المذاهب الأدبية الغربية والأدب العربي الحديث بقلم/ د. يسري عبد الغني عبد الله

المذاهب الأدبية الغربية والأدب العربي الحديث
بقلم/ د. يسري عبد الغني عبد الله.. (باحث وخبير في التراث الثقافي )
تمهيد:
لم يتواجد في الأدب العربي القديم مظاهر لهذه المذاهب (المذاهب الأدبية الغربية مثل: الكلاسيكية، الرومانسية، الواقعية … إلخ ..)، فلم يكن النقاد العرب في القديم يعنون بوحدة العمل الأدبي من الناحية الفنية، وتوثيق صلاته بالمجتمع فكرياً وفلسفياً، وهذا لا يمنع من القول بوجود بعض الآراء والأفكار في النقد العربي القديم تقترب من هذا سابقة لعصرها .
ومن المقطوع به أيضاً: أنه في الأدب العربي الحديث لم يحدث أن أعتنق مذهباً من المذاهب الأدبية، ولكن الأدب العربي الحديث تأثر بها جميعاً تأثراً لا يمكن وصفه بالمنهجية أي أنه كان غير منهجي، وكان لا بد أن تتأثر أجناس الأدب العربي الحديث بهذه المذاهب، فهذه هي السنة الرشيدة التي سارت عليها الآداب الإنسانية جمعاء في عصور نهضاتها.
فالآداب كائن حي، تأخذ وتعطي ، وتتحاشى الانطواء على نفسها، والانعزال عن دنياها المعاشة، خوفاً من أن تقفر وتجدب.
الشعر الغنائي العربي:
* وقد بدأ التجديد في الشعر الغنائي العربي، ثم في المسرح والقصة والأقصوصة، وكان طبيعياً أن تبدأ النهضة الأدبية أولاً في الشعر الغنائي، ذلك لأنه أقدم جنس أدبي ورثه العرب عن أسلافهم.
وواضح أن التجديد في جنس أدبي موروث أيسر منالاً من إبداع أجناس أدبية جديدة، ونرى معالم التجديد في الشعر الغنائي العربي تمشي على استحياء لدى خليل مطران، حيث دعا إلى الوحدة العضوية في القصيدة الغنائية، وإلى صدق المشاعر في تجاربه، ونجد ذلك واضحاً خلال مقدمته لديوانه الشعري الذي عنونه بـ (الخليل)
ثم رأيناها في تجارب مطران الشعرية نفسه، حين عبر عن آلامه تعبيراً أصيلاً في نوعه قل أن نجده في الشعر العربي الحديث، إذ أنه يرى الطبيعة مرآة لنفسه التي تعاني و تتألم وتتعذب، ويقابل بين مناظرها وأحاسيسها الخاصة، كما نرى في قصيدته المشهورة (المساء) .
وكذا في التجارب ذات الطابع الإنساني والاجتماعي، ففي قصيدته (في تشييع جنازة) يأسى على شاب انتحر نتيجة تجربة حب فاشلة، وكأنه يشيد بقدسية الحب، وينعى على المجتمع أن تقف تقاليده عقبة في سبيل الحب الشريف، والعواطف الصادقة .
وفي قصيدته (الجنين الشهيد) نجده يرثي لفتاة زلت بسبب الفقر والحاجة، وأدت بها الزلة إلى ارتكاب جريمة للتخلص من طفلها .
وكذلك في قصائده الموضوعية التي يتغنى فيها بالبطولة والحرية، وتكشف بجلاء عن أرائه في الوطنية، وهذه كلها نزعات وخواطر رومانسية.
وقد وضحت نزعات التجديد أكثر في أدب ونقد: عبد الرحمن شكري ، وعباس محمود العقاد، وإبراهيم عبد القادر المازني (جماعة الديوان ، 1921 م) ، وكذلك في أدب المهجريين الشماليين .
وعلى الرغم من أن العقاد كان أكثر الديوانيين وضوحاً ، وأعمقهم نظرة في نقده الأدبي (من وجهة نظرنا) ، فإنه من المستطاع إجمال اتجاهات النقد الأدبي لدى هؤلاء جميعاً في : الدعوة إلى الوحدة العضوية في القصيدة ، والأصالة التي يجب أن يتمتع بها الشاعر عندما يعبر عن ذاته أو عن نفسه، وتصوير مشاعره وأفكاره بصور مستمدة من تجاربه الخاصة، ومن بيئته التي يعيش فيها، بشرط ألا يلجأ إلى تقليد القدماء، أو مجاراة الآخرين، وعلى الشاعر أن يأخذ تجاربه نفسها من بيئته المعاشة فيعبر بها عن صدق فكره وشعوره .
وهذه كلها نزعات رومانسية، وقد تأثر شعراء جماعة أبوللو التي أسسها الدكتور/ أحمد زكي أبو شادي، فيما كتبوه من شعر في مجلتهم، ودواوينهم، حيث نجد بوضوح نزعات رومانسية، وذاتية، واجتماعية، مع بعض النزعات الرمزية.
وعلى الرغم من جهود التجديد الكبيرة التي كانت وليدة اتصال الشعر العربي الحديث بتيارات التجديد العالمية، فقد خالف كثير من الشعراء والنقاد المجددين دعوات تجديدهم في أدبهم، فنرى في الكثير من قصائدهم عودة إلى الشعر التقليدي، وإلى شعر المناسبات، وإلى الأخيلة والصور القديمة التقليدية، ولا يظهر في العديد من قصائدهم معنى الوحدة العضوية كاملاً على نحو ما فهمها أصحاب المذاهب التي نقلوا عنها .
كما لاحظنا بعض الأدباء يزاوجون بين مذاهب أدبية كثيرة في أعمالهم الأدبية، كالرومانسية مع الرمزية، أو الرومانسية مع الكلاسيكية، أو الواقعية مع الكلاسيكية..
المسرحية العربية:
* أما المسرحية العربية فتأثرت بالمذاهب الأدبية الغربية، فالأدب العربي القديم لم يعرف فن المسرح أو فن التمثيل المسرحي كما هو في الحديث أو قريب منه ، إذ ظل الشعر العربي القديم محصوراً في نطاق الشعر الغنائي، وأدب الرسائل، والخطب، والمقامات، على الرغم من معرفة العرب بآثار اليونان الفكرية، وعلى الرغم من ترجمتهم لأرسطو، فإنهم لم يحاولوا احتذاء اليونانيين في التمثيل ولا في ترجمة أي شيء من مسرحياتهم.
وقد وجدت المسرحيات العربية في الآداب الغربية الدعامة الحق لنشأتها ونهضتها، وكان السبق في ميدان المسرح لسوريا حين بدأ مارون النقاش مسرحياته، وقد أخذ فن الإخراج المسرحي عن الإيطاليين، وكانت أولى مسرحياته التي عرضها (البخيل) للكاتب الفرنسي / موليير .
ثم أتت إلى مصر جماعة تمثيل سوريه على رأسها سليم النقاش، وكانت أكثر المسرحيات التي عرضوها مترجمة عن الفرنسية الكلاسيكية، مثل مسرحيتي (أندروماك) و (فيدر) لراسين، ومسرحية (هوراس) لكورني.
ومما سبق نرى أن الترجمة كانت أسبق من التأليف الأصيل، والمسرحيات المترجمة اعتمدت على المسرحيات الرومانسية الفرنسية، ثم الإنجليزية، إلى جانب ترجمة مسرحيات شكسبير ، التي اقتبس منها الكثير.
وقد تأثر الأدب العربي المسرحي أولاً بالكلاسيكية في الموضوعات والنواحي الفنية ، وسرعان ما تأثر إلى جانبها بالرومانسية في المسرحيات ذات الطابع العاطفي، وفي المسرحيات التاريخية، والمسرحيات الكوميدية، مثل مسرحية (حفلة شاي) لمحمود تيمور، نجده متأثراً فيها بملهاة (المتفيهقات المضحكات) للأديب الفرنسي/موليير.
ثم أعقب ذلك ظهور المسرحيات الرمزية، مثال ذلك، مسرحية (مفرق الطرق) التي كتبها / بشر فارس، ثم نرى توفيق الحكيم الذي حرص على خلط الطابع الرمزي لبعض مسرحياته بقضايا اجتماعية عامة، وآراء فلسفية في صلة الفرد بالمجتمع، وذلك كما نقرأ في مسرحيته (أهل الكهف)، التي نشرها سنة 1933 م، ومسرحيته (نهر الجنون) التي كتبها سنة 1935 م ، وضمنها مجموعته (المسرح المنوع) التي صدرت سنة 1965 م.
وقد أراد الحكيم في نهر الجنون أن يصور طغيان المجتمع، وسيطرته عل الفرد، ورغم انتماء هذه المسرحية إلى المسرح الرمزي ، فنرى أنها تحوي الكثير من الرومانسية.
ثم نرى محمود تيمور الذي يعتبره كثير من النقاد من أبرز كتاب المسرح الواقعي، نجده متأثراً إلى حد كبير بالكاتب الفرنسي / جي . دي . موباسان.
ونرى أمير الشعر الكلاسيكي العربي / أحمد شوقي في مسرحيته (مصرع كليوباترا) ، متأثراً فيها بالآداب الأجنبية ، بل أنه ينقل عن شكسبير مشاهد كاملة من مسرحيته (أنطونيو وكليوباترا) .
ومما سبق يتضح لنا تأثر الأدب العربي بجميع أجناسه بالمذاهب الغربية ، وقد أخذ هذا التأثر يتأصل في الأدب العربي ، ويوجه رسالته الإنسانية والفنية في نطاق الاتجاهات العامة للأدب .
القصة العربية:
* أما بالنسبة للقصة العربية فقد تأثرت بالرومانسية في منهج قصصها التاريخية ، وفي وصف النواحي العاطفية الذاتية ، ثم في الإشادة بالماضي القومي أو الوطني هرباً من الحاضر ، ورغبة في تغييره إلى مستقبل أفضل عن طريق الإصلاح أو الثورة .
ومن أمثلة التأثر الرومانسي نذكر القصص التاريخية التي ألفها جورجي زيدان فهو يقفو في منهجها الفني أثر ولتر سكوت في القصة التاريخية الرومانسية في أوربا ، وقد كان زيدان يقرأ سكوت قراءة واعية هاضمة .
ويمثل النزعة القومية العاطفية والوطنية محمد فريد أبو حديد ، وعلي أحمد باكثير ، وغيرهما من كتاب القصة التاريخية المستمدة من التاريخ الفرعوني أو الإسلامي .
وأخيراً أخذت القصص العربية الحديثة تتأثر بالاتجاهات الواقعية والفلسفية للقصص العالمية، وحسبنا أن نذكر قصة (أنا الشعب) لمحمد فريد أبو حديد، وقصة (عودة الروح) لتوفيق الحكيم، وقصة (الأرض) لعبد الرحمن الشرقاوي.
وقد اتخذ نجيب محفوظ شخصيات بعض قصصه من نماذج طبقات وأجيال مصرية متعاقبة مثل الثلاثية وغيرها ، وهو متأثر في بدايته بكتاب أوربا، لأن أول من أرخ في قصصه لنماذج طبقات وأجيال متعاقبة هو الكاتب القصصي الفرنسي/ بلزاك في مجموعته القصصية (الملهاة الإنسانية)، وبهذا يمكن الوقوف على نقاط التلاقي التاريخية بين الأدب العربي الحديث والآداب العالمية الحديثة، في القصة وغيرها من الأجناس الأدبية .

يسري عبد الغني
د. يسري عبد الغني عبد الله

رأي ودعوة:
وبعد، فمما سلف يتضح من إشاراتنا المتكررة إلى مظاهر التجديد، أن هذه المظاهر على ما لها من قيمة ، وعلى ما استتبعه من جهد كبير محمود من كبار الكتاب العرب الذين وصلوا الأدب العربي الحديث بالآداب العالمية، على الرغم من ذلك فإن الأدب الحديث عند العرب لم يتبع تياراً فنياً متكاملاً،  واضح القسمات والسمات والمعالم، ولم تدعمها فلسفة تمثل الاتجاه الفكري للعصر الذي نحياه.
ولم يضع مؤلفو الآداب العربية نصب أعينهم جمهوراً خاصاً يشاركونه آلامه وآماله، ويؤمنون بمثله إيمانهم بذات أنفسهم ، وتلك هي النواحي التي استحقت بها نزعات التجديد العامة الأوربية أن تسمى مذاهب أدبية أو فنية.
نقطة أخرى نراها على جانب كبير من الأهمية، ألا وهي حاجة الكتاب العرب للتعمق والإيمان برسالة الأدب القومية والوطنية، ودوره في البناء والتنمية والنهوض والارتقاء.
* ثم تأخر النقد الأدبي الحديث في الساحة الأدبية العربية ، وذلك لرزوحه تحت عباءة ما ورثه العرب من نقد قديم ، أو لتشدق بعض النقاد بنظريات نقدية لا تتفق مع الأدب العربي ، ولا مع الواقع الأدبي العربي بوجه عام .

استمر في القراءة المذاهب الأدبية الغربية والأدب العربي الحديث بقلم/ د. يسري عبد الغني عبد الله

الناقد/ محمد نوار.. دلالة اللون ورسم الصورة في مجموعة “ضباب ليس أبيض” للشاعرة غرام الربيعي

دلالة اللون ورسم الصورة في مجموعة “ضباب ليس أبيض” للشاعرة غرام الربيعي

ما زالت المرأة في ثقافتنا العربية هي شاهد على الأحداث وليست صانعة لها، وهذا متأتٍ من تركة ثقافية توارثتها الأجيال، وبالتالي عندما ننظر إلى خارطة الشعر العربي بشكل خاص وعموم خطاب الأدب العربي، نرى أن المرأة في الشعر ليست ذاتاً فاعلة، بمعنى أن حضورها موضوع النص من خلال  أدب ذكوري، ولكن مع ذلك بدأنا نرى معالم جديدة تظهر في الأدب العربي خاصة في العقدين الأخيرين، إذ أصبحنا نقرأ أدباً نسوياًغزيراً، علماً أن هذا الموضوع قد تناوله العديد من النقاد وهو ما زال بكراً ،بالرغم من الكتابات التي ظهرت في هذا المجال . 

