المذاهب الأدبية الغربية والأدب العربي الحديث
بقلم/ د. يسري عبد الغني عبد الله.. (باحث وخبير في التراث الثقافي )
تمهيد:
لم يتواجد في الأدب العربي القديم مظاهر لهذه المذاهب (المذاهب الأدبية الغربية مثل: الكلاسيكية، الرومانسية، الواقعية … إلخ ..)، فلم يكن النقاد العرب في القديم يعنون بوحدة العمل الأدبي من الناحية الفنية، وتوثيق صلاته بالمجتمع فكرياً وفلسفياً، وهذا لا يمنع من القول بوجود بعض الآراء والأفكار في النقد العربي القديم تقترب من هذا سابقة لعصرها .
ومن المقطوع به أيضاً: أنه في الأدب العربي الحديث لم يحدث أن أعتنق مذهباً من المذاهب الأدبية، ولكن الأدب العربي الحديث تأثر بها جميعاً تأثراً لا يمكن وصفه بالمنهجية أي أنه كان غير منهجي، وكان لا بد أن تتأثر أجناس الأدب العربي الحديث بهذه المذاهب، فهذه هي السنة الرشيدة التي سارت عليها الآداب الإنسانية جمعاء في عصور نهضاتها.
فالآداب كائن حي، تأخذ وتعطي ، وتتحاشى الانطواء على نفسها، والانعزال عن دنياها المعاشة، خوفاً من أن تقفر وتجدب.
الشعر الغنائي العربي:
* وقد بدأ التجديد في الشعر الغنائي العربي، ثم في المسرح والقصة والأقصوصة، وكان طبيعياً أن تبدأ النهضة الأدبية أولاً في الشعر الغنائي، ذلك لأنه أقدم جنس أدبي ورثه العرب عن أسلافهم.
وواضح أن التجديد في جنس أدبي موروث أيسر منالاً من إبداع أجناس أدبية جديدة، ونرى معالم التجديد في الشعر الغنائي العربي تمشي على استحياء لدى خليل مطران، حيث دعا إلى الوحدة العضوية في القصيدة الغنائية، وإلى صدق المشاعر في تجاربه، ونجد ذلك واضحاً خلال مقدمته لديوانه الشعري الذي عنونه بـ (الخليل)
ثم رأيناها في تجارب مطران الشعرية نفسه، حين عبر عن آلامه تعبيراً أصيلاً في نوعه قل أن نجده في الشعر العربي الحديث، إذ أنه يرى الطبيعة مرآة لنفسه التي تعاني و تتألم وتتعذب، ويقابل بين مناظرها وأحاسيسها الخاصة، كما نرى في قصيدته المشهورة (المساء) .
وكذا في التجارب ذات الطابع الإنساني والاجتماعي، ففي قصيدته (في تشييع جنازة) يأسى على شاب انتحر نتيجة تجربة حب فاشلة، وكأنه يشيد بقدسية الحب، وينعى على المجتمع أن تقف تقاليده عقبة في سبيل الحب الشريف، والعواطف الصادقة .
وفي قصيدته (الجنين الشهيد) نجده يرثي لفتاة زلت بسبب الفقر والحاجة، وأدت بها الزلة إلى ارتكاب جريمة للتخلص من طفلها .
وكذلك في قصائده الموضوعية التي يتغنى فيها بالبطولة والحرية، وتكشف بجلاء عن أرائه في الوطنية، وهذه كلها نزعات وخواطر رومانسية.
وقد وضحت نزعات التجديد أكثر في أدب ونقد: عبد الرحمن شكري ، وعباس محمود العقاد، وإبراهيم عبد القادر المازني (جماعة الديوان ، 1921 م) ، وكذلك في أدب المهجريين الشماليين .
وعلى الرغم من أن العقاد كان أكثر الديوانيين وضوحاً ، وأعمقهم نظرة في نقده الأدبي (من وجهة نظرنا) ، فإنه من المستطاع إجمال اتجاهات النقد الأدبي لدى هؤلاء جميعاً في : الدعوة إلى الوحدة العضوية في القصيدة ، والأصالة التي يجب أن يتمتع بها الشاعر عندما يعبر عن ذاته أو عن نفسه، وتصوير مشاعره وأفكاره بصور مستمدة من تجاربه الخاصة، ومن بيئته التي يعيش فيها، بشرط ألا يلجأ إلى تقليد القدماء، أو مجاراة الآخرين، وعلى الشاعر أن يأخذ تجاربه نفسها من بيئته المعاشة فيعبر بها عن صدق فكره وشعوره .
