة التي لوقع صداها ينفلق الصّخر الأصمّ جوّادا بزلال زمزم، ويتشقّق الرّخام واهبا ليخضور الشّجر فرحة الظّفر بالنّور وتتهاوى الغيوم المثقلة هطلا إلى وجه الأرض المتلظّية شوقا وحنينا تغرقه بخصيب القبلات… وبإدراكها ينتصب الإنسان خليفة في الكون بامتياز..
امتنان:
هل لي بعد هبات ذي المجموعة القصصيّة البذخة،أمام كرم كاتبها المبدع منذر غزالي وهو يهدينيها ثقة ببعض جود قريحتي إلّا أن أتزوّد بكلّ ما زخرت به معاجمنا العربيّة من عبارات الشّكر والامتنان وأن أقول ومالي في ذي المقامات قولا شافيا:” أبدعت أستاذي كما ألفناك وأكثر وبثثت في مجموعتك البذخة من المقاصد ما غفلت عنه قريحتي فعذرا أستميحك لها وهي في درب القراءات تحبو كمُهر يتعلّم الخطو في مضمار سباقات الخيول.. سلمت قريحتك ولا نضب مدادها وهنيئا لسوريا بك ابنا مبدعا بارّا ولأمّنا الضّاد بفارس من فوارسها الأشاوس في ميادين القصّ…