ضباب

هنا نود أن نقف أمام إحدى المجموعات  الشعرية الصادرة حديثاً التي حملت عنوان”ضباب ليس أبي”، وهو العتبة الأولى التي نريد استنطاقها ولعلنا نتساءل: هل هناك أنواع أخرى للضباب؟ الجواب: نعم. هناك  لون آخر أمام  الشاعرة التي تراه هي اللون الأسود، وإن كانت لم تسمه لنا وهو متأتٍ مما تقترفه الأيدي، ومعلوم أن هذا اللون له دلالات معينة في ثقافتنا وهو يشير إلى العدمية والموت والحزن والغموض، على العكس من اللون الأبيض الذي يدل على الوضوح، ثم أن اللون هو من المفردات  الأثيرة لدى المرأة، وفي توظيفه ينقل النص من حيز المباشرة إلى فضاء أرحب وأغنى دلالة، وفي نصوص الشاعرة يمثل بنية أساسية في تشكيل النص الشعري، وهو مرتكز أساسي هام وغالباً ما تعتمد عليه الشاعرة في رسم الصورة شكلاً ومضموناً لما يحمل من عناصر جمالية لها دلالات فنية .
نضحت الملامح قلقاً
والعويل انتاب العيون
لحرب
اغتالت غد الأرحام
بحوار مميت
لونه الدخان
ومن القضايا الفنية التي نجدها عند الشاعرة غرام الربيعي، استدعاء نصوص أخرى وتحويلها في بناء فني مميز، والنص لديها لا يأخذ من نصوص سابقة بل يأخذ ويعطي في آن واحد وبالتالي فإن النص الحاضر قد يمنح النصوص السابقة أو القديمة تفسيرات جديدة، أو هو يظهرها بحلة ذات دلالات جديدة قد تكون خافية، أو لم نستطع رؤيتها من قبل لولا  هذا التناص، وواحد من هذه التناصات التي وظفتها الشاعرة هي قصة سيدنا يوسف “ع” التي  وردت في القرآن الكريم ، وقد وظفتها أكثر من مرة.
قميصي في البئر
حين تعرف يوسف
تعرف لونه
الشاعرة في هذا النص تعطي دلالات جديدة من خلال توظيف مغايرغير الذي نعرفه، وهي هنا تستبدل الرائحة باللون، بمعنى أن المعرفة متأتية من دلالة اللون على اعتبار أن المخاطب هنا فاقد بصيرة، على العكس مع سيدنا يعقوب مما يضفي جمالية أخرى عند المتلقي.
لقد قسمت الشاعرة نصوص مجموعتها إلى الغيمة الأولى ثم الغيمة الثانية وحتى الغيمة الخامسة، والنص السادس حمل عنوان الصحوة ربما أرادت الشاعرة من هذا العدد “خمسة” محاكاة حواس الإنسان الذي لم يعد باستطاعته أن يميز من خلالها بين الأشياء في الفعل بين ما هو خير وما هو شر نتيجة هذا  الضباب داخل الوطن. لقد التبست الرؤيا إذ ما علمنا  أن هناك مفردتين لم تغادرا النصوص هما: الوطن والموت، إضافة إلى مفردات أخرى في الدلالة ذاتها تحكي ضياع الإنسان. الحرب، المقابر، الحلم، العاهات، الأشلاء ، الرياح، المخاض.
كان الحلم.. على مقاس وطن
في ذاكرة الماء والنخيل
حُزَّ من قفاه
على مقربة من حروف ثلاثة
والذكرى مقامات تهجي
تفض بكارة الوطن
لينزف موتي.. موتي.. موتي خافتين
هلوسة تمجد الموت
عناوين الغيمات الخمس حملت دلالات الأولى منها “حكاية وطن” وهي المدخل لما تنطوي عليه الغيمات الأخرى من تفاصيل آما الثانية “أضغاث” وهو إشارة لما يجري داخل الوطن الذي يصعب فهمه أو حتى استيعابه. والثالثة كان عنوانها “مخاضات” تشير فيه إلى وجع أو عسر الولادة  بما تمثله من دلالة في خلق حياة جديدة، والغيمة الرابعة هي  “فقراء” والشاعرة هنا توظف المفردة بدلالتها العامية “الطيبون “ ثم “نفايات حرب” عنوان الغيمة الخامسة لترسم لنا من خلال هذا العنوان معالم  ما مضى من الغيمات السابقة، ثم يأتي العنوان الأخير “الصحوة السادسة” وهو بمثابة دعوة إلى الحياة من جديد بعدما كانت السماء ملبدة بالغيوم وتنذر بالشؤم .
في نص الشاعرة غرام نرى أن جمالية الصورة لا تقوم على رصف الأجزاء بعضها إلى البعض الآخر، بل بتركيبها على نحو يوحي بما خلفها من دلالة لا تستمد كثافتها إلا من وضع الشيء إلى جانب نقيضه. ولكن هناك ظاهرة التكرار التي لازمت معظم نصوصها، مما يجعل تلك الصورة في بعض الأحيان مربكة  بالرغم من أن تكرار اللفظة في المعطى اللغوي لا يمنح النغم فقط/ بل يمنح أيضا امتداداً وتنامياً للقصيدة. ولو نظرنا إلى المقطع السادس في الغيمة الثالثة:
مع الريح … أرسلت ورقاً
يقايض الشمس
مليئاً بأحلام متكاسلة
تستظل بعرائها الكلمات
دامسة الهروب
ووجهها بارد
يموت مرة كل بضعة أحلام
على شفا الريح
والتراب غير ندي
يمر بالقرب منها.. رصاص معطوب
يصفر وجهها
تتضرع الأمكنة
الريح تقترف العجالة
تنبئ عن أمان مذهولة
إرهاصات جسد
يرتمي على الورق
آلت إليه طوابير الذرائع
مكامنها مضطربة
كأنها.. لا أدري…!
أنين الورق يشرب النوائب
نجد تكرار مفردة الريح ثلاث مرات، ومفردة ورق ثلاث مرات، وحلم مرتين في حين أن النص لا يتجاوز بضعة أسطر، والشاعرة عندما تستخدم المفردة المكررة لا تجعلها تغادر دلالاتها الأولى، بمعنى أن المدلول يبقى يحمل الدلالة ذاتها في التوظيف مما يفقده القيمة الجمالية في النص الشعري.

الناقد/ مختار أمين.. كيف تقوم بتحليل النصوص الأدبية المحاضرة رقم (8).. أنواع الرواية