وهذه كلها نزعات رومانسية، وقد تأثر شعراء جماعة أبوللو التي أسسها الدكتور/ أحمد زكي أبو شادي، فيما كتبوه من شعر في مجلتهم، ودواوينهم، حيث نجد بوضوح نزعات رومانسية، وذاتية، واجتماعية، مع بعض النزعات الرمزية.
وعلى الرغم من جهود التجديد الكبيرة التي كانت وليدة اتصال الشعر العربي الحديث بتيارات التجديد العالمية، فقد خالف كثير من الشعراء والنقاد المجددين دعوات تجديدهم في أدبهم، فنرى في الكثير من قصائدهم عودة إلى الشعر التقليدي، وإلى شعر المناسبات، وإلى الأخيلة والصور القديمة التقليدية، ولا يظهر في العديد من قصائدهم معنى الوحدة العضوية كاملاً على نحو ما فهمها أصحاب المذاهب التي نقلوا عنها .
كما لاحظنا بعض الأدباء يزاوجون بين مذاهب أدبية كثيرة في أعمالهم الأدبية، كالرومانسية مع الرمزية، أو الرومانسية مع الكلاسيكية، أو الواقعية مع الكلاسيكية..
المسرحية العربية:
* أما المسرحية العربية فتأثرت بالمذاهب الأدبية الغربية، فالأدب العربي القديم لم يعرف فن المسرح أو فن التمثيل المسرحي كما هو في الحديث أو قريب منه ، إذ ظل الشعر العربي القديم محصوراً في نطاق الشعر الغنائي، وأدب الرسائل، والخطب، والمقامات، على الرغم من معرفة العرب بآثار اليونان الفكرية، وعلى الرغم من ترجمتهم لأرسطو، فإنهم لم يحاولوا احتذاء اليونانيين في التمثيل ولا في ترجمة أي شيء من مسرحياتهم.
وقد وجدت المسرحيات العربية في الآداب الغربية الدعامة الحق لنشأتها ونهضتها، وكان السبق في ميدان المسرح لسوريا حين بدأ مارون النقاش مسرحياته، وقد أخذ فن الإخراج المسرحي عن الإيطاليين، وكانت أولى مسرحياته التي عرضها (البخيل) للكاتب الفرنسي / موليير .
ثم أتت إلى مصر جماعة تمثيل سوريه على رأسها سليم النقاش، وكانت أكثر المسرحيات التي عرضوها مترجمة عن الفرنسية الكلاسيكية، مثل مسرحيتي (أندروماك) و (فيدر) لراسين، ومسرحية (هوراس) لكورني.
ومما سبق نرى أن الترجمة كانت أسبق من التأليف الأصيل، والمسرحيات المترجمة اعتمدت على المسرحيات الرومانسية الفرنسية، ثم الإنجليزية، إلى جانب ترجمة مسرحيات شكسبير ، التي اقتبس منها الكثير.
وقد تأثر الأدب العربي المسرحي أولاً بالكلاسيكية في الموضوعات والنواحي الفنية ، وسرعان ما تأثر إلى جانبها بالرومانسية في المسرحيات ذات الطابع العاطفي، وفي المسرحيات التاريخية، والمسرحيات الكوميدية، مثل مسرحية (حفلة شاي) لمحمود تيمور، نجده متأثراً فيها بملهاة (المتفيهقات المضحكات) للأديب الفرنسي/موليير.
ثم أعقب ذلك ظهور المسرحيات الرمزية، مثال ذلك، مسرحية (مفرق الطرق) التي كتبها / بشر فارس، ثم نرى توفيق الحكيم الذي حرص على خلط الطابع الرمزي لبعض مسرحياته بقضايا اجتماعية عامة، وآراء فلسفية في صلة الفرد بالمجتمع، وذلك كما نقرأ في مسرحيته (أهل الكهف)، التي نشرها سنة 1933 م، ومسرحيته (نهر الجنون) التي كتبها سنة 1935 م ، وضمنها مجموعته (المسرح المنوع) التي صدرت سنة 1965 م.
وقد أراد الحكيم في نهر الجنون أن يصور طغيان المجتمع، وسيطرته عل الفرد، ورغم انتماء هذه المسرحية إلى المسرح الرمزي ، فنرى أنها تحوي الكثير من الرومانسية.