كيف تقوم بتحليل النصوص الأدبية المحاضرة رقم (8)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل الثاني:
أنواع الرواية:
في العصر الحديث تتزايد مسميات الرواية باتساع الرؤى وتطور العلوم والمعارف في الحياة الإنسانية، لأن الرواية تتيح للكاتب أن يكتب بشكل حر نسبيا عن كل الأشياء والأمور التي تخص الحياة والإنسان، وتصنيف الروايات من حيث الأسماء قد يعطينا مجالا كبيرا واسعا، والإمعان في التخصيص من ناحية الاسم، ولكن سنوجز منها الأغلب الأعم الذي كثرت الكتابات فيه، وصنفه النقاد، ونشرح البعض من هذه المسميات بشكل يساعد القارئ والكاتب على التفريق بين الأنواع المختلفة وخصوصيتها وتسميتها، ومنها:
الرواية الواقعية ـ الرواية الرومانسية ـ الرواية التاريخية ـ الرواية السياسية ـ الرواية الوطنية ـ الرواية البوليسية ـ رواية الخيال العلمي.
الرواية الواقعية:
هي نقل واقع كنموذج من الحياة من خلال قصص لأشخاص يعيشون هذا الواقع، وفي الغالب تحاول تغيير هذا الواقع بشكل يخدم هدف الرواية التي من شأنها إصلاح المجتمع، وتدعيم قيمه الأخلاقية. من خلال صور إنسانية تصور سلوكياتهم وأفكارهم تتعرض لأزمات داخل الرواية ومحاولة فضها بالشكل الأمثل الواقعي.
ومن الممكن أن تكون الرواية ناقدة للمجتمع، أو رمزية تحاكي المجتمع بشكل رامز له أبعاده، أو فلسفية تفلسف الأمور الدائرة في حياة نخبة معينة من الناس أو إسقاط بعدٍ فلسفيا على مجتمع بعينه.
الرواية الرومانسية:
هي رواية تخاطب الوجدان بأسلوب يمس مشاعر وعاطفة المتلقي، ويحسن فيها التراكيب اللغوية عالية البلاغة والذوق، وتغلب عليها قصص الحب والمغامرات العاطفية ، وهي تركز أيضا على العلاقات الاجتماعية بين أبطالها، تصور مثلا الحرمان العاطفي للبطل أوالبطلة، حاجة أيّهما للسعادة المفقودة، فقد الأمان والبحث عنه، وهي من خلال هذا تقدم قضايا مهمة في مثل هذه العلاقات الإنسانية بأمثل شكل يدعو إلى المثالية، ودعم القيم الاجتماعية والدينية، كما أنها تظهر الشطط الوجداني والعواطف الشاذة في بعض شخوصها للعبرة والمثل.
الرواية التاريخية:
هي رواية تستمد أحداثها من التاريخ، وأغلب شخصياتها واقعية منسوبة للأحداث التاريخية التي تسردها، وهي تكون رامزة لنقل واقع تاريخ، يعد إسقاطا مهما لحدث آني لكشف أسرار واقع معايش، تأريخا للماضي لإثبات صحته وحضوره في الأذهان وتوثيقاً له، وهي تعد تعليماً للأجيال الحديثة لمعرفة حقبة معينة من الزمن، والإطلاع على أحداثها، وشخصياتها البارزة،وهي لا تختلف في تكنيكها وكتاباتها عن أي نوع من أنواع الروايات.
الرواية السياسية :
هي تنقل الواقع السياسي مصحوبا بوجهة نظر، وهذا النوع من الروايات في أغلبه يكون توعية للمواطن، يكشف من بين أحداثه حال البلد والنظام السياسي المتبع مثل: القاهرة 30 ـ الكرنك ـ رجل في بيتي وغيرها الكثير، وهذا النوع لابد وأن يلتزم بالواقعية أمينا في نقل الأحداث، أما وجهة النظر أو التوجيه يكون مشتقا من الأحداث.
الرواية الوطنية:
تدور أحداثها حول الوطن، وترسخ مفاهيم للانتماء والتضحية من أجل الوطن، وتعلي شأنه وقيمته لدى المتلقي من خلال أحداث لبطل أو أشخاص مثلا يحاربون مستعمرا غاشماً، أو شخص فرض عليه الإبعاد والتهجير أو النفي من قبل مستعمر أو نظام حاكم، أو شخص يقاسي ويلات الغربة والابتعاد عن أرض الوطن.
هي تصوّرالمشاعر الوجدانية نحو الوطن، وتجسّده حيا ملموسا.
الرواية البوليسية:
هي من الروايات التي تهتم بعنصر التشويق من خلال أحداثها، تصور تخطيطا لأداء جريمة من خلال شخص أو أشخاص، ويقوم الصراع بينه وبين رجال الشرطة، وتبين مقدار الدهاء والقدرات لكل فريق.
وهي تهتم بتجسيد الصراع بين الخير والشر، وتظهر جوانب الخير بطرق متعددة، وعلى الكفة الأخرى تظهر جوانب الشر بطرق أيضا متعددة، لتلقي نصائح الفضيلة في نفوس القرّاء، وأيضا تجعل من هو على خطأ ويسير في طريق الشر والشيطان أن يقف مع نفسه لحسابها حتى يفيق إلى رشده، ويستحضر عواقب الشر من عقاب في الحياة الدنيا، وساعة الحساب عندما يقابل رب العالمين.
رواية الخيال العلمي:
هذا النوع يشطح بالخيال بشكل يجعل المتلقي يعتمد على عقله ويبحث في العلوم المختلفة قاصدا الابتكار والاختراع، وهذا من خلال تطوير لشيء علمي بشكل خرافي، قد يبعد فيه عن مقتضيات الواقع، أو يذهب بنا لمدينة خيالية بها أشياء خيالية، ويعطي قدرات وصفات للإنسان والحيوان والجمادات أيضا، ومهارات لم تكن موجودة بحال من الأحوال في عالم الواقع.
أي أنه يخلق خلقا جديدا مغايرا عن الواقع أو أنه ليس موجودا بحال من الأحوال في عالم الواقع، أو يستحيل وجوده، أو على العقل تصوره، وبه عنصر التشويق والانجذاب في أحداثه.
نشأة الرواية:
لابد أن نعرف أن أول ظهور للرواية العربية كان في العصر العباسي، فبالبحث نجد أن ابن المقفع ألف كتاب كليلة ودمنة، والجاحظ عمل كتاب البخلاء، والسيرة لابن هشام، وكتاب ألف ليلة وليلة، ولكن لم تأخذ هذه الكتب شكل الرواية المعروفة بشكلها الأدبي التكنيكي المضبوط، إذ أنه لم يعرف بعد جنس أدبي يسمى بالرواية، وظهرت الرواية بشكلها الأدبي المعروف في أوربا في القرن التاسع عشر،على أيدي مثقفين وكتاب عرب سافروا إلى أوربا وتعلموا فيها ونقلوا عن الغرب، وبدأت المحاولات أول ما بدأت عن طريق الترجمة من خلال محاولات رفاعة رافع الطهطاوي، وأول ما ترجم ترجم رواية “فينيلون” مغامرات تليماك، وترجم الكثير، ولحقوه وحذا البعض حذوه ممن عاش في أوروبا من الكتاب والمفكرين، ثم أخذت الرواية تتطور بشكلها الأدبي بأقلام عربية آخذة من أوربا التي تطورت فيها الرواية بشكل أدبي فني له أصوله وتكنيكه، وكانت محاولات العرب الأولى أشبه بالتعريب والاقتباس منها للتأليف الخالص كتجربة حرة حتى ظهرت رواية “زينب” لمحمد حسين هيكل “1914م” عن الريف المصري، وعالجت مشاكله السائدة آنذاك، وهي تعتبر أول رواية بشكلها الفني الصحيح حتى بعد الحرب العالمية الأولى، ونهضت الرواية بشكل فني لافت للنظر ونال الإعجاب، وتهافت القراء على هذا النوع من الأدب في بداية الثلاثينيات بعد أن تبلورت في الشكل والمضمون، وأصبح لها أركانها وخصائصها وعناصرها الفنية المعروفة على أيدي كتاب تأثروا بالثقافة الغربية أمثال المازني، وتيمور، وطه حسين، وعيسى عبيد، وتوفيق الحكيم وغيرهم، وفي بداية الخمسينات أخذت الرواية العربية اهتماما كبيرا من النقاد والنظر في أصولها وتكنيكها الفني، وبدأ فريق كبير من النقاد في البحث فيها والحديث عنها في الصحف والمجلات،وقفزت قفزة هائلة على أيدي كتاب موهوبين في هذه الحقبة أمثال: عبد الحميد جودة السحار، ويوسف السباعي، ويحيي حقي، وإحسان عبد القدوس، ونجيب محفوظ الذي نبغ في كتابتها ونال شهرة بها وذاع سيطه حتى تهافت عليه مخرجو السينما والمنتجون لتحويل أعماله لأفلام سينمائية، وعرفه الجمهور العربي البسيط الذي لا يجيد القراءة والكتابة من خلال زقاق المدق وبين القصرين وقصر الشوق وخان الخليلي والسكرية، والكثير من مؤلفاته حتى ساعدت شهرته على إبداع جديد وتنوع كتابي ملحوظ في فن الرواية، وظهرت أعمال فارقة له في مجال الرواية في مدخل الستينيات، تحكي المجتمع المصري والعربي وتتكلم عن مشاكله وتجسد واقعا جديدا مثل: ثرثرة فوق النيل ـ اللص والكلاب ـ الشحاذ ـ الطريق ـ السمان والخريف ـ القاهرة 30، وبدأت الرواية العربية تأخذ ملامح الشرق وتتحدث عن معاناة الإنسان العربي ومشاكله حتى هزيمة 67 ومدى التأثر بالهزيمة وحدوث الشرخ في نفسية المواطن العربي، والتغيّر في المفاهيم والرؤى، أخذت الرواية تتأثر بذلك، وتتغير في أساليبها ، وطرق تناولها للموضوعات، وتغير الحدث من حيث الشكل والمضمون في الرواية العربية، من حيث الحبكة، والبطل المؤثر الرامز الفاعل الإيجابي، وأصبحت هناك ثورة على كل المعتقدات والموروث آنذاك في كل المجالات وكان للمؤلف الروائي باع كبير في ترويج فكر بنائي جديد من خلال رواياته، وكان إحسان عبد القدوس، والسباعي، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ إنتاج مميز له شأن يحاكي الواقع العربي وما يهدف ‘له المواطن، ومحاولة لاستخراج إمكانياته بشكل إيجابي فاعل وظهرت أنماط للرواية جديدة بهذا الشكل تكون أقرب لفكر المواطن العربي، وتغيرت الرواية التقليدية إلى الرواية الحداثية على أيدي جماعة أطلقوا على أنفسهم الحداثيين منهم حنا مينا، وجمال الغيطاني، ويوسف القعيد، وصنع الله إبراهيم، وإميل حبيبي، وإدوار الخراط، ووالطيب صالح، وبهاء طاهر، ووالطاهر الوطار، وعبد الرحمن منيف، والكثير من كتاب الوطن العربي الذين تأثروا بهذه المرحلة وشكلوا اتجاها معاصرا حداثيا جديدا.
وركز الحداثيون على الثورة على المفاهيم التقليدية في الرواية، وجددوا الخطاب الروائي، وانقلبوا على التقليدية والكلاسيكية والرومانسية في حبكة الرواية وكانت أكثر تركيبا فنيا في مختلف عناصرها من حبكة وشخوص وتوثيق معلوماتي تاريخي، وتداخلت في تكنيكها وأساليبها مع العالم الخيالي والواقعي بشكل مرموز، وأصبح لها كيانٌ عضويٌ واضحُ المعالم مؤثر في الآخر ويتأثر به، وأصبح النص الروائي عالما جديدا مفتوحا على مصراعيه من مختلف الأوجه، وفتحت تعدد الرؤي على زوايا النص لدي المتلقي والناقد، وساهمت إسهاما جديدا في خلق النظريات النقدية الحديثة التي تستوعب النص الروائي المفتوح، وتعدد الرؤى والقراءات فيه، وجاء العصر الحديث بعد نيل نجيب محفوظ جائزة نوبل في الأدب، قفزت الرواية العربية قفزة هائلة مرة أخرى، وجاءنا إنتاج متميز، في كل ألوان المدارس والمذاهب الأدبية، وعادت الرواية مرة أخرى تحتل الأهمية الأولى على مستوى الأجناس الأدبية، لأنها استطاعت أن تكتب في كل النواحي والمجالات الحياتية والإنسانية من خلال كل الرؤى، ومن خلال كل المذاهب النقدية، والمدارس الأدبية، وأعادت معها المدرسة الرمزية المتفتحة، والمدرسة الرومانسية بشجنها الطبيعي المفسر لأحاسيس الإنسان الحديث وتطوره، وعادت الواقعية المفكرة التي تؤدي إلى الفعل والتحفيز الإيجابي للفرد والمجتمع، وأنتجت أيضا قوالب جديدة، وأعادت تفسير التاريخ بشكل جديد حديث يركز على العبرة الرمزية من الواقعي الذي حدث، وإقامة المقارنات المنطقية المحفزة للخلاص الإنساني من هموم القهر والاستعباد والإستعمار.
أري أن الرواية العربية ستعود بقوة، وهي النص الأدبي السائد على مر الزمان، مهما اختلف الإيقاع الإنساني السريع، سيجد الإنسان الحديث فيها بغيته، ولذته، وهدفه المنشود، وامتلاء حصيلتة الثقافية والفكرية من الرواية (النص الأدبي الحديث وتأثيره الإيجابي على المجتمع ـ مختـار أمـين 2014).
تحياتي لكم، وبالتوفيق للجميع، وإلى اللقاء في المحاضرة القادمة..

ملحمة الموت.. بين قدر مرسوم و قدر متخيل.. قراءة في نصّ (مواكب الموتى) للأديب/د. حمد حاجي بقلم الناقدة/ رجاء بقالي

(النـصّ)

مواكب الموتى
صمَّم الربُّ على باب البحر تلَّة مقدسة
يرجع إليها المتوفُّون ،مغاور من هواء ، وفقاقيع من ماء..
أنا وأنتِ أوَّل الرَّاجعين إليها ..
ينزل بنا ملك يشدُّنا بسلاسل وأصفاد،
ومعهم جنود يمسكون قضبان الرياحين واصول الزعفران،
يلملمون ريشات خضر
الكلُّ يرشُّنا بأوراق وزهور
ويفتح سلسلة وصفدا ، ويقوم آخرون صفين لخروجنا …
يا ويح نفسي، من هرب بمفاتيح الماء؟
التفتتُ لم أجدك، ..!

(القـراءة)

احتفالية الموت …
او لنقل ملحمة الموت ..
بين قدر مرسوم و قدر متخيل ضمن وعي تخييلي متأرجح بين الحقيقة و الوهم يتساءل البطل الحالم بالعودة من رحلة الموت عن لغز الوجود
و لعبته:
الحياة / الموت ..

احتفالية تعانق فيها الموت الحياة، و تتلاشى الحدود بين الواقع و ما وراءه، تعود مواكب الموتى بقرار فوقي و تحت حراسة ملك يشدهم بسلاسل و أصفاد..
بينما جنود ممسكون برياحين و اصول زعفران يلملمون ريشات خضرا
يمضي البطل و حبيبته في مقدمة الموكب تشيعهما زهور و أوراق و اياد رحيمة تفك الأغلال والأصفاد..
إلى هنا تبدو رحلة الإفلات من قدرية الموت قرارا إلهيا جاد به الحلم في لحظة نادرة من لحظات غفوة الوعي..
حلم الذات المكبلة بقدرية الوجود بعبور الجسر بين الموت و الحياة، عودة من الموت إلى الحياة وسط طقوس احتفالية مهيبة تفوح بطيوب الجنان و تصدح بتراتيل البعث و قدسيته..

و بدون مقدمات معلنة تنقلب العودة إلى الحياة عودة إلى الموت..
فينتهي الحلم بالنجاة من القدر إلى السقوط في القدر..
لا مفر و تعود مواكب الموتى إلى الماء كما بعثت مغاور من هواء و فقاقيع من ماء..

أية طقوس احتفالية هذه بعالم غيبي لا نملك عنه سوى رصيد متخيل من ثوابت الدين؟
فهل نملك أن نتحدث عن غرائبية لما هو غريب؟
لو جاز الأمر لانقلب الغريب مألوفا، و لكشفت الحجب و رأينا ما وراء المرئي المسموع ماثلا أمامنا في جلاء..
تساؤل مشروع يقتضيه فضاء و زمن النص ويفرضه الموضوع: الموت..
فما هي معاييرنا لتحديد الغيبي غير المادي الواقعي؟
ما هي طريقنا لمعرفة الموت غير معرفتنا بالحياة؟
كيف نعيش الموت إن لم نكن عشنا الحياة؟!
تلك هي إشكالية هذا النص برأيي، هذا التداخل و التماهي بين الموت و الحياة في تبادل للأدوار، حيث العائدين من الموت إلى الحياة و بقرار إلهي هو كالعفو على أسرى الموت الغيبي القدري، في هذا الموكب يعود الموتى. من الموت مكبلين إلى الدنيا التي سيعيدون فيها للحظات أدوار البطولة والمحبة أي قرار هذا هذا بإعادة الموتى هؤلاء إلى الحياة؟
إنه أولا حلم الإنسان بالخلود و خوفه من العدم يقوده إلى تمثل البعث كعودة أخرى لحياة خالدة
حلم تصنعه الذات المضطربة وهي تصارع بين المنسي في اللاوعي من مكبوتات و بين الواقع المحاصر للوعي ما يجعله وعيا شقيا..
الحلم بالخلود هو أيضا نتاج وعي جماعي يجد أساسه في كل الديانات و العقائد الوضعية والسماوية، حيث أحيطت الموت دوما بهالة طقوسية احتفالية استعدادا لبعث جديد، لحياة ما بعد الموت ..
في هذا النص، البطل الحقيقي هو خيال المؤلف الذي أثت لفضاء و زمان لعبة الوجود الكبرى: الحياة/ الموت هما بالضرورة غير المكان و لا الزمان بالمفهوم الفيزيائي ليمر الحدث، الموكب من الغيب اللامتعين زمانا ومكانا، إلى واقع آيل إلى التلاشي في الماء ليتحلل الواقع المتعين المتخيل قبل أن يتعين، و يلتف المكان و الزمان على نفسيهما ليعيدا الدورة ذاتها..
فلا رجوع إلى الحياة بعد الموت، الماء ابتلع الأحياء و الدور على الباقين و لا سبيل إلى شيء، لا مفتاح ما المغزى من كل هذا؟
هل القرار الفوقي كان مزحة أم سخرية؟
في كلتا الحالتين سيكون سادية..
هنا نرجع إلى البداية:
القرار الفوقي ربما كان تحديا، فهذا الذي يجر هذا الموكب إلى الدنيا؟ هؤلاء الموتى مكبلين بالأصفاد؟
أصفاد/ زهور و رياحين
مفارقة ستنمحي فورا و بفجائية صادمة لتكون العودة إلى الجياة عودة إلى الموت، الغرق في التفاف للحياة علن نفسها موتا.
إنها الدائرة المتاهة تدور فيها مواكب الموتى في الحياة و الموت، فلا أحياء في الدنيا إلى درجة أن الموتى يساقون في مواكب الى الحياة مرغمين ، مكبلين بالأصفاد لينتهي المشهد بالاسنسلام إلى قرار البحر ..

إن المفارقة التي بني عليها النص ما هي إلا تمويه لوعي السارد الشقي و حلمه بالحياة فرارا من قدرية مزدوجة: قدرية غيبية و قدرية واقعية بشرية نساق فيها مكبلين من موت إلى موت، نجتر عبء العبودية ..
لا وهم في النص، فالخيال صنع الحقيقة من تراب القبور و لا وجود لعالمين، هو عالم واحد: موت في الحياة و موت في الموت قد يكون يحمل بذرة من حياة..
فنحن لم نعشه بعد..
تحية تقدير لهذا النص المغري بتمويهاته و تحايلاته التي تنسجم و الإشكالية المطروحة:

الموت/ الحياة ….
و أنا هنا تعمدت البدء بالموت…

صيغ الأفعال وغرائبيّة المشاهد في نصّ “مواكب الموتى” للأديب/د. حمد حاجي انموذجا.. قراءة الأستاذة/ زهرة خصخوصي 

انتفاء حدود الممكن في قصّ الدكتور حمد حاجي
__________________________
صيغ الأفعال وغرائبيّة المشاهد في نصّ “مواكب الموتى” للأديب/د. حمد حاجي انموذجا.. قراءة الأستاذة/ زهرة خصخوصي 

(النّصّ)

مواكب الموتى مواكب الموتى
صمَّم الربُّ على باب البحر تلَّة مقدسة
يرجع إليها المتوفُّون ،مغاور من هواء ، وفقاقيع من ماء..
أنا وأنتِ أوَّل الرَّاجعين إليها ..
ينزل بنا ملك يشدُّنا بسلاسل وأصفاد،
ومعهم جنود يمسكون قضبان الرياحين واصول الزعفران،
يلملمون ريشات خضر
الكلُّ يرشُّنا بأوراق وزهور
ويفتح سلسلة وصفدا ، ويقوم آخرون صفين لخروجنا …
يا ويح نفسي، من هرب بمفاتيح الماء؟
التفتتُ لم أجدك، ..!

(القـراءة)
يزخر الأدب العربيّ بالنّصوص الممتطية صهوة الغرائبيّة لتحقيق مبدعيها غاياتهم التي تاقوا إليها من خلال فنّ القصّ لديهم.. ولهذا ما عاد القارىء يشهق دهشة أمام تجنيح خيال القاصّ خارج حدود المألوف من الأحداث والمشاهد..ولكنّ بعض النّصوص لاتزال تُثير فينا تلك الشّهقة ونحن نصطدم بتوخي أصحابها هذا النّهج اندهاشا أمام إبداعهم في توظيف عناصر القصّ لبناء غرائبيّة المشاهد متجاوزين الحدث إلى أساليب سرده..ولعلّنا نجد في نصوص الدّكتور حمد خير برهان على ذلك. وسأعتمد هذا النّصّ المعروض المعنون ب”مواكب الموتى”منطلقا وسندا..
هذا النّصّ قائم على الثّنائيّات:
_ثنائيّة الربّ والعبد
_ثنائيّة الأنا والأنت
_ثنائيّة العقاب والثّواب
_ثنائيّة الفرح والحزن
_ثنائيّة صيغة الماضي وصيغة الحاضر تصريفا للأفعال
وكلّ هذه الثّنائيّات مجتمعة ترسم لنا صورة ثنائيّة الواقع والحلم يكابدها الكاتب ويشقى بتلك المكابدة..
نجد في هذا النّصّ تخيّلا لعالم دنيويّ فردوسيّ تتمّ فيه عودة المتوفّين يتوفّر فيه الهواء وفقاقيع الماء عنصرين للحياة وملك ورياحين وزعفران وريشات خضر.. فعن أيّ وفاة يتحدّث الكاتب؟ أبعد الوفاة نعود إلى الأرض أم نصّعّد إلى رحاب السّماء..؟ أنُبعث مكبّلين بالأصفاد ثمّ نُعتق ويُغدق علينا النّعيم؟ أتقام مراسم الاحتفال هناك لعاشقين يجتمعان..؟
لئن جنّح أبو العلاء المعرّي ببطله ابن القارح نحو البعث ليمنّ عليه بالفوز بالجنّة المذكورة صفاتها في القرآن صابغا سلوكاته بطباعه الدّنيويّة تنكيلا به وانتقاما منه ومن أمثاله نصّيّا فإنّ الدّكتورفي نصّه هذا اكتفى بعالم أرضيّ فيه بعض فوح الجنان وملك واحد يتولّى أمر إنزاله والحبيبة من شرانق الموت إلى أكمام الحياة.. مكبّلين ينزلان إلى بقعة من الأرض تقبع على باب البحر . نزول يذكّر بقصّة نزول سيّدنا آدم وأمّنا حوّاء معاقبين بسبب إصغائهما لغواية إبليس.. نزول يتحوّل فيه مشهد الأسر والعقاب(يشدّنا بسلاسل وأصفاد) إلى مشهد احتفاليّ (الكل يرشّنا بأوراق وزهور، يفتح سلسلة وصفدا، ويقوم آخرون صفّين لخروجنا) لينتهي بالفقد والغرق(يا ويح نفسي من هرب بمفاتيح الماء..؟ التفتّ لم أجدك) ليكمن في المشهد الأخير حدث التّنكيل.. أهو الكاتب ينكّل بذاته ساردا شخصيّة في نصّه أم يرسم صورة القدر المنكّل به وبالحبيبة؟؟
أجدني ___ والنّصّ ينبني على زمنين مختلفين يحضن أحدهما الآخر هما زمنا الماضي تبرزه الأفعال المصرّفة في صيغة الماضي (صمّم/ هرب/ التفتّ)يستهلّ به الكاتب نصّه ويختمه به ضامّا بين جنبيه زمن الحاضر متجلّيا من خلال صيغة المضارع المرفوع التي تصرّفت وفقها الأفعال (يرجع/ينزل/ يمسكون/ يلملمون/يرشّ/يفتح/ يقوم/) ويمتدّ على أكبر مساحة من جسد الحكاية ____ أقف على أنّ القصّة تتأرجح بين الواقع والحلم.. والواقع واقعان أوّلهما حياة كالموت انقضت وقدمثّلت حالة عشق تلتها الواقع الجديد الذي رآه السّارد بعثا ودفق حياة.. والحلم حلمان حلم موضوعيّ أساسه توق لوصال وحلم متخيّل غرائبيّ جوهره نزعة إلى التّجنيح خارج حدود ذلك الوصال الذي لا يغني ولا يسمن من جوع.. وما وجد الكاتب فضاء أرحب للفرار من قيود الواقع ذاك إلى أفق حلمه غير الغرائبيّة منهجا به يرسم ذروة إرضاء القدر لروحه المتلظّية عشقا ونوى مكانيّا عن الحبيبة..
ورغم خفق جناح الوله نحو ذرى الحلم يكتشف الكاتب محدوديّة الأمل أمام ضوابط الواقع فيقذف بنا معه في سحيق الألم حيث يفقد الحبيبة وأبواب البحر تنفتح أمام جحافل الماء المفلتة من القيود تُغرقه فيتغرغر بلوعات: لوعة التيه في يمّ الانفصال ولوعة الفقد المادّيّ واقعا وحلما ولوعة العودة إلى نقطة الصّفرالتي حاول الفرار منها، يعود رازحا تحت كلكل يزداد ثقلا كلّما غاصت خطاه في درب الصّبّ أكثر..
نصّ مواكب الموت للدّكتور حمد حاجي مثّل موكب لغة وموكب غرائبيّة وموكب ثنائيّات وموكب حلم وموكب أمل تتعاضد لترسم حالة مكابدة وجدانيّة ضاق بها عالم القصّ الواقعيّ فحلّقت في أفق المخيال والمتخيّل عساها تظفر بالرّسم الأمثل لها وعسانا نحن القرّاء نلمس بعض شرارات احتراقاته فنشاركه الحمل لعلّ وطأته تخفّ عنه قليلا.. تلك رحابة القريحة وجزالة الضّاد ودفق الإبداع تسعفه إذ بتقفّي الخطو نحو مقاصده تُشقينا ونظلّ نردّد: أترانا إلى سويّ القول فيها اهتدينا..؟

الناقد/ محسن الطوخي في قراءة نقدية لـ نص (وفاء) للأديبة/ زهرة خصخوصي

وفاء
انتظرت هذه اللّيلة أمدا..كم طال النّوى..!
زعزع الشّوق عظامي المتناثرة بعضها ينكر بعضا. أطلّ البدر .طفقت أعدّ شهقاته. بيني وبين الغرغرة الأخيرة خفقتان وخفقة..
لملمت سرابيل الحنين وانسللت أسبح في الفضاء خيطا من نور تخطّه رياح الوله..
أنا لا أخطىء الطّريق إلى الدّار.. سحبتني إليها نداءات الأضواء المزهرة وشدو الحديقة المثقلة بمذاقات الحياة..
زيتونتنا التي غرسناها ذات وفادة البكر تستقبلني بتراتيل الفقد وأهازيج الحلول.. يسبق نبضي خطواتي.. أصغي.. لا صوت.
أطلّ من كوّة المدخنة.. تغرق ذاكرتي في عبق أصوات ألفتها دهرا.. جدّتي تروي حكايا السّندباد، وأمّي تُسرّ لأبي بعشقها لفستان بنت السّلطان فيلج بلاطات الرّوح بحثا عن صولجان ، وضحكاته تتحسّس طريقها إلى قلاع الأفق بلا صدى خلسة عن عيني جدّتي.. وأنا هناك ..بين المدفأة وحضن أمّي، أتمدّد، أعتلي صهوة مهر الحلم..وأنت.. هناك.. في غدي تتربّعين..
تصمّ سمعي تأوّهات المدخنة تشرق بالرّماد. يلفحني هواء بارد يعشّش في الدّار. لا أصوات…
أستلّ جسدي الهلاميّ من المدخنة.. عاريا أجول في بيتنا، بيت والدي الذي ورثه عن جدّي الذي لا أفهم كيف يبنيه وسكنه المقبرة.. أدفع باب غرفتنا.. تغمز لي تلك الوسادة التي تشاطرنا أنفاسها. أتهاوى صبّا..
أتمدّد على فراشنا. أمدّ ذراعي. أتذكرين حبيبتي المخاتلة..؟ قبل الكرى تتوسّدينها وحين أستفيق صباحا أُلفيك تتكوّرين في حضني كعصفور أجفله قرّ.. تندّ عني آهات بشذى الصّبر.
أنتظرك.. أسمع صرير الباب.. ينتفض وريدي.. تعلو جلبة الصّغار .. تصرخين زاجرة كما ألفتك.. يتناثرون إلى غرفهم يردّدون حكايا عيد يهلّ ولا أتذوّق فيه منك شهد الابتسامة..
يتناهى إليّ صوت تنهّداتك.. أراك تلجين.. ترمين الفراش بنظرات متعبة.. أتراك تشتمّين فيه رسائل وجدي التي نثرتها منذ حين..؟ على ذات الوسادة ترتمين.. تضجّين بالأصوات القادمة من محطّات الغياب.. ترمين الوسادة.
يرنّ هاتفك. تستمعين ، نستمع إلى همسات وهمهمات .. أرتجف.. لا تنبسين بحرف.. يعلو الصّوت :” متى ترفقين..؟” تغلقين الهاتف. تعزلينه عن الشّبكة. تطرحك الزّفرات.. تردّدين:” سنديانتي لا ينضب فيؤها في الوريد..” أبتسم.
تعيدين الوسادة.. فوق ذراعي تضعينها. تنشغلين بأمر. أعدّلها.. تستلقين.. أشعر بدمعة حارّة تنسكب على ذراعي.. أضمّك.. أثمل بعطر الوصال..
يدقّ اللّيل أجراس الرّحيل.. أنسحب كرها.. أراك ترتعدين.. تتكوّرين تحت اللّحاف.. تتأفّفين :”من أين هبّ هذا الصّقيع..؟”أقبّل العمر فيك وأرحل.
أشرق بدعوات ضمّة في النّعيم.
(القــراءة)
ماأجملك صديقتي ام أحمد، نص بارع، يتألق بلغة نورانية شفافة، ولو لم يحرز النص إلا براعة اللغة لكفته، والواقع أني كما استمتعت بجمال وتألق اللغة، فقد استمتعت أيضاً بالمداخلات التى احتفت بالنص ومنحته مايستحقه، وأكاد أجزم أن جمال لغتك قد حفزت القرائح على إنتاج مداخلات تألق بعضها بلغة أحسبها ابداع على الإبداع . وقد أفاض الأصدقاء فى تناول براعة اللغة حتى لم يبق لي شىء يقال بشأنها إلا أن أضم صوتي لأصوات المشيدين بمقدرتك، وبراعتك ، وثراء قاموسك اللغوي. إلا أنى سأتناول النص من حيث هو قصة قصيرة متكاملة الأركان.
يدور السرد على لسان روح مؤرقة، يضنيها الحنين إلى البيت والزوجة. و ويدور السرد على لسان تلك الروح مخاطباً الزوجة التي رافقته رحلة العمر، وكأنما قد وعد بليلة يسرى به فيها إلى البيت الذي بناه جده، وورثه هو عن أبيه فأنشأ حياة لا تزال ذكراها ندية. وكأنما كانت إطلالة البدر هي البشير ببدء الرحلة، فإذا بروحه تسعى كخيط من نور تستقبله الزيتونة التي غرسها مع رفيقة عمره يوم ولد بكريهما، يغرق في ذكريات الماضي البعيد إذ يطل من المدخنة فيتذكر حكايات الجدة، وملاطفات أبيه وركنه الأثير بين المدفأة وحضن أمه، يلج البيت من المدفأة شأن الأرواح لا توقفهم موانع، فيتجول فى البيت الصامت فتتمحور أفكاره المتداعية حول الزوجة ما أن يلج الغرفة التي ضمتهما معاً. وذلك المقطع الشفيف من القصة يلخص الصراع الباطني الذى يدرك القارىء أنه ربما يكون وراء الرغبة العارمة فى زيارة المكان، فروح الزوج العاشق تترقب سلوك الزوجة الذى يلخصه الهاتف الذي أتاها على الجوال فيدرك عفاف الزوج، ويبتسم مطمئنا لإذ يسمع نجواها بعد أن عزلت الهاتف عن الشبكة ” سنديانتي لا ينضب فيؤها في الوريد..” يدرك وفاء الزوجة. ذلك الصراع الذاتي المضمر هو مامنح النص قوامه القصصي إلى جانب تألق اللغة وشاعريتها. والخاتمة تتوج التجربة إذ ترحل الروح بعد أن يدق الليل أجراس الرحيل، وهي تشرق بأمنية أن يلتقى بالزوجة فى النعيم أملا فى عناق حقيقي. نص بارع استوفي مقومات السرد القصصي، وجماليات اللغة، تحياتي للمبدعة المتألقة أم أحمد.

الناقدة/ رجاء بقالي في قراءة نقدية.. غنائية شعرية تحتفي بالإحساس في أرقى و أقسى تجلياته.. لنص (وفاء) للأديبة/ زهرة خصخوصي

سمفونية تعزفها الكلمات رقصا على أنغام
الفراق/ اللقاء/ الفراق.. توقا إلى لقاء الخلود
غنائية شعرية تحتفي بالإحساس في أرقى و أقسى تجلياته
الإحساس بالفقد و الحنين إلى اللقاء.

وفاء
انتظرت هذه اللّيلة أمدا..كم طال النّوى..!
زعزع الشّوق عظامي المتناثرة بعضها ينكر بعضا . أطلّ البدر .طفقت أعدّ شهقاته. بيني وبين الغرغرة الأخيرة خفقتان وخفقة..
لملمت سرابيل الحنين وانسللت أسبح في الفضاء خيطا من نور تخطّه رياح الوله..
أنا لا أخطىء الطّريق إلى الدّار.. سحبتني إليها نداءات الأضواء المزهرة وشدو الحديقة المثقلة بمذاقات الحياة..
زيتونتنا التي غرسناها ذات وفادة البكر تستقبلني بتراتيل الفقد وأهازيج الحلول.. يسبق نبضي خطواتي.. أصغي.. لا صوت.
أطلّ من كوّة المدخنة.. تغرق ذاكرتي في عبق أصوات ألفتها دهرا..جدّتي تروي حكايا السّندباد، وأمّي تُسرّ لأبي بعشقها لفستان بنت السّلطان فيلج بلاطات الرّوح بحثا عن صولجان، وضحكاته تتحسّس طريقها إلى قلاع الأفق بلا صدى خلسة عن عيني جدّتي.. وأنا هناك.. بين المدفأة وحضن أمّي، أتمدّد، أعتلي صهوة مهر الحلم.. وأنت.. هناك.. في غدي تتربّعين..
تصمّ سمعي تأوّهات المدخنة تشرق بالرّماد. يلفحني هواء بارد يعشّش في الدّار. لا أصوات…
أستلّ جسدي الهلاميّ من المدخنة.. عاريا أجول في بيتنا، بيت والدي الذي ورثه عن جدّي الذي لا أفهم كيف يبنيه وسكنه المقبرة.. أدفع باب غرفتنا.. تغمز لي تلك الوسادة التي تشاطرنا أنفاسها. أتهاوى صبّا..
أتمدّد على فراشنا. أمدّ ذراعي. أتذكرين حبيبتي المخاتلة..؟ قبل الكرى تتوسّدينها وحين أستفيق صباحا أُلفيك تتكوّرين في حضني كعصفور أجفله قرّ..تندّ عني آهات بشذى الصّبر.
أنتظرك..أسمع صرير الباب..ينتفض وريدي..تعلو جلبة الصّغار ..تصرخين زاجرة كما ألفتك..يتناثرون إلى غرفهم يردّدون حكايا عيد يهلّ ولا أتذوّق فيه منك شهد الابتسامة..
يتناهى إليّ صوت تنهّداتك..أراك تلجين..ترمين الفراش بنظرات متعبة..أتراك تشتمّين فيه رسائل وجدي التي نثرتها منذ حين..؟ على ذات الوسادة ترتمين..تضجّين بالأصوات القادمة من محطّات الغياب..ترمين الوسادة.
يرنّ هاتفك. تستمعين، نستمع إلى همسات وهمهمات.. أرتجف.. لا تنبسين بحرف..ي علو الصّوت:” متى ترفقين..؟” تغلقين الهاتف. تعزلينه عن الشّبكة. تطرحك الزّفرات..تردّدين:” سنديانتي لا ينضب فيؤها في الوريد..” أبتسم.
تعيدين الوسادة.. فوق ذراعي تضعينها. تنشغلين بأمر. أعدّلها ..تستلقين.. أشعر بدمعة حارّة تنسكب على ذراعي.. أضمّك.. أثمل بعطر الوصال..
يدقّ اللّيل أجراس الرّحيل.. أنسحب كرها.. أراك ترتعدين.. تتكوّرين تحت اللّحاف.. تتأفّفين:”من أين هبّ هذا الصّقيع..؟” أقبّل العمر فيك وأرحل.
أشرق بدعوات ضمّة في النّعيم.

( القــراءة)

حين توظف الكلمة لخدمة الإحساس ، فلابد أن تلبس من البيان أجمل حلله..

إحساس الفقد و قد تضخم في وجدان البطلة انتظارا وحنينا فتمتد الليلة أمدا لا يقاس بالساعة بل يتمدد في اللانهائي عند الانتظار .. انتظار اللقاء بمن نحب..
كيف تخطئ الطريق إليها و نداءات الأضواء المزهرة و شدو الحديقة المثقلة بمذاقات الحياة تفسح إليها الطريق؟
كل من في الدار وحولها عند الموعد. ها هي الزيتونة التي غرسوها تستقبلها بتراتيل الفقد و أهازيج الحلول في لحظة اتحاد و إشراق صوفي بالغ الدلالة و النقاء، لكنها و قد تماهت مع الطبيعة نورا لا تدخل جسدا الدار، بل تتسرب خيطا نورانيا من كوة المدخنة، تتسلل كما في حكايا الخيال الطفولية الآسرة و صوت جدتها ينساب في ذاكرتها التي سكنها دهرا وسكنت من خلاله حكايا السندباد التي هي الآن تتمثل أدوارها و تتقمص دور المغامر الرحالة، لكن عبر كوة مدخنة و هي الخيط النوراني المكسر للزمان و المكان بمفهومها الفيزيائي الضيق..
هي تتسلل عبر كوة، أي تنزل، لكنها في الحقيقة تصعد روحا تحلق في سماء الإشراق و الحلول..
تواصل الرحلة روحا، نورا و تنزل إلى الدار..
محفوفة بذكرياتها التي تتوهج عند لحظات جلوسها بين المدفأة و حضن الأم تتمدد في سماء الحلم، سماء لن تغيب في أنوارها الأم و لا المكان..
عند هذه النقطة، يبدأ هذا التمدد بالانكماش
تصم سمعي تأوهات المدخنة تشرق بالرماد ..
يا لهذه الصورة البيانية البليغة، أو يشرق الرماد؟
نعم يشرق إذ يخمد.. لأن البطلة و هي تتسلل نزولا تصطدم بالرماد و الصقيع و الخواء هي في الحقيقة تصعد روحا في معراج إلى لقاء أكبر هي ذات الصور التي حملتها طيفا في حنين إلى اللقاء و تتهاوى صبا على الوسادة التي تشاطرتها و أمها و أحباب الدار..
لكن لليل كلمته الأخيرة.. لقد دق أجراس الرحيل…
في مفارقة جميلة جدا، حيث القمر نشر نوره لتنسحب من الكوة خفية، روحا و قد سبقتها روحها حدسا إلى تمثل هذه اللحظات الآسية.
النص في أفقه الدلالي وجماليته البيانية يتجازز مجرد الرصد لمشاعر فقد دنيوية حتى في أرقى أشكالها كفقد الأم أو الأب أو حتى الأرض يتجاززها إلى فقد شعاع النور الذي يطل علينا من كوة في الذات يدعونا إلى اللقاء بالجوهر بالحقيقة الإلهية حيث اللقاء الأبدي، حيث الضياء..
توق صوفي جليل إلى النور، كانت فيه البطلة روحا تناجي مفردات الطبيعة و الكون إلى حد التماهي معها..
نص يحيل على الأدب في بعده الإنساني و روحه الزنية بلغة بيانية سلسة لم يكن فيها تكلف و لا حشو و لا توظيف للبيان من أجل البيان فقط..
أحييك أيتها المبدعة المحلقة في سماء البيان و أنت تسيرين على نهج أمير القصة العربية الكريم الساعدي و بشهادة أستاذنا الكبير أحمد طنطاوي حفظه الله.
تحية تقدير الأستاذة الشاعرة الصديقة سعاد العتابي.

الناقد/ مختار أمين.. (فائدة تأليف النص القصصي قبل الشروع في الكتابة)قراءة في نص (البطل يغادر الرواية) للكاتب/ بدوي الدقادوسي

فائدة تأليف النص القصصي قبل الشروع في الكتابة:
_______________________________

قراءة نقدية في القصة القصيرة..“البطل يغادر الرواية”

للكاتب/ بدوي الدقادوسي.. بقلم/ الناقد مختار أمين.

(النـــص)
البطل يغادر الرواية
خمس سنوات، وأنا أتحمل السخرية من الجميع؛ حتى زوجتي رغم محاولتها إخفاء سخريتها؛ إلا أن بعض الكلمات كانت تغافلها وتخرج محطمة ما تبقى بداخلي من روح معنوية أحاول التمسك بها لإنهاء الرواية .
فور توصلي للقفلة التي ظللت شهرا أبحث عنها لتناسب الرواية؛ انطلقت لدار النشر؛ فأكد لي الناشر أن روايتي سترى النور فور سدادي لتكاليف الطبع.
بعت سيارتي ونقدت الناشر ما طلب؛ أهديت نسخا للنقاد وزملاء دراستي ودعوتهم لحضور حفل التوقيع؛ وبعد أن تناول النقاد العشاء الفاخر والمشروبات وعلبة الدخان الأجنبي تراصوا حولي على المنصة .
في زهو ألقيت الكلمة الافتتاحية متحدثا عن مدى العناء الذي كابدته حتى تخرج قصتي بحبكة مبتكرة ونهاية صادمة للقارئ وعطفت بحديثي على ما عالجته من قضايا وما قاسته شخوص روايتي وهي تهتف عيش ؛حرية ؛ عدالة اجتماعية .
فإذا بالبطل يخرج ممزقا أوراق الرواية معلنا انسحابه وسط ذهول الحاضرين وتوسلات مني باكية أن يبقى؛ ولكنه لم يأبه.
ذكّرته بيوم مرض زوجتي ورفضي أن أذهب معها للطبيب كي أبحث له عن لحظة تنوير يعرف من خلالها المجرم الحقيقي الذي قتل وسلب ونهب؛ وأن الطبيب استغل عريها أمامه وأخذ يتحسسها ممسكا صدرها ولما جاءتني باكية طالبة مني أن أثور لشرفي وعدتها أنك حين تعرف المجرم الحقيقي ستنتقم منه. مالك أيها البطل كيف تتخلى عن واجبك؟
ظل في طريقه غير عابئ ؛انبطحت على الأرض ألثم حذاءه وأنا أتشبث بطرف بنطاله وهو يسحب قدمه مني؛ ذكرته بابنتي التي يخلب جمالها لب كل من يراها وكيف عادت تنتفض حين تملصت بأعجوبة من المدرس الذئب الذي أغلق عليها الباب ليغتصبها ؛ فقلت لي أنك ستنتقم منه وأنك ستجتث كل الشريرن من فوق الأرض؛ وكأنه صنم لا يحس وكأنه بلا قلب؛ فقط عيون متحجرة تنظر نحوي ببلاهة .
لم يحتمل الراوي المشهد فندم أسيفا على كل كلمة رواها عن البطل؛ جمع كل ما رواه من أحداث ورحل تاركا أوراق روايتي بيضاء .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(كلمة خارج السياق)
هناك نوع من الكتاب يغيب إبداعهم عن قلمهم فترات كبيرة، حتى يطل علينا ببسمة منيرة كما الطفل الشغوف المرح من نافذة مخبئه ليدهش الجميع..
وهذا النوع من الكتاب من النوع المزاجي، الذي يتحكم فيه مزاجه حتى على نفسه، وعلى كل الأمور والأشخاص من حوله، غير أن هذا النوع دائما يعيش الحياة بفكر الكاتب، ولا يسقط عن رأسه ومخيلته لحظة حتى وهو نائم، ولكن مشكلته مع الطرح والورق ـ قليلا ما يطرح بمعنى أصح قليلا ما ينشرـ فقليلا ما يطاوعه القلم ليسقط أفكاره عليه بشكل يرضيه، وكثيرا ما ينشر أعمالا متشككا في جودتها، وأحيانا ينشر بعض كتاباته وهو غير راض عنها.. وبدوي الدقادوسي من هذا النوع..
لكن بحق إن جاد عليه مزاجه أبدع..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من أهم جماليات القصة القصيرة (الحدوتة)، وهذه (الحدوتة) نشأ جيل حديث من الكتاب يكرهها بشكل غير طبيعي، ويحاول بشتى الطرق طردها من القصة القصيرة وأنواعها ومشتقاتها الحديثة، ولا أفسر هذا إلآ لعجز في طبيعة المؤلف القابع بداخلهم، كالمراهق الهمجي المتعجل الذي يصعب عليك ترويضه وتعليمه، وهذا بلا شك يعد نقصا في الموهبة، ومنهم المصاب بالبارانويا الفكرية والكتابية يلتبسه المرض ويقنعه أن كل ما يكتبه إبداعا أدبيا لا يفهمه النقاد والمتخصصين، ويغالي في مرضه ويهبط عليه الوحي البارانوي، ويبلّغه الرسالة ويلزمه بتبليغها على العامة ليؤمنوا بها، فإذا به يخرج علينا بمهدي الجنس الأدبي المنتظر، أو المخلص، ويعلن أنه اكتشف جنسا أدبيا جديدا يتوافق مع مهاراته الكتابية المحدودة..
“اللهم لا تفتنا في آخر الزمان الأدبي، واهدي الضالين عن مسيرة الأدب والمدعين.. قولوا آمين”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اليوم سأكون مع هذا النص الممتع ناقدا تقليديا، ولا أجعل هذه القراءة درسا من الدروس التي أتحين فيها النصوص الأدبية لأكشف عن درس ما.. وهذا لشيء في نفسي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فكرة النص :
جاءت تشرح لنا الفرق بين القصاص المبدع، والعامة الذين لا يسقطون وجهات نظرهم فيما يدور من حولهم، وآنّات مجتمعهم بشكل أدبي ـ أي في عمل أدبي ـ له أسسه وقواعده..
فالكاتب أراد أن يسقط وجهة نظره على وضع عام يعيشه مجتمعه بعد ثورة اجتهدت أن تصل في آخر أيام مراحل نضجها، وتعلو بسقف طلباتها في الميادين التي تتزايد بالثوار لحظة بعد لحظة لتطيح بنظام مستبد، يحقق ما حرم منه هذا الشعب، بعدما نخر في جسد أخلاقياته الفساد بما يشبه مرض السرطان المدمر الذي انتشر في كل خليّة حيّة في جسده، فحاربه محاربة المريض اليائس المتعجل للموت، وأخرج صيحاته على مسبب المرض ونادى: “عيش، حرية، عدالة اجتماعية”، وبعد أن ينجح في ثورته بخطوات قليلة يكتشف أن كل ما نادى به لم يتحقق حتى وإن تغيرت الوجوه الحاكمة بعد الثورة التي اكتشف أيضا أنها سرقت منه “وعادت ريما لعادتها القديمة” والوجه الحاكم هو الوجه القديم وإن خدعتنا الملامح، وارتد الشعب إلى مرضه والفساد كما هو الحال القديم..
هذه هي الفكرة مجردة في غرفة من غرف عقله تنظر في مرآتها عارية، ويتلصصنا الاستخباراتي نرى تفاصيل جسدها العاري..

استمر في القراءة الناقد/ مختار أمين.. (فائدة تأليف النص القصصي قبل الشروع في الكتابة)قراءة في نص (البطل يغادر الرواية) للكاتب/ بدوي الدقادوسي

الناقد/ مختار أمين.. تفسير الشعور، وترجمة الأفكار لدى الأديب في النص الأدبي.. قراءة في نص (القادمة من بعيد) للكاتبة/ رجاء بقالي

تفسير الشعور، وترجمة الأفكار لدى الأديب في النص الأدبي:
تطبيق نص: (القادمة من بعــــيد) للأديبة رجاء بقالي بقلم الناقد/ مختار أمين
 
القــادمة من بعـــيد
على الربوة تجلس ، تشمخ ببصرها إلى القمم الشاحبة تولد من رحم السماء ، يلفها الصبح بإشراقة تنسحب على السفح و الوادي ، تلامس شجيرات الدفلى المتراصة على جانبيه ، كأنها الحارس الأمين لنهر الخلود ..
هو ذا الليل ينسحب برفق ، يسلم الكون لإطلالة نهار ، أخذ يحبو ، يشع ندى ماسيا لا يستثني حصية و لا وريقة ، و البلابل فرحة تشدو تباشير الولادة ..ِ
أية قوة حملتها إلى هذه القرية المنغرسة في جوف السماء ؟
كيف لم تتذكر قبل ليلة أمس أن لها عمة لم ترض بغير الجبل سكنا ، لم تغرها المدينة المنبطحة على السهل بترك الجبل و قساوته ، و عاشت سنينها تهش على معيزاتها ، تسابقها إلى الأخضر في الأعالي ؟
هي تعلم أن عمتها مدفونة هنا أو هناك ، لكنها تسمع وقع نعليها على السفح الحجري ، تحس عصاها تراقص القطيع ، تشم ذات عطر البراري الذي كان نفسها ، وتشرف على هذا النهر الذي كان مغتسلها ..
ها هو الصبح يزحف ، يكشف عن الدور الطينية المكسوة بياضا ، كأنها حبات لؤلؤ تسللت من ظلمة الليل وسط أطواق من الكروم الشوكية بلون المرجان القاني ..
بعد قليل ، ستتبع القطعان رعاتها ، سبنساب الصغار مع النهر يتراشقون بالحصيات و القطرات ، ستشق النسوة غابة الصفصاف بالنعال و الزغاريد ،
بحثا عن الحطب الشيح و الزعتر ..
من عمق حقيبة يدها المسجاة عند قدميها ، انبعثت رنة عليلة لهاتفها المحمول ، كان يهتز كما الجان بين أشياء لم تفطن قبل الآن لعجزها .
أتفعلها و ترمي بكل الأرقام ، تقتفي أثر عمتها و تشمخ إلى الأخضر في الأعالي ؟
قطعا عمتها لم تمتلك حقيبة تعج بالأرقام ..
كانت تكفيها نظرة آتية من عمق الغاب لتتنبه إلى تعثر معيزة صدّها شوك أو حجر عن ملاحقة القطيع .. كانت مجرد صيحة من أعلى الجبل قادرة على إنذار القرية بقدوم غريب ، فتنبح الكلاب ، تنتفض القطعان ، يجري اللعاب في أفواه الصغار و تنتصب النسوة خلف الكروم كالأعلام ..
هل يعاود المحمول الرقص على نغمات الجان ؟ لو أن به وعياً لألقى بنفسه في هذا النهر .. قطرة ماء تطفئ جذوة ذاكرته الحبلى بالأرقام ..
أما هي ، تحييها الحُصيات تتلألأ تحت صفحة الماء و قد سلّمت أمرها و عددها إلى علم الله الذي لا ينضب ..
و تلك الشجيرات على جانبي النهر ، و شقائق النعمان بلون الشفق ، هل تحمل أرقاما ؟ و هذه الطيور تملأ الكون بشدوها الصباحي المرح ، ما ترتيبها بين الكائنات
و الطيور ؟ و هذه الخفساء تكاد تحبو على كومة التراب ؟
و خط النمل يسعى متراصاً و لا يخطئ الطريق ؟
و الفراش يتراقص نشواناً بحياة يحملها فوق جناحيه
نعشاً و يطير … ؟
و هي كنبتة ، انبثقت من أعلى الربوة منذ الخيوط الأولى
للفجر ، أودعتها حافلة النقل إلى مفترق الطرق ، و سلكت المنعرجات إلى الدورالمتوارية في قلب الكروم الشوكية و أشجار التين ..
أدارت ظهرها للقرية ، و قرفصت تتابع النهر في سيره
الأزلي ..
و كمن مسها إنس أو جن ، نكشت حقيبة يدها ، رمت بكل البطاقات و الأرقام صوب النهر ..
صاحت :
هي ذي أنا بلا إسم و لا رقم ، أعانق السماء .. سأهش على معيزات الجبل ، سأقضي الأمسيات على هذه الربوة ، أشرف على هذا النهر .. سيعييني الركض و راء القطيع فأستريح أروي ظمئي بمائه البلوري البارد ..
أخرجت حبة تمر يتيمة من جيب معطفها ، سرت حلاوتها في فمها مسرى النور في ظلمات تتأهب للرحيل ..
ترنحت إلى جنب النهر .. تهاوت عند جذع شجرة عجوز نسجت من جذورها الطافية على السطح متكأ للزائرين ..
أخذها الدفء .. راحت ..
– من أنتِ يا هذه ؟ من أين قدمتِ ؟ كيف لم تنبح الكلاب ؟
ما اسمك ؟ أين بطاقة هويتك ؟
– إسألوا هذا النهر ، هو يعرفني ، كل بطاقاتي هوت إلى قعره ، أو ربما تطفو على سطحه ، تجري حيث يعييها الجري
فتتوقف ..
أين المنبع و أين المصب ؟
أيقنت أنها في أول الطريق ،نور في حاجة إلى الظلمة حتى ينير ، نهار ينبثق من ليل ، و ليل ينسج من نهار ،
سفر و عودة ..
فهل جاءت القرية مسافرة أم عائدة ؟
خلف الجمع ، سرحت امرأة رمت بحِملها على عصا هرمة :
سبحان الله ، كأنها رحمة ، هنا كانت من سنين تقضي أمسياتها إلى أن يحين المغيب ، تستند إلى جذع هذه الشجرة و قد كان بعد فتيا ، تشرف على النهر ، تتدفق بتدفقه ، تشع بصفائه ، فتصدح بأهازيج المساء تلملم معيزاتها ..
و في ذات مغيب ، عادت المعيزات وحيدة إلى الحظائر ….
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذات يوم خرجنا جميعنا ولم نعد..
مازلنا تائهين..
مازلنا نتسمع صدى أصواتنا الخصبة الفتية عبر شهب ذاكرة المغيب.. تطن بارقة في مخيلتنا المتخمة بهدى الخديعة، وآمال الضياع..
ذات يوم كان آدم ، يحمل في جعبات مخيلة ذاكرته المتخمة كل المعارف والأسماء، أراد أن يخلد إلى الراحة من عناء، فطور وخرج، فتُهنا جميعا..
هذه هي قصة اليوم..
موضوعها البحث عن الذات الخصبة الأصيلة، عن بؤرة النور فينا..
بعد أن أخذنا الشطط والجنون والانبهار الأعمى، فأنسانا أنفسنا، خلعنا حذورنا متوهمين أننا سنسبح في الأفق.. نجاور النجوم؛ فضجت بنا الحياة، وضج بنا الصندوق الفاعل الذي يحمل أرواحنا الجافة، وعلا صراخنا نبحث عن الخلاص، والخلاص هو الملجأ، هو العثور على أصل جذورنا، والبحث عن فطرتنا الأولى التي كانت تحمل لنا في جعبة مخيلة ذاكرتها المعرفية أرواحنا النقية..

تكلمت قبلا عن مختصر لفن صناعة الرواية، وتطرقت للموضوع، وتحدثت عن كيفية انتقاء الموضوع من خلال فكرة، وهدف الفكرة، واليوم انتقينا قصة قصيرة للتطبيق، لكاتبة لها قلم مداده المباشر من عند لله، على وعي فطرة الأنبياء الذين لا يتكلمون من أنفسهم، ولكن يوحى إليهم..
أني أومن أني لا أغالي في هذا التشبيه وأنا أقرأ لكاتب مبدع موهوب مثل رجاء بقالي، وغيرها مما أثارتني نصوصهم، وشجعتني أن أكمل مثيرة درسي المهموم به..
أول البحث، عن شعور ملأ الكاتب واحتل كل حواسه، ثم قرع في فكره؛ فأخذ يترجم هذا الشعور ويبلوره إلى فكرة بعد استخلاصه، تماما كما بدأت افتتاحيتي في هذه القراءة، فتجدني بدأت بنقل شعور، وأفكار كلها تدور حول فكرة النص..
وأنت ككاتب عليك أن تسأل نفسك سؤالا مهما، ألا وهو: لو كانت تختلجني مشاعر ـ كتلك التي حددتها أنا في أول هذه القراءة ـ ملأت نفسي، وعبت رأسي هذه الأفكار، كيف أستطيع التعبير عنها في موضوع من خلال قصة؟
وأنا تعمدت أن أنقل مشاعري، وأطرح فكري عنها مجردة في بداية كتابتي دون تمهيد أو تنويه، علّني أفلح في أن أسطو على مشاعركم، وأستحوذ على ألبابكم ساقطا فيها أحاسيس ومعاني هذه السطور الأولى لتعتمل في مخيلتكم، وعلّكم تربطون بين هذه السطور والنص المكتوب عاليه، ونرى كيف صاغت الكاتبة هذه المشاعر والأفكار في موضوع قصصي جاذب مثير استحوذ على مشاعرنا وأخذ ألبابنا..
إن هذا للب الاحترافية، إذ أن الاحترافية هي عملية تحويل المشاعر التي تعتمل في النفس، تستجلب الأفكار وتخلق الموضوع الذي تستطيع تحويله إلى جنس أدبي في مهارة واقتدار..
فنجد الكاتبة خلقت إسقاطا لنفسها باقتدار احترافي، واستطاعت أن تترجم لنا مشاعر الإنسان الحديث، وتخبطه وتوهانه وسط الحياة المدنية التي تعج بالخطوب والأحداث المثيرة التي تتنافى مع تكويننا الفطري الأصيل، بل نتعامل معها بنفس آليتها مجبورين على ذلك، وتكرار الإجبار السلوكي والفكري يخلق انفصاما عن ذواتنا، ويحدث مسخ لهويتنا، ويغربنا عن بصمة شخصيتنا، حتى نصبح تائهين مشوشين نفتقد بوصلة الهدى، حينها نصرخ بالمطالبة بالعودة.. العودة لخليتنا الأولى، والبيئة الأولى، حيث نمو بصمتنا لدى المخ، كي يستطيع ترجمة هذه البصمة من خلال مشاعر وسلوك، ينتج ذات لسمات شخصية محددة الهوية تستعيد قاموس معارفها الأولى، تستعيد هداها وسكنها..
ترجمت ما شعرت وما دار في موضوع قصصي لبطلة قادمة من المدينة إلى قرية بدوية لزيارة المنشأ، حيث عمتها التي أمضت طول عمرها تستثمر فطرتها وتستحلبها من خلال بيئتها التي نشأت فيها، ولم تفكر يوما أن تهبط من الجبل إلي السهل، إلى المدينة..
كيف صاغت الكاتبة الموضوع على مستوى التكنيك؟
1ـ أسقطت كل التغريب والتشويه والإنفصام الذي يعانيه الإنسان الحديث واختزلته في راوية تنقل لنا، وتجسد نفسها في قلب الحدث المدار.. بقصد المثل، أي أنها هي المثل.
2ـ قامت بوصف المنشأ ـ قرية البدو ـ ببساطة وجمالية وشاعرية مبهرة، لتستصرخ في المتلقي تعطشه لهذه الحياة وهذه الطبيعة الفطرية الجميلة، كما أنها قامت بدور معاكس بالنسبة لمكان الهجرة ـ المدينة ـ بطريقة الإنكار، والإنكار هنا عدم الحديث عن متاعبها أو شقاء الراوية فيها، أو أدنى مقارنة، وأسلوب الإنكار التي قامت به مرتكز بلاغي على مستويين: أ ـ الإنكار المتعمد للهروب من الألم وعدم تذكر تفاصيله، لتصوير النفس الموجوعة لحظة الهروب، والإنفلات من الألم، أو لحظة الخدر كي تستطيع أن تستنشق من جديد نفخة إعادة الروح بذلك النسيم المحبب.. العبق التي تستشعره قديما من بلد المنشأ، وبالإنكار أفاد التأكيد على الهوية الأصيلة، وإنكار للمدينة الحدثية بكل ما فيها. ب ـ الإنكار دل على الاختيار والتفضيل للنفس من قبل الراوية، بأنها تروي لمتلقي يعاني مثلها كابش نفس النار في حياته في الحداثة المدنية، على مستويات حياتية مختلفة، تعيشها صنوف كثيرة من الناس بأشكال كثيرة، أي أنه يعايش نفس الأحاسيس والألم، فقامت باختزال الواقع للحياة المدنية وصفيا، وقامت بوصف المرجو والعلاج للنفس المنكوبة والروح المسحوبة بوصفها لما تهفو نفسها إليه، وما سعت للذهاب إليه واختياره. وهنا أفاد الإنكار فتح المجال النفسي والفكري لدى المتلقي لتقبل النتيجة التي تود الراوية الوصول إليها، وصوغته دعوة للجميع أن يتجهو بأنفسهم نفس الإتجاه، أو أوقفوا الدمار الذي يحدث لكممن تشويه وتغريب وتيه، من خلال نهمكم وتكالبكم الحياة المتمدينة التي تحولكم إلى آلات جامدة لا تحس ولا تشعر فتزهق أرواحكم.
وهنا قمة الفلسفة الفكرية التي تنبعث من تحليل عناصر النص.
وجاء الأسلوب السردي على المستوى الفكري التكنيكي يصوغ النص على أنه دعوة، حققت مبتغاها على أنها علاج للنفس والبحث عن المفقود في بصمة التعبير لدى أرواحنا.
سوى ربط واحد أتت به الكاتبة على سبيل المقارنة، لتصور حدة الصراع في القصة في مرحلة الوسط الهادئة، برنات الهاتف المحمول، يصور صوت الحداثة المقرف المقزز الذي صرخ في غير مكانه ليخرج الراوية من استمتاعها لعزف نغمة نشاز، والمقارنة السريعة للعمة التي لا تمتلك جهازا مثل هذا، يشوش عليها ويشوه نفسها مقابل هذا العالم الذي تعيش فيه، ولكنها تمتلك فترتها تمتلك حواسها: “قطعا عمتها لم تمتلك حقيبة تعج بالأرقام ..
كانت تكفيها نظرة آتية من عمق الغاب لتتنبه إلى تعثر معيزة صدّها شوك أو حجر عن ملاحقة القطيع .. كانت مجرد صيحة من أعلى الجبل قادرة على إنذار القرية بقدوم غريب”.
وحسم الصراع بإطفاء جذوة ذاكرته الحبلى بالأرقام بإلقائه في ماء النهر ، دلالة على إتخاذ القرار بالتخلي عن كل ذاكرة حياة المدينة بتمدينها وحداثتها، إلى التشبه والتوحد بعمتها، والتمهيد لمرحلة القرار : “لو أن به وعياً لألقى بنفسه في هذا النهر .. قطرة ماء تطفئ جذوة ذاكرته الحبلى بالأرقام ..
أما هي ، تحييها الحُصيات تتلألأ تحت صفحة الماء و قد سلّمت أمرها و عددها إلى علم الله الذي لا ينضب”..
كل هذا تمهيدا للقرار ولحظة التنوير التي يجيء صوتها من خلال الخاتمة، بالقرار لعدم العودة والبقاء في القرية، خاتمة فلسفية فكرية بنفس أسلوب النص ولا أروع:” أين المنبع و أين المصب ؟
أيقنت أنها في أول الطريق ،نور في حاجة إلى الظلمة حتى ينير ، نهار ينبثق من ليل ، و ليل ينسج من نهار ،
سفر و عودة ..
فهل جاءت القرية مسافرة أم عائدة ؟
خلف الجمع ، سرحت امرأة رمت بحِملها على عصا هرمة :
سبحان الله ، كأنها رحمة ، هنا كانت من سنين تقضي أمسياتها إلى أن يحين المغيب ، تستند إلى جذع هذه الشجرة و قد كان بعد فتيا ، تشرف على النهر ، تتدفق بتدفقه ، تشع بصفائه ، فتصدح بأهازيج المساء تلملم معيزاتها ..
و في ذات مغيب ، عادت المعيزات وحيدة إلى الحظائر”.
خاتمة حصرت لكم ما بين علامتين تنصيص بداية التمهيد لها حتى نهايتها، لنكتشف أنها تعد لنا نهاية في تكنيك بديع غير معتاد، هي خاتمة الكشف، هي عمل إسقاط على تاريخها في الماصي، تلك المرأة التي فجأة أخذت القرار بالفرار للمدينة، وتركت معبزاتها تعود وحيدة، تماما كما بعد شوط طويل من العمر فرت هاربة من المدينة عائدة إلى مكننها الطبيعي لتعيش في القرية البدوية وتسرح بالعنزات، حيث نجاة نفسها وروحها.

العقد السردية.. الوظائف الذهنية والسيكولوجية.. دراسة نقدية في قصة (عقدة الماضي) للقاص فلاح العيساوي إنموذجاً.. بقلم: فارس عودة

العقد السردية.. الوظائف الذهنية والسيكولوجية.. دراسة نقدية في قصة (عقدة الماضي) للقاص فلاح العيساوي إنموذجاً.. بقلم: فارس عودة
 __________________________________
تكتسب الدراسات التي تهتم بالتقنيات المحشَّدة من قبل الكاتب في لعبته السردية أهمية كبيرة، إذ أن للتقنيات البنيوية للسرد ميزة خاصة، فهي – عادة – ما تتلاعب بالصورة الذهنية للمتلقي فتستلهم النظام المعرفي عنده وتشحذه من أجل استخلاص أو استحداث صور محاولاُ التنبؤ بخاتمة الحدث، ونهاية العمل السردي الذي خَلق عنده – من قَبْلُ – جواً ذهنياً وسيكولوجياً – يفترض أن يكون- في أعلى قيم الانسجام مع السيكولوجية التي تنتجها تعالقات السرد ودينامية وحركية النص وتحولاته.

فالصورة الذهنية – وبحسب معجم العلوم السلوكية – ترتبط بالنظام المعرفي الخاص للفرد، وقد عُرفت (( بأنها نسخة ذهنية تنبع من خبرة ذهنية في غياب التحفيز الحسي))، والإدراك الحسي عند أرسطو هو أساس المعرفة.

لكن الصورة الذهنية لا تقف عند هذا الحدِّ فقد أثبت الباحثون المختصون في مجال نظرية الصورة الذهنية أن للذهن قابلية عالية جداً لخلق وابتكار وتوليد صور جديدة دون أن يكون للمخزون الذهني أي دور فيها.

لذلك فإن التقنيات السردية عندما تؤثر في الصورة الذهنية للمتلقي فإنها في حقيقتها إنما تؤثر في الذهن نفسه، فمرةً تستدعي المخزون المعرفي المكتنز فيه، وأخرى تستحيل محفزاً يحفزه لإنتاج صور جديدة من خلال الانفعالات الذهنية والسيكولوجية؛ منتجة حزمة من التوقعات والتنبؤات لما تؤول إليه تلك اللعبة من حدث خاتم يسدل الستار على مسرحها.

ومن هنا اكتسبت الدراسات التي تستند إلى هيكلية النص أهمية بالغة كونها لا تقتصر على دورها التحليلي أو التأويلي للنص- وإنما تتعداه لتكون عوناً للمتلقي في ممارسته للذة القراءة من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذه الدراسات تسهم في تقويم وتصويب الانفعالات الذهنية وآثارها السيكولوجية المنعكسة عن مكونات اللعبة السردية.

وتعتبر الوحدات السردية (العقد السردية) – التي عرفها (رولان بارت) بأنها ((تتألف من كل مقطع من القصة يقدِّم نفسه كتعبير عن تعالق ما)) – واحدة من أهم أدوات السرد وأشدها تأثيراً في العمل السردي وجودته من ناحية، وفي عملية التلقي، وفي البعد السيكولوجي للمتلقي من ناحية أخرى.

فللدور الوظيفي للوحدات السردية أهمية بالغة في خلق روح السرد، لأنها تمثل عنصر الحياة فيه، بحسب قول رولان بارت: ” إن روح كل وظيفة هي – إذا جاز القول- بذرتها، وهو ما يتيح لها أنْ تبذر في السرد عنصراً سينضج فيما بعد على الصعيد نفسه أو بعيداً على صعيد آخر، فإذا كان فلوبير في ((قلب بسيط)) يخبرنا في وقت من الأوقات – وبدون إلحاح ظاهر- بأن بنات العمدة (بون ليفك) كن يمتلكن ببغاء؛ فلأن هذا الببغاء ستكون له – فيما بعد – أهمية بالغة في حياة فليستي: فلإشارة إلى هذه الجزئية ( أيّا كان الشكل اللغوي) تشكل إذن وظيفة أو وحدة سردية.”.

إذ أن تعالقات الأفعال السردية في تلك الوحدات وتتابع تلك العُقد وترابطها يقابله توالي انفعالات (الذهن المتلقي) ومن ثم يكون لها تمثيل بياني سيكولوجي يوازي ذلك التمثيل البياني لتلك العقد وانفعالات الذهن بها تصاعديا وتنازلياً.

ويمكن إجراء مقارنة بيانية بين العقد السردية والانفعالات الذهنية والسيكولوجية، من خلال الإنموذج السردي الذي بين أيدينا، وهي قصة (عقدة الماضي) للقاص فلاح العيساوي.

يبدأ القاص فلاح العيساوي نصه بفعل سردي يمثل نقطة الانطلاق للوحدة (العقدة) السردية الأولى في النص فيقول:

1- “في غرفة الاستقبال ينتظر وصولها من الخارج…”
فبعد خروج المتلقي من لعبة مدلول العتبة – التي هي بحد ذاتها تفضي إلى عقدة مستقلة – نجد أن السرد بدأ بفعل (الانتظار)، (انتظار البطل لوصول البطلة من خارج غرفة الاستقبال) وهو ما ينطلق – وبسرعة البرق – بتكوين صورة الذهنية بدائية للوضع السيكولوجي الذي عليه البطل فهذا الجزء من النص يشي لنا ينسج لنا صورة يظهر – جلياً – على ملامحها القلق والتوتر والتأزّم.

إن الفعل السيكولوجي الذي يشي به مفتتح النص السردي في قصة (عقدة الماضي) يقابله رد الفعل السيكولوجي من المتلقي، الذي يظهر من خلال الترقب والترصد للحدث الآتي بسبب مجهولية دوافع الانتظار من جهة وللتماهي الشعوري بين الذهن المتلقي وبين الصورة المتخيلة.

ولأجل رسم صورة بيانية بنحو جيد من الدقة أرى أنه عليّ أنْ أضع هنا قيمة رقمية افتراضية لكل فعل سردي وما يقابله من قيمة رقمية لكل (رد فعل) سواء كان ذهنياً أو سيكولوجياً.

وبحسب التقييم الافتراضي لفعل السرد فإن القيمة البيانية التي أفترضها لفعل (الانتظار) في قول القاص “في غرفة الاستقبال ينتظر وصولها من الخارج” هي (1) على المحور الصادي، وتقابله رد الفعل ( الانفعالي الذهني) بنفس الدرجة وعلى نفس المحور الصادي وكذلك بالنسبة لرد الفعل (السيكولوجي).

وليس السبب – في وضعي للقيمة (1) على المحور الصادي، مقابل (فعل السرد) (الانتظار)- هو أن هذه القيمة توازي القيمة المفترضة لزمن القص المتنامية مع تنامي السرد، وإنما هي توازي قوة فعل السرد المتولدة لا من (فعل الانتظار) بما هو هو، وإنما متولدة من تعلقه بوصول البطلة من الخارج، فمجرد (الانتظار) وبحدِّ ذاته يستدعي نحواً معينا من القلق والتوتر، وانتظار بطل القصة لوصول أنثى – لا يعلم القارئ بنوع العلاقة التي بينها وبين المنتظِر – ينبئ بتطور الحدث السردي ويشي بحدث مثير لمستوى أعلى من القلق والتوتر على مستوى الحدث، لذا فإنه لا يمكن وضعه عن القيمة (0) أو دونها، وإنما هو بالفعل يشكل تنامي ولو على مستوى صوري بدائي، لكنه لا يصل إلى قيمة أعلى مما يستحق فهو يمثل الخطوة الأولى نحو التأزم السردي.

2- لكن هذا الفعل السردي لا يقف عند القيمة التي قدرناها بالرقم (1) عندما نصل مع النص إلى قول القاص :

” نار تشتعل في قلبه.. تسربت بسرعة البرق إلى كامل جسده، يعضُّ على نواجذه، ومن تحت الهشيمِ يخرج الغول، وحش لا يعرف الشفقة، الانتقام والتشفي يرضي روحه المخدوعة,… “
فتتجلى صورة ( انتظار البطل لوصول البطلة) التي كانت محط عدة تساؤلات منها:

هل هو انتظار لقاء بعد فراق؟
أم أنه انتظار يمثل فخاً لضحية؟
أم أنه انتظار لتحقق أمر عن مواعدة؟

وليسهم هذا الفعل الجديد في إطلاق العنان لانفعالات قوية تثير قلقل المتلقي عما سيؤول إليه الحدث بعد هذا الانتظار، الذي كان غير بيّن الملامح ، وما سيحصل لو تحقق اللقاء، وهذا القلق يؤدي به – وبحسب استقرائه لشخصية البطل حتى هذه اللحظة من السرد – إلى استثارة استنتاجاته لتوقع الحدث الآتي انطلاقا من التجربة النفسية التي أشار إليها ( ألفريد آدلر) في كتابه ( الطبيعة البشرية) : “إنَّ معرفتنا بهدف الفرد، وبالبيئة المحيطة به في العالم، تمكننا من فهم معنى الطرق التي يعبِّر بها هذا الفرد عن نفسه، وبالاتجاه الذي ستأخذه حياته، وكيف ستعمل كل هذه الأشياء معاً استعداداً لتحقيق الهدف، كما انه يجب علينا أن نعرف الخطوات التي يجب أن يتخذها كل فرد من أجل الوصول لهدفه” .
فلدينا هنا حزمة من الأخبار التي يتضمنها النص حتى هذه اللحظة والتي يقابلها القيمة المقدرة بالأرقام على المحور الصادي، وهي كالآتي:
– ( انتظار البطل لوصول البطلة من خارج الدار)، وكما قلنا -سابقاً – تقابله القيمة (1) على المحور الصادي.

– (نار تشتعل في قلبه)، ترتفع قيمة التأزم لتقابلها القيمة (3) على المحور الصادي.

– و (تسرُّبٌ لتلك النار إلى كامل جسد البطل وبسرعة كسرعة البرق)، تقابله القيمة (5)، على المحور الصادي.

– و (عض على النواجذ)، تقابله القيمة (8)، على المحور الصادي.

– و(غول يخرج من تحت هشيم تلك النار) (صفته أنه لا يعرف الشفقة)، تقابله القيمة (11)، على المحور الصادي.

– و(الرغبة الشديدة في الانتقام والتشفي إرضاءاً لروح البطل المخدوعة)، تقابله القيمة (13)، على المحور الصادي.

لذلك يمكن القول بأننا بسيرنا مع السرد إلى هذه النقطة فإنه سوف ترتفع قيمة التأزم في الحدث السردي من (1) إلى الرقم (13).

3- ثم يمضي القاص العيساوي في السرد بقوله:

“يحدِّث نفسه: تلك البلهاء تتراقص فوق حبال الغباء، تظن أن المكر سيطول، لا تعرف أنني رجل لا يخدع..
– تريث يا رجل.. أنك تظلم حبيبتك، خوفك عليها جعلك كثير الشك”

ونلاحظ هنا أن هذا الجزء من النص لا يتضمن فعلاً سردياً صريحا إلا حديث البطل مع نفسه، وهو يشي بمحاولة القاص للإفصاح – وبزمن قصير قد يكون من آثار شرطية الاختزال في القص القصير- عن دوافع الانتظار وما استتبعه من أفعال تأزُّمية متصاعدة، لذلك فإنه المؤشر البياني لقيمة التأزم في السرد لا يرتقي عما وصل إليه، بل ربما يتراجع قليلاً عند قوله: “تريث يا رجل.. أنك تظلم حبيبتك، خوفك عليها جعلك كثير الشك” لكننا مع بقاء قلق المتلقي عند حدّ الرغبة في الانتقام، لا يمكننا النزول عن القيمة (13) ولا الارتقاء فوقها كما أسلفنا.

4- ثم يقول القاص:

“دخلت تتهادى في مشيتها، تهز جسدها المكتنز كأنها تعزف على أوتار الشكوك، تنظر إليه بابتسامة شفافة تمتص غضب البركان:
– حبيبي آسفه تأخرت في صالون التجميل.”
وعلى الرغم من قول القاص :
“تنظر إليه بابتسامة شفافة تمتص غضب البركان:
– حبيبي آسفه تأخرت في صالون التجميل.”

إلا أن وتيرة التأزم السردي تبدو في ازدياد جديد ومعه تزداد وتيرة الانفعال الذهني والسيكولوجي أيضاً، فالذهن يبدأ باستحضار أو ابتكار عدد من الصور التي تمثل توقعاته لما ستؤول إليه الأحداث.

فهل سيعاتب البطل حبيبته؟
أم أنهما سيتشاجران شجاراً عنيفاً؟
أم أنه سيقتلها؟
هل سيفصح لها عن غضبه وأسبابه؟
أم أنه سيكتم الأمر إلى حين آخر؟

فإذن نسأل هل إن التأزم ستزداد قيمته أم أنه سيبقى على حاله أم سينقص؟
أرى أن السرد لا يتعدى تأسيس القلق والترقب لكن الوهلة الأولى للإفصاح عن دخولها وبتلك الهيئة التي تسير عليها يمكنها رفع قيمة التأزم إلى درجتين أخريين ليصل عند القيمة (15) والسبب في ذلك أن الحالة السيكولوجية – لزوج تتأجج فيه ألسنة نار الغضب – تفرض ازدياد حدة عصبيته تبعاً لتفاعل روح الأنا الأعلى فيه سيكولوجيا، وليس الظهور بهذه البرودة من الأعصاب، فمثل هذا القلق والغضب قد يؤدي إلى هيجان الغيظ، والذي ربما يصحبه الانفجار أو التهور، لذلك فإنه لابد للقلق من نصيب من هذه الناحية، لا على مستوى السرد وإنما على مستوى التلقي، لذلك أعطيته درجتين.

لكننا لاحظنا أن القاص بدأ بالتأسيس لحل العقدة السردية، فكان قوله:

“تنظر إليه بابتسامة شفافة تمتص غضب البركان:
– حبيبي آسفه تأخرت في صالون التجميل.” وهو يمثل بداية الحل، وكان قوله:

“- حبيبتي اشتقت إليك.. حاولي في المرة القادمة أن لا يطول غيابك خارج البيت.
تقدمت خطوات.. جثت أمامه على ركبتيها، أخذت يده تقبلها بحنان, عزفت على قيثارة الوجد, خلال لحظات أشعلت شموع الفرح بمناسبة مرور عام على زواجهما, امرأة تملك زمام المبادرة, يسبح الشوق في أحضانها إلى حد السكون, ينعم بالرضا فيغفو ريح الغضب.”

يمثل الحل للعقدة السردية الأولى في النص.

غير أن ما يؤخذ على القاص هو التباعد بين عقد السرد في النص، أو بين العقدة الأولى والعقدة الثانية، بشكل مفرط، فلو عمد إلى جعل الحل في العقدة الأولى نفسه متضمناً لفعل سردي جديد – يمثل بذرة لعقدة جديدة ويعلن ولادتها – لكان أجمل للسرد وأكثر تشويقاً للمتلقي، فبدلا من قوله :

” – حبيبتي اشتقت إليك.. حاولي في المرة القادمة أن لا يطول غيابك خارج البيت.
تقدمت خطوات.. جثت أمامه على ركبتيها، أخذت يده تقبلها بحنان، عزفت على قيثارة الوجد، خلال لحظات أشعلت شموع الفرح بمناسبة مرور عام على زواجهما، امرأة تملك زمام المبادرة، يسبح الشوق في أحضانها إلى حد السكون، ينعم بالرضا فيغفو ريح الغضب.

وضعت رأسها فوق المخدة، فتحت نافذة الذكريات على الماضي الجميل، قلبها العاشق يقفز طرباً عندما ترى أحمد يسير في الشارع، تلوح له بيدها، يدخل إلى بيته بسرعة، يتسلق سلّم السطح في لحظات يضع يديه في يديها, تتمنى أن يزول ذلك الجدار الذي يحول بينهما، يسمع صوتها يقفز بسرعة، تجد نفسها بين ذراعيه، تتيه في عتمة الحب والظلام الدامس.. تهمس في نفسها: لولا ذلك الجسد الحقير الذي فجّر نفسه بسيارة مفخخة في وسط عمال أجرة البناء لكنت الآن مع حبيبي الأول تحت سقف واحد.. لكن القدر منحني فرصة الحب الثانية، رغم السعادة الدنيا لا تعرف الرحمة، التعاسة رفيقة روحي، جروحي تنزف هموماً، مرارة الماضي تحول دون سعادتي مع زوجي الذي أحبني بصدق, هو يستحق إخلاصي, خسارته فكرة تقض مضجعي.. أنى لي الخلاص من ذلك الرجل الذي حوّل حياتي إلى جحيم.. كم هو جبانا يستغل امرأة).

طول الليل تتقلب في فراشها كأنها سمكة تحاول القفز إلى الماء، بالكاد استطاعت النوم بعد بزوغ الفجر، استيقظت متأخرة، القلق يثقل كاهلها، وجع الذكريات يرافقها حتى بعد أن أصبحت مرفهة”

كان بإمكان القاص أن يخلق عقدة جديدة ترفع من قيمة المؤشر البياني للتأزم بصورة أكبر، وتجعل القارئ أكثر إحساسا بالنص، مضافاً إلى رفع مستوى الاختزال في السرد.

يقول (ألفريد آدلر): ” إن النشاط النفسي ما هو إلا مجموعة معقدة من آليات الدفاع والهجوم غرضها النهائي هو ضمان استمرارية الكائن الحي، وهدفها أن تعطيه القدرة على النمو والتطور والأمان ” ومن هذا المنطلق كان بإمكان القاص أن يجعل قبول البطل لتأسف حبيبته، مشروطاً بعدم خروجها من المنزل مرة أخرى، ليبذر من خلال هذا الشرط بذرة لأزمة جديدة، حيث سنتوقف أمام عقدة جديدة من خلال التبعات السيكولوجية لهذا الشرط على الوضع النفسي للبطلة، لأن هذا الشرط من المؤكد أنه سيثير مخاوفها وقلقها، من عدم قدرتها في إيصال المال إلى (حسام) المبتز لها باستمرار بواسطة صورها مع حبيبها الأول (أحمد) التي يحتفظ بها عنده كورقة ضغط ومساومة.

وهذا القلق من العجز عن إيصال المال إلى المبتز، بدوره سوف يثير مخاوفاً جديدةً في نفسها، وهي مخاوف تتعلق باحتمالية محاولة (حسام) للانتقام منها بإيصال الصور إلى زوجها (ماجد)، وهكذا تكون مخاوفها مخاوفاً للمتلقي نفسه وتأزماً جديداً للحدث ومن ثم تأتي الحلقة السردية الثانية التي تتضمن لقائها بأمِّها وبـ (حسام) المبتز وإعطاءه المال، ثم لتتولد فكرة الانتقام لديها، وفشلها في الانتقام منه في البيت المهجور، ووقوعها تحت سيطرة (حسام)، ومن ثم الحل في الخاتمة بقيام (ماجد) بقتل(حسام) قبل اغتصابها أو قيامه بقتلها انتقاماً منها، ومن ثم عناق زوجها (ماجد) الذي يحيل إلى الانفتاح نحو حياة أفضل وأمتع.

إن هذه الهوّة بين العقد السردية هونتْ من جذوة القلق والترقب عند المتلقي، والتي لو لم تكن لكان الوصول إلى ما قبل الحل وصول إلى أقاصي قمم الانفعال النفسي بمعنى أننا لو افترضنا أن مقدار قيمة الانفعال النفسي – الذي ينتجه النص بوضعه السردي الحالي- تصل عند القيمة (30) على المحور الصادي، فإن المتوقع من مقدار قيمة هذا الانفعال الذي ينتجه النص – بعد إحكام سلسلة العقد السردية وتعالقها بشكل سليم – أن يصل إلى درجة أعلى ربما تصل عند القيمة (50).

إنّ هذا التعالق الوثيق بين البعد السيكولوجي للمتلقي والعقدة السردية يفرض على القاص أن يأخذه بنظر الاعتبار سواء على مستوى السرد القصصي أو على مستوى السرد الروائي.

ومع ذلك فإن هذه الدراسات لا تفرض نسقاً سردياً معيناً تلزم القاص به وتتطرف لقولبة سرده فيه، فله الحق في اختيار الأيديولوجية التي يراها مناسبة في قناعاته وهي من تفرض نفسها على بنية النص. وبرغمه أعتقد أن القاص وفق بدرجة جيدة في توظيف أدواته السردية وأن (عقدة الماضي) تجلّت وبشكل كبير عبر مجريات أحداث النص؛ فكان اختيار القاص للعنوان موفقاً جداً، كما هو كذلك في الخاتمة التي كانت حلاً لعقدة الابتزاز والاغتصاب من قبل (حسام) للبطلة، وكانت – أيضاً- حلاًّ لـ (عقدة الماضي) عنوان النص وهويته وعتبته، لينطلق الحبيبان نحو حياة خالية من العقد ومن التأزمات والقلق، في فضاء رحب من الحب والسعادة، وكان الحلّ – كعنصر رئيسي في الوحدة السردية – في مقام النشوة للذة القراءة ، وهو المتوخى من العمل السردي عموماً.