ثم نرى محمود تيمور الذي يعتبره كثير من النقاد من أبرز كتاب المسرح الواقعي، نجده متأثراً إلى حد كبير بالكاتب الفرنسي / جي . دي . موباسان.
ونرى أمير الشعر الكلاسيكي العربي / أحمد شوقي في مسرحيته (مصرع كليوباترا) ، متأثراً فيها بالآداب الأجنبية ، بل أنه ينقل عن شكسبير مشاهد كاملة من مسرحيته (أنطونيو وكليوباترا) .
ومما سبق يتضح لنا تأثر الأدب العربي بجميع أجناسه بالمذاهب الغربية ، وقد أخذ هذا التأثر يتأصل في الأدب العربي ، ويوجه رسالته الإنسانية والفنية في نطاق الاتجاهات العامة للأدب .
القصة العربية:
* أما بالنسبة للقصة العربية فقد تأثرت بالرومانسية في منهج قصصها التاريخية ، وفي وصف النواحي العاطفية الذاتية ، ثم في الإشادة بالماضي القومي أو الوطني هرباً من الحاضر ، ورغبة في تغييره إلى مستقبل أفضل عن طريق الإصلاح أو الثورة .
ومن أمثلة التأثر الرومانسي نذكر القصص التاريخية التي ألفها جورجي زيدان فهو يقفو في منهجها الفني أثر ولتر سكوت في القصة التاريخية الرومانسية في أوربا ، وقد كان زيدان يقرأ سكوت قراءة واعية هاضمة .
ويمثل النزعة القومية العاطفية والوطنية محمد فريد أبو حديد ، وعلي أحمد باكثير ، وغيرهما من كتاب القصة التاريخية المستمدة من التاريخ الفرعوني أو الإسلامي .
وأخيراً أخذت القصص العربية الحديثة تتأثر بالاتجاهات الواقعية والفلسفية للقصص العالمية، وحسبنا أن نذكر قصة (أنا الشعب) لمحمد فريد أبو حديد، وقصة (عودة الروح) لتوفيق الحكيم، وقصة (الأرض) لعبد الرحمن الشرقاوي.
وقد اتخذ نجيب محفوظ شخصيات بعض قصصه من نماذج طبقات وأجيال مصرية متعاقبة مثل الثلاثية وغيرها ، وهو متأثر في بدايته بكتاب أوربا، لأن أول من أرخ في قصصه لنماذج طبقات وأجيال متعاقبة هو الكاتب القصصي الفرنسي/ بلزاك في مجموعته القصصية (الملهاة الإنسانية)، وبهذا يمكن الوقوف على نقاط التلاقي التاريخية بين الأدب العربي الحديث والآداب العالمية الحديثة، في القصة وغيرها من الأجناس الأدبية .
رأي ودعوة:
وبعد، فمما سلف يتضح من إشاراتنا المتكررة إلى مظاهر التجديد، أن هذه المظاهر على ما لها من قيمة ، وعلى ما استتبعه من جهد كبير محمود من كبار الكتاب العرب الذين وصلوا الأدب العربي الحديث بالآداب العالمية، على الرغم من ذلك فإن الأدب الحديث عند العرب لم يتبع تياراً فنياً متكاملاً، واضح القسمات والسمات والمعالم، ولم تدعمها فلسفة تمثل الاتجاه الفكري للعصر الذي نحياه.
ولم يضع مؤلفو الآداب العربية نصب أعينهم جمهوراً خاصاً يشاركونه آلامه وآماله، ويؤمنون بمثله إيمانهم بذات أنفسهم ، وتلك هي النواحي التي استحقت بها نزعات التجديد العامة الأوربية أن تسمى مذاهب أدبية أو فنية.
نقطة أخرى نراها على جانب كبير من الأهمية، ألا وهي حاجة الكتاب العرب للتعمق والإيمان برسالة الأدب القومية والوطنية، ودوره في البناء والتنمية والنهوض والارتقاء.
* ثم تأخر النقد الأدبي الحديث في الساحة الأدبية العربية ، وذلك لرزوحه تحت عباءة ما ورثه العرب من نقد قديم ، أو لتشدق بعض النقاد بنظريات نقدية لا تتفق مع الأدب العربي ، ولا مع الواقع الأدبي العربي بوجه عام .
استمر في القراءة المذاهب الأدبية الغربية والأدب العربي الحديث بقلم/ د. يسري عبد الغني عبد